مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

تشرشل.. حينما يكون السياسي أديباً ومفكراً وفناناً

أديب، وكاتب، وصحفي، ومؤرخ، وروائي، وخطيب مفوه، ورسام. حاز جائزة «نوبل» في الأدب عام 1953 لكتاباته التاريخية، وتحقيقاته الصحفية، وسِيَره الذاتية. أول من تمنحه الولايات المتحدة «المواطنة الفخرية». كان «رجل دولة بارز، ومن أبرع السياسيين البريطانيين، وصناع التاريخ الكبار». جاء أداؤه السياسي متعانقاً مع الأدب، وأطَّر مواقفه السياسية بالفكرة الأدبية، واللمحة الثقافية، فلديه «ولاء كبير للغة، فالكلمة هي الشيء الوحيد الذي يبقى للأبد».
السير «ونستون ليونارد سبنسر تشرشل»
 Sir Winston Leonard Spencer-Churchill» 1874 - 1965» رئيس وزراء المملكة المتحدة ما بين 1940 - 1945 «إبان الحرب العالمية الثانية».  كانت خطب وخطابات ذلك السياسي الداهية، وقائد الحرب إلهاماً لقوات الحلفاء. ولم يخضع لتهديدات الزعيم النازي «أدولف هتلر»: (لا نريد محاربتك، بل استسلامك). فلم ينصع وقاوم مع الحلفاء حتى النصر. فكان أول من أشار بعلامة النصر «V» بأصبعيه السبابة والوسطى. ثم تولى ثانية رئاسة الوزارة البريطانية ما بين 1951 - 1955.
 ولد «ونستون» في قصر «بلنهايم» بمقاطعة أكسفوردشير في إنجلترا. وينحدر من سلالة عائلات الدوقات الأرستقراطية بمارلبورو، وهي أحد فروع عائلة سبنسر الأشهر ببريطانيا. كان والده أحد أبرز الساسة ذوي الشخصيات الكاريزمية، وقد تولى منصب وزير الخزانة آنذاك. أما والدته «جيني جيرودر» فكانت عضواً بارزاً في المجتمع الأمريكي في تلك الآونة. وبدأ «ونستون» مشواره التعليمي في دبلن، فبدأت مُربيته كان يدعوها «الرحم القديم» بتعليمه القراءة، والكتابة، والحساب. ثم تلقى تعليمه النظامي في ثلاث مدارس: مدرسة سانت جورج، باسكوت، ومدرسة برونزويك، ومدرسة هارو. ولم تمض أسابيع من التحاقه بالمدرسة الأخيرة حتى انضم لـ»سلاح بندقية هارو». وعمل ضابطاً في سلاح الفرسان. ثم نُقِل إلى مصر عام 1898 ليلتحق بسرية عسكرية كانت تعمل في السودان، وشهد ثورة الدراويش، وحرب البوير، وأُسر وهرب.
نوبل في الأدب (1953)
 كان هذا السياسي البريطاني المُحنك غزير الكتابة. و»مهووساً» بتأليف الكتب والروايات، بالإضافة لسيرتين ذاتيتين، ومذكراته، والعديد من كتب التأريخ، والمقالات الصحفية. وهو رئيس الوزراء الوحيد الذي يحصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1953. ففي خريف 1953 أنجز «تشرشل»، رئيس حكومة صاحبة الجلالة «اليزابيت الثانية»، كتابه الأشهر «مذكرات حول الحرب العالمية الثانية». ونشره في ستة مجلدات، يتألف كل مُجلد من جزأين، فبلغت صفحاته ستة آلاف صفحة. وكان قد بدأ كتابة تلك الصفحات منذ عام 1948 بين حقبتي توليه رئاسة الحكومة. واستكمل مشروعه «التاريخي»، بعد اختياره عام 1951، لتشكيل حكومة جديدة. وظهر الكتاب في مجموعه كيوميات ميدانية، ومذكرات، ووثائق، وإشارات، وبرقيات متنوعة تدعم النص: (ربما كنت الشخص الوحيد في موقع السلطة الذي عاش أكبر كارثتين بشريتين، خلال النصف الأول من القرن العشرين). أما العمل الآخر الذي نُشر بعد توليه رئاسة الوزراء للمرة الأولى هو «تاريخ الشعوب الناطقة بالإنجليزية» أربعة مجلدات عن فترة غزوات قيصر لبريطانيا (55 ق.م.)، وحتى بداية الحرب العالمية الأولى 1914.
 ومن أوائل ما كتب: «حكاية قوات مالاكاند الميدانية» (1898)، و»حرب النهر» (1899)، و»من لندن إلى ليدي سميث عن طريق بريتوريا» (1900)، و»مسيرة إيان هاملتون» (1900)، و»لورد راندولف تشرشل» (1906 - 1907)، و»الليبرالية والمعضلة الاجتماعية» (1909)، و»أزمة العالم» (أربعة مجلدات، 1923 - 1929) الخ. ورغم حياة الشهرة التي نعِم بها «تشرشل»، إلا أنه عانى كثيراً للحافظ على مستوى معيشته المُترفة. فقبل عام 1946.. كان نواب البرلمان يتقاضون راتباً شكلياً فقط. في حين لم يتقاضوا شيئاً على الإطلاق قبل قانون عام 1911. ومن ثم اضطر معظمهم للعمل في مهن أخرى. كان دخل «تشرشل» منذ كتابه الأول 1898 وحتى ولايته الثانية كرئيس للوزراء يعتمد كلياً على مؤلفاته، ومقالاته الصحفية. وأشهر مقالاته الصحفية تلك التي ظهرت في صحيفة «إفنينج ستاندرد» عام 1936، التي حذر فيها من صعود نجم هتلر، ومخاطر سياسة الاسترضاء. وذاع صيته كأشهر المراسلين الحربيين لدى العديد من الصحف اللندنية.
 وكانت ثلاثينيات القرن العشرين (1929 - 1939) من أكثر العقود التي عكف فيها على الكتابة. وأعانته كتبه التي حققت مبيعات كبيرة في التغلب على مشاكله المالية، وتغطية نفقاته العالية. غير أن نهاية هذا العقد شهد اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتصاعد الخطر النازي الألماني ما أرغمه على التوقف نسبياً عن ممارسة عشقه للكلمة المكتوبة. وبات هذا التوقف الاضطراري عن الكتابة سبباً مهماً من أسباب كراهيته لهتلر. وكثيراً ما ردد: (إنني أهوى ببساطة كل ما هو متقن، وذوقي يتجه نحو الأفضل.. والأفضل يكلف كثيراً).
خطيب مفوه.. «صائغ في مملكة الكلمة»
 كان أسلوب خطابته مُذهلاً في «الدفاع عن القيم الإنسانية السامية». وكانت موهبة علاقته بالكلمات التي يكتبها ويُلقيها بالغة الخصوصية «صائغ في مملكة الكلمة». واعتبرها الضمانة التي تكفل خلوده. بينما شكَّل اهتمامه غير العادي باللغة الإنجليزية ودورها في العالم جانباً مهماً من تفكيره وتوجهاته الثقافية العامة.
 ومن أهم عباراته التي ألهبت مشاعر الإنجليز لمواجهة النازية ما قاله أمام مجلس العموم يوم 13 مايو 1940: (ليس لدي ما أقدمه سوى الدم والدموع والعرق.. أمامنا محنة من أخطر المحن وأمامنا أشهر طويلة من الكفاح والمعاناة.. هل تسألوني ما هي سياستنا؟ أستطيع أن أقول: إنها خوض الحرب، في البحر، في البر، في الجو، بكل قدرتنا وبكل قوة سيبعث بها الله لنا: سنخوض حرباً ضد طاغية متوحش، لم يسبق له مثيل في ظلاميته، قام بأبشع جرائم الإنسانية. هذه هي سياستنا. أنتم تسألوني ما هو هدفنا؟ أستطيع أن أجيب بكلمة واحدة: إنه النصر، النصر بأي ثمن، النصر في مواجهة الخوف، النصر، على الرغم من أن الطريق قد يكون وعراً طويلاً، ولكن دون النصر، لا وجود لنا).
 ومن الجدير بالذكر أن «تشرشل» كان مصاباً «بلثغة قاسية» لزمته طوال حياته العملية. ووصف «تشرشل» تلك اللعثمة بـ»عائق الحديث»، التي حاول دوماً التخلص منها. وصُمم طقم أسنانه الاصطناعية خصيصاً لمساعدته في الخطابة بشكل سليم. وبعد سنوات من الخطابات العامة التي أعدت بعناية لإلهام الجمهور، ولتجنب التلعثم، استطاع «تشرشل» القول: (العقبة ليست عائقاً).
من أقواله الشهيرة
 (إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقل)، (إذا فتحنا خصاماً بين الماضي والحاضر فسوف نفقد المستقبل)، (المسؤولية ثمن العظمة)، (حين تصمت النسور، تبدأ الببغاوات بالثرثرة)، (الشخص المتواضع هو الذي يمتلك الكثير ليتواضع به)، (من الجيد أن تكون صادقاً، لكن من الضروري أيضاً أن تكون على حق)، (لديك أعداء؟ عظيم...هذا يعني أنك في أحد الأيام وقفت مدافعاً عن شيء ما)، (إذا كنت ترغب بحق في اكتشاف بحار جديدة، يجب عليك أن تتحلى بالشجاعة اللازمة لمغادرة الشاطيء)، (النجاح هو أن تمر بفشل وراء فشل دون أن تفقد حماستك)، (الذكي من لا يرتكب كل الأخطاء بنفسه، بل يترك الفرصة لغيره)، (المتشائم يرى محنة في كل منحة، والمتفائل يرى منحة في كل محنة)، (المتعصب من لا يستطيع أن يغيّر رأيه، ولا يريد أن يتغير موضوع الحديث)، (إن الحقيقة محسومة. الرعب قد يستاء منها، والجهل قد يسخر منها، والحقد قد يحرفها، ولكنها تبقى موجودة)، (سر الحقيقة ليس فعل ما نحب، بل أن نحب ما نفعل)، (الوطن شجرة طيبة لا تنمو إلا في تربة التضحيات وتسقى بالعرق والدم)، (في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم هناك مصالح دائمة)، (إن السياسي الجيد هو ذاك الذي يمتلك القدرة على التنبؤ، والقدرة ذاتها على تبرير لماذا لم تتحقق نبوءته)، (أسير الحرب هو رجل يحاول قتلك ولا يستطيع، ومن ثم يسألك ألا تقتله)، (أهم إنجاز حققته في حياتي عندما أقنعت زوجتي بالموافقة على الزواج مني).
تشرشل.. رساماً
 استهوى الرسم «تشرشل» منذ عام 1915 بعد تخليه عن منصب أميرال البحرية البريطانية. ولعب الفن دوراً مهماً في حياته، وساعده في تجديد قواه الداخلية، لمواجهة العواصف العاتية، وتخطي التقلبات القاسية في حياته السياسية. واعتبره وسيلة للتخلص من نوبات الاكتئاب التي صاحبته. تعلم تشرشل الرسم من صديقة «بول ميز» الذي قابله خلال الحرب العالمية الأولى، وأصبح منذ ذلك الحين رفيق مشواره الفني. غلبت على لوحات تشرشل طابع الطبيعة، بألوان زيتية، وكان كثيراً ما يرسمها خلال عطلاته في جنوب فرنسا، أو مصر، أو المغرب. واتخذ تشرشل من «تشارلز مورين» اسماً مستعاراً، ورسم المئات من اللوحات، بعضها يعرض في منزله «تشاتول». وفي عام 1925، اختيرت لوحته عن «شروق الشمس في فصل الشتاء» كأفضل لوحة في مسابقة للفنانين الهواة المجهولين. ونظراً لضيق الوقت، حاول تشرشل رسم لوحة فقط إبان الحرب العالمية الثانية. وأكمل رسم لوحة تضم برج فيلا تايلور في مراكش. ويمكن مشاهدة بعض لوحاته في موسوعة ويندي و إيمري رفيس في متحف دالاس للفنون.
 وحصلت بريطانيا على 37 لوحة رسمها «تشرشل» في مقابل ضرائب مستحقة على ورثته، بلغت قيمتها 9 ملايين، و 404 آلاف، و 990 جنيهاً إسترلينياً، بعد وفاة ابنته. وكانت الليدي «ماري سوامس» «توفيت عن عمر ناهز 91 عاماً»، آخر الباقين على قيد الحياة. فيما اعتبر رقماً قياسياً للوحات «فنان مبتدئ» بيعت في صالة مزادات سوذبي في لندن لوحة لتشرشل بعنوان View of Tinherir بمبلغ 1.2 مليون دولار. وهو رقم قياسي لأعمال تشرشل الفنية. وكان «تشرشل» بناءً ماهراً، يهوى تشييد حوائط المباني والحدائق بمنزله الريفي في «تشارتويل». وانضم لاتحاد عمال مهنة البناء، لكنه سرعان ما طُرد بسبب عضويته في حزب المحافظين.
جوائز وشهادات
 في عام 1945 رشحه «هالفدان كوت» من بين سبعة مرشحين لجائزة نوبل للسلام، لكن وقع الاختيار على «كورديل هال». وحصد حائزة «نوبل» في الأدب عام 1953. وفي استطلاع لمليون مُصوت أجرته البي بي سي عن «أعظم مئة بريطاني»، أعلنت أنه «أعظمهم جميعاً». وصنفته مجلة «التايم» كأكثر القادة المؤثرين في التاريخ. وتكريماً له.. أُنشئت كلية «تشرشل» بجامعة كامبريدج عام 1958. ومنحته الولايات المتحدة الأمريكية عام 1963 شرف «المواطنة الفخرية». وأمام مجلس العموم واللوردات، وخلال زيارته لبريطانيا.. أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق «بيل كلنتون» في 29 نوفمبر 1995: بأن المدمرة «Arleigh Burke-class» سيتم تسميتها باسم «The USS Winston S. Churchil. وهي المرة الأولى التي يطلق فيها اسم مواطن أجنبي على سفينة حربية منذ عام 1975.
 أما الشهادات الفخرية فقد حصل «تشرشل» علي دكتوراه في القانون، جامعة روتشستر، 1941، ودكتوراه في القانون، جامعة هارفارد بمدينة كامبريدج، بولاية ماساتشوستس، 1943، ودكتوراه في القانون، جامعة مكغيل، مونتريال، كندا، 1944، ودكتوراه فخرية، جامعة ويستمنستر، فولتون، ميزوري، 5 مارس 1946، ودكتوراه فخرية، جامعة ليدن، هولندا، 1946، ودكتوراه فخرية، جامعة ميامي، فلوريدا، 1947، ودكتوراه فخرية، جامعة كوبنهاجن، الدنمارك، 1950.
«تشرشل» في السينما والتلفزيون
 جُسدت شخصية «تشرشل» في العديد من الأعمال الفنية مثل: «أمريكي في باريس» (1951)، «الرجل الذي لم يكن» (1956)، «سنوات البسالة» (1961)، «ونستون الصغير» (1972)، «السيدة راندولف تشرشل» (1974)، «إدوارد والسيدة سمبسون» (1978)، «تشرشل والجنرالات» (1979)، «حياة ديفيد لويد وعصره» (1981)، «سنوات البرية» (1981)، «الحرب وذكراها» (1989)، «الحرب العالمية الثانية: عندما تزأر الأسود» (1994)، «هيروشيما» (1995)، «حصاد العاصفة» (2002)، «العد التنازلي ليوم النصر» (2004)، «أوغاد مجهولون» (2009)، «في العاصفة أو تشرشل في الحرب» (2009)، «دكتور هو»، «زفاف نهر سونج»، «باندوريكا تفتح»، «النصر لدالكس» في الأعوام (2010 - 2011).
صورته على عملة ورقية
 أعلن البنك المركزي الإنجليزي أن صورة الزعيم البريطاني الراحل «ونستون تشرشل» ستطبع على عملات ورقية يبدأ تداولها بحلول عام 2016. وسيكون بذلك أول زعيم بريطاني حديث تطبع صورته «بورتريه التقط لها عام 1941 في أوتاوا بواسطة المصور يوسف كارش» على ظهر العملة الورقية «فئة 5 جنيهات». بالإضافة لمقولته الشهيرة أمام مجلس العموم عام 1940: (لا أعدكم إلا بالعرق، والدم، والدموع). وقد تم اختيار «تشرشل» ليس فقط بصفته «رمزاً» بريطانياً لكن بصفته أديباً رائعاً، ورجلاً كانت مهنته الكتابة، ووظيفته السياسة.

ذو صلة