مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

التنين في الثقافات والفنون والآداب أسطورة القوة والغيب والرعب!

التنين DRAGON مخلوق تخيلي تردد ذكره قديماً وحديثاً. أبدع الأدباء في تصويره كرمز للخطر الآسيوي الأصفر الزاحف للغرب، أما صورته الجسدية المتخيلة، فتنوعت لثراء الخيال وخصوبته، رغم بعض خصائص مشتركة أوضحت أن صورته اتخذت شكل ثعبان، أو تمساح، غطتها حراشف، أقدامها الأمامية ورؤسها تشبه أقدام ورؤوس الأسود أو النسور، ومعظمها بأجنحة. أول صورة للتنين وردت في أساطير (نشأة الكون)، وصراعات الأبطال. بمرور الزمن تكونت أساطير وردت فيها صورته الوحشية. الآن رغم التطور العلمي، لم تزل تطفو على الساحة الإعلامية من حين لآخر، لعل منها ادعاءات ظهوره عام 1978م بإحدى قرى الهند، رغم أنه وحش من وحي الخيال الشعبي، لا وجود حقيقي له!


المعتقدات والمعارف الشعبية
 تنوعت الصورة الرمزية للتنين، بتنوع أساطيره، فكان في الصين القديمة رمزاً للخير، والقوة، والماء، فاحتفوا به في الأعياد، ولقب الإمبراطور (بالتنين الذهبي)، وفي الخامس من مايو يقام سنوياً (مهرجان الماء)، احتفالاً بالتنين، لاعتقادهم أنه سكن أعماق البحار. في الشرق الأقصى كان رمزاً للشمس، والقمر. في الهند اعتقدوا أنه يتسبب في الفيضانات. في اليابان استمد الإمبراطور سطوته منه، فالتنين الأصفر الذي خرج من نهر (لو) نصب الإمبراطور حاكماً. في فارس، وبلاد الرافدين، والثقافات المسيحية كان التنين رمزاً للشر. في مصر القديمة كانت صورته مثل الثعبان. من ناحية أخرى قد تكون الكتابات المصرية، والسومرية القديمة عنه، سبباً في نشأة أساطيره، التي انتشرت شرقاً إلى الصين، وغرباً إلى اليونان وأوروبا، ثم الجزر الإسكندينافية، والأمريكتين. في أمريكا الشمالية اعتقدوا أنه شيطان عارض الله أثناء الخلق، فعذبه في الماء، وسكنت روحه ثعابين. في أمريكا الجنوبية اعتبروه شبحاً. في الغابات الأمريكية عثر العلماء على هياكل عظمية بلغ طولها ثلاثة أمتار عززت تخيلاتهم، فاتفقوا على تسميتها بالإنجليزية Komodo Dragon. في الأساطير الجرمانية والإسكندينافية، مثل التنين الحية التي طردها (أودين) إلى الظلام الكوني المحيط بالأرض. في المكسيك رمز إلى روح الأرض، متجسداً في صورة إنسان، أو ثعبان ذي ريش، وربطت بعض المعتقدات بينه، وبين الثعبان. ولعبت سطوة الأماكن الخطرة دوراً كبيراً في خوف الإنسان من الوحوش بشقيها المعلوم والمجهول، مما هيأ عقليته لواقعية التنين، وأخطاره، وحمايته للمجاهل التي سكنها. جدير بالذكر توظيف رمز التنين في الخرائط الفلكية للدلالة على (كوكب التنين)، حيث أشارت رأسه لمناطق الخير، بينما أشار ذيله لمناطق الجدب. في التنجيم سمي التنين (الثعبان القديم)، واعتقد المنجمون أنه أغرى حواء بالأكل من الشجرة المحرمة، وانعكس ذلك في قراءتهم للطالع. في الكيمياء قديماً اعتبر التنين رمزاً لمادة Prima Material اللازمة لإطالة الحياة، وتحويل المعادن إلى ذهب. كما لعب في معظم الحضارات القديمة دور حارس الكنوز وحامي البلاد خصوصاً في الآثار الصينية، والفرعونية. في الحضارة العربية ورثت من العصور الصفدية والساسانية، تراثاً فنياً وثقافياً عريقاً، وترجمت قصص، مثل (الشهنامة)، وغيرها، التي وظفت صورة التنين. وقام مفكرو العرب الموسوعيون بتدوين روايات ومشاهدات الرحالة والبحارة له في الكثير من الكتب. فجاء وصفها في كتاب (رحلات سليمان) وهو مخطوط ترجمه ونشره بالفرنسية الراهب الفرنسي جان رينودو عام 1718م. أوضح المسعودي في (مروج الذهب) أنه محض خيال، رغم صحة بعض آراء ومشاهدات جزئية لحيوانات فعلية غيره، جامعاً، ومحللاً الحقائق والأوهام، تاركاً للعقل تحديد الواقعي والخيالي، بعد تفسيره للكثير من الأبعاد والتعليلات. وفي كتاب (عجائب المخلوقات) للقزويني، دون بعض الروايات والمشاهدات التي شبهته (بأفعوان البحر الكبير) الذي وصفه البحارة والعلماء، ودونوا ملاحظاتهم ورسومهم المقتضبة التي حين ضمت لبعضها البعض، كونت شكلاً متخيلاً لحيوان غريب لا يشبه الحيتان، أو القروش، رغم جسد ضخم طويل، برزت بمقدمته بروزات طويلة كالأذرع، في حين أكد العلماء أن الأمر لا يتعدى، جماع رؤية البحارة لأجزاء: رأس حوت- جسم قرش- أذرع أخطبوط ضخم. في حين حلل الجاحظ في كتاب (الحيوان) ج4، ما اعتمل في العقل الشعبي الكلاسيكي حول روايات التنين، من خيالات، عارضاً لإعصار أنطاكية -الذي ذكره ياقوت الحموي- ورأى أن ما حدث به، ثبت صورة التنين في المخيلة، فجسد بصورة حية أو ثعبان، تفسيراً للأوصاف الملتبسة.


الآداب الشعبية
اتخذ التنين في الأساطير والسير والحكايات الشعبية العربية والعالمية، العديد من الصور والرموز والمعاني، وامتزج المتخيل بصور العمالقة والغيلان ذوي الرؤوس المتعددة الذين ينفثون النار، وإن دار في مجمله حول الطبيعة والقوى المجهولة، وصراعات الخير والشر، وربما كانت حاجة الإنسان لقوة تحميه يلجأ إليها وقت الأخطار، دافعاً لابتكار الصورة الخارقة للتنين، لدرجة قدمت له قديماً العذراوات كقرابين! ثمة حكاية شعبية عن فارس قتل التنين وقطع رؤوسه وألسنته، فكوفئ بالزواج من أميرة. أشهر الروايات الشعبية (قصة القديس جورج والملك آرثر). وفي بعض الحكايات جسد التنين الشيطان. وتروي (أسطورة الحسناء والتنين) حكاية دانيال وهو يقتل التنين. توجد أدلة أن أسطورة التنين تجمعت أولاً في بابل من عناصر مصرية، انتشرت فيما بعد على نطاق واسع في الهند والصين، ثم في اليونان، ومنها انتقلت إلى أوروبا. وتعتقد بعض الشعوب كالصين، أن التنين ليس شريراً، وأنه خير، فابتهلوا إليه وقدموا له الهدايا، حيث يلعب دوراً بارزاً في احتفالاتها بالعام الجديد، التي عادة ما تقدم فيها تمثيليات صامتة، وتطلق طائرات ورقية تحمل صورة التنين. في الإنياذة ظهر التنين في أشعار فرجيل كحارس للطلسم الذهبي، حتى لا يحصل عليه (إيناس) البطل الملحمي. في سيرة (سيف بن ذي يزن) أورده مبدعها الشعبي في صورة (الهايشة) التي اعتلى البطل ظهرها نائمة، وعند الفجر تحولت بجسدها نحو الشمس فنقلته للشاطئ الآخر، وهي القصة الشبيهة بحكاية (جان شاه) في (ألف ليلة وليلة) لكن التنين اتخذ فيها شكل حية بحرية ضخمة ذات أجنحة، لم تشعر بتسلق البطل لجسدها وهي نائمة، وحين أشرقت الشمس حملته إلى بلاد أخرى عبر البحار. وهي تقريباً نفس العوالم والموتيفات التي أوردها المسعودي في (مروج الذهب) بحكاية عمران الذي عبر البحر متعلقاً بظهر دابة بحرية ضخمة، إضافة لتفنن المبدعين الشعبيين في التعبير عن الصور المختلفة للتنين خلال الكثير من الأشعار، والحكايات والسير الشعبية.


فنون المعمار والتشكيل
استلهمت صورة التنين، في النقوش والرسومات وتشكيلات المعادن. وفي عالمنا العربي صورة شعبية للإمام علي -رضي الله عنه- مقاتلاً التنين. إضافة للصورة القبطية الشهيرة لمار جرجس راكباً جواده ملقياً بالتنين تحته، بينما ينفد رمحه بجسد التنين. اقترنت عادة رسوم التنين برسوم الأفاعي، واستخدمت كطلاسم زخرفية لحماية المدن، ففي قلعة حلب توجد زخارف تنينية بارزة على بواباتها، أشهر أبنية هذا المعتقد (باب الطلسم) في بغداد، وعليه عقد نقش بارز لرجل قابض على لساني تنينين مجنحين، رمزاً لانتصارات الخليفة العباسي الناصر. من معتقدات الحماية أيضاً، انتشرت رسومه في خانات الأناضول، لعل أشهرها: (خان السلطان)، والمدرسة الخاتونية. كما رسم مقترناً بالأسد، على مداخل العمائر الإسلامية والمسيحية، غرب الأناضول، وشمال بلاد الرافدين. هناك تحف تنينية عديدة، خصوصاً أدوات الصيد والقتال، كالخناجر، والسيوف، والأحزمة، إضافة لقطع الحلي، والزينة، كالخواتم والقلائد والأقراط، حيث ترجع أهميتها إلى الاعتقاد في حمايتها من شرور التنين، وهي الأغراض نفسها لرسوم الأواني لحماية صناعها، ومقتنيها، إضافة للأدعية، والأقوال المأثورة. أشهرها (الصولجان) وكان حامله جزءاً رئيساً من حراس السلاطين السامانيين، والغزنويين. وتوجد مطارق تنينية للأبواب، أشهرها مطرقة باب الجامع الكبير المحفوظة بمتحف الفنون التركية والإسلامية. نقشت صوره أيضاً على مقدمات، ورايات السفن، وعلى المسكوكات والكتب. ولارتباط التنين بالمياه شكلت صنابير على هيئته. وصف ابن الرزاز الجزري في كتابه (معرفة الحيل الهندسية) تقنية عمل آلة متحركة بإبريق لغسل الأيدي ظهر في رسوم أقدم المخطوطات التي وصلتنا، أن صنبور الإبريق صنع على شكل التنين. باستمرار الخطأ البشري استمرت أساطير التنين، ولم يكن صراع الإنسان مع ذلك الوحش المتخيل إلا انعكاساً لصراعات الإنسان الداخلية، فكما كان التنين رمزاً للشر، كان إلهاً يعبد! ثم اتخذ شكل القضيب، كرمز للخصوبة، تطور بعدها إلى حية بسبعة رؤوس ابتلعت الوحوش والحيوانات الضخمة، ولا تزال منحوتاته القديمة توجد إلى الآن!

ذو صلة