مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

هل ثمة فلاسفة عـرب?.. نظرة تاريخية

التساؤل هو حول حقيقة: هل ثمة فلاسفة عرب؟ نعم كان لدينا فلاسفة عرب في حقبة العصر الوسيط. ويمكن إيضاح الإجابة عن السؤال من خلال نظرة تاريخية: حيث دخلت كتب الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي من خلال الترجمات التي قام بها المأمون من خلال نخبة من المترجمين المسيحيين في الحضارة العربية، وكان الفقهاء المسلمون مناوئين لنقل الفلسفة، ورافضين لها، ومن أوائل من حذر من الفلسفة الإمام الشافعي (ت204هـ) والذى نقل عنه قول بأنه ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطو، ولذا كان أول تحذير من الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو نبع من الفقهاء أولاً.
ولكن الفلسفة ظهرت على يد أول فيلسوف عربي وهو أبو يوسف الكندي، وكان صاحب ثقافة موسوعية، ولأن الفلسفة ظهرت في أرض الدين فكتب الكندي (رسالة إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى) يبرر مشروعية الفلسفة فيقول: إن الفلسفة هي علم الحق الأول، وعلم الربوبية، وأننا ينبغي أن نأخذ عند القدماء من اليونانيين لأنهم سبقونا في ذلك، ولا ينبغي أن يقف اختلافهم في الملة في سبيل النقل عنهم، أو التعلم منهم. فالكندي يدعو إلى الانفتاح على الآخر المغاير لنا في الثقافة. ويهاجم الكندي الفقهاء ويعتبرهم أهل غربة عن الحق، لأنهم حين يهاجمون الفلسفة فإنما يفعلون ذلك ذباً عن كراسيهم المزورة التي نصبوها عن غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تاجر بشيء باعه، ومن باع شيئاً لم يكن له، ومن تجر بالدين لم يكن له دين، ويحق أن يتعرى من الدين من عاند الفلسفة لأنها علم الأشياء بحقائقها، وسماه كفراً.
وحمل لواء الفلسفة بعد ذلك أعلام من أمثال الفارابي (ت339هـ)، وابن سينا (ت428هـ)، وإخوان الصفا، وقد حاول بعضهم، وبخاصة الفارابي أن يوفق بين الدين والفلسفة عبر نظرية النبوة، وأن يُوحد بين النبي والفيلسوف باعتبار أن مصدر المعرفة واحد لديهما، وهو العقل الفعال. وكان ازدهار فلسفة ابن سينا، وإخوان الصفا؛ مرتبطاً بتطور الفكر الشيعي الذى يسعى دوماً إلى تقديم تأويل رمزي للعقيدة الإسلامية، وكانت الفلسفة إحدى وسائلهم في تحقيق هذا الهدف.
وحين تعرضت الفلسفة لضربة قاصمة من الغزالي الفيلسوف في أواخر حياته بسبب تحوله في كتابه تهافت الفلاسفة؛ تصدى ابن رشد بالرد عليه في كتابه (تهافت التهافت). وحاول تبرير مشروعية الفلسفة في كتابه (فصل المقال)، كما فعل الكندي في رسالته للمعتصم، وعاد ابن رشد يسأل ثانية: هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به على جهة الندب والوجوب؟ فيقول إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من وجهة ما هي مصنوعات؛ فإن الموجودات إنما تدل على الصنائع بمعرفة صنعتها، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وأن الشرع قد دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلب معرفتها فذلك بَيّن في غير ما آية من كتاب الله تبارك وتعالى، مثل قوله: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) الحشر: (2) (أوَلم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء) الأعراف: (185).
ولكن العقلانية الرشدية لم تجد من يستمر في مسيرتها، في الوقت الذي نبتت العقلانية الرشدية في أوروبا، وكان لهذه الفلسفة أصداؤها الكبيرة في النهضة الأوروبية. ومما سبق نلاحظ أن ازدهار الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية كان سائداً في فترات التسامح الديني، وفى مناصرة السلطة السياسية لها، فالفلسفة لا تنبت إلا في أرض التسامح، ولكن حينما يتحول التسامح إلى تعصب ورغبة في الإقصاء تتعثر الفلسفة كثيراً في أي أرض يسودها التعصب الديني، والاضطهاد السياسي. كما أن ازدهار الفلسفة في أرض التشيع قد ارتبط بتوظيف الشيعة لها في التأويل الرمزي للإسلام، ولم يكن غريباً أن تستمر الفلسفة في أرض التشيع -بعد وفاة ابن رشد- على يد صدر الدين الشيرازي، ومحمد باقر محمد حسين أستربادي (الميرداماد)، وقد انتهت الفلسفة في تلك الحقبة.
وعاشت الفلسفة في الحقبة العثمانية في مرحلة الشروح والتلخيصات، ولم يظهر فلاسفة مسلمين في تلك الحقبة، واستمر هذا الأمر حتى بزوغ شمس الحداثة على العالم الإسلامي مع مطلع القرن التاسع عشر، فبدأ يظهر جيل من المفكرين وليس الفلاسفة، فظهرت الحركة الإصلاحية على يد رفاعة الطهطاوي، وأحمد فارس الشدياق، والأفغاني، ومحمد عبده، وحسين الجسر الطرابلسي، ثم امتدت مدرسة الإصلاح الديني على يد أعلامها حتى منتصف القرن العشرين. كانت القضية الأساسية لدى مفكري هذه المدرسة هو كيف يمكن إصلاح الفكر الديني؟ ووفقاً لأي مسار؟
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر ظهر المفكرون دعاة التيار العلمي العلماني، مثل: شبلي شميل ثم سلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وكان هؤلاء يروجون لنظرية التطور كفلسفة اجتماعية، ويدعون لاتباع مسار الغرب في كل شيء، وكانوا يرون أن تاريخنا الحضاري القديم ليس له قيمة سوى قيمته التاريخية، ولكن ليس له أي قيمة في عصرنا لأن الحداثة الغربية قد تجاوزته، ولا بد لنا من السير في طريق هذه الحداثة، ولابديل لنا عنها.
وظهر التيار الليبرالي على يد أديب إسحاق، وأحمد لطفى السيد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وكانوا يرون إرساء دعائم النظام الليبرالي الذي يقوم على دعائم الحريات في كافة المجالات كالتعبير، والمعتقد، والتفكير، والإيمان بحرية الأفراد في كافة المجالات، وكان هؤلاء المفكرون يؤمنون بضرورة اتباع الغرب في كل شيء.
وبعد نكسة 1967 أمام إسرائيل عاد المفكرون العرب إلى ممارسة نوع من النقد الذاتي لأسباب الهزيمة، وانصبت معظم جهود المفكرين العرب إلى إعادة قراءة التراث القديم وفقاً للمناهج الحداثية في العلوم الإنسانية، وذلك من أجل إعادة النظر في علاقة الذات بتاريخها، فكانت هناك القراءات الوضعية، والبنيوية، والفينومولوجية، والماركسية، والتاريخية للتراث القديم، وهنا كانت جهود معظم الأعلام في تلك الفترة، مثل: جهود زكي نجيب محمود، ومحمد أركون، وعابد الجابري، وعبدالله العروي، ومحمد جابر الأنصاري، وحسين مروة، وطيب تيزيني، ومهدي عامل، وحسن حنفي، ونصر حامد أبوزيد، وعبدالمجيد الشرفي.. وغيرهم.
لقد تساقطت أوراق معظم هؤلاء المفكرين الذين امتدت جهودهم منذ منتصف الستينات من القرن المنصرم حتى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ونستطيع أن نقول إنه منذ مطلع القرن التاسع عشر وإلى الآن لدينا مفكرون وليس لدينا فلاسفة، مفكرون تتغير اهتماماتهم بتغير واقعهم التاريخي والاجتماعي. والفكر العربي الآن يعاني أزمة إبداع في ندرة المفكرين بعد تساقط أورق كثير من مفكرينا الذين رحلوا فى مطلع الألفية الثالثة.
ومن ثم يمكن القول بأنه كان لدينا فلاسفة أيام ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، لأن الفلسفة لا تنمو أو تزدهر إلا في ظل تقدم حضاري وفى ظل التسامح والحرية. وما حدث منذ بزوغ الحداثة في مطلع القرن التاسع عشر حتى الآن أن لدينا مفكرين يطرحون أفكاراً فلسفية، لكن أعمالهم لا ترقى إلى وجود ما يسمى بالنسق الفلسفي، أو الرؤية الكلية، كما كان موجوداً لدى الفلاسفة العرب قديماً.

ذو صلة