لم يكن السحر في العصور القديمة، يسيطر على العقول فحسب، بل كانت كلمته، هي العليا. وذلك، لأن الحضارة كانت لم تزل خلال تلك القرون في أطوارها: الجنينية، والطفولية. أعقب ذلك، مرحلة المراهقة الفكرية التي لم يكن البشر قد اكتشفوا أثناءها، ما يمكن أن يستعينوا به من الوسائل والأساليب الفعالة حتى يستطيعوا حل ما يكتنف الحياة من ألغاز، وما تشتمله الطبيعة من تقلبات مفاجئة وظواهر غامضة، وما يطرأ عليهم من مشكلات، وكيفية مواجهتها والتغلب عليها. فاستمروا في تكوين معتقداتهم حول الجن والسحر والخوارق. ولهثوا وراء رجال الدين، والدجالين والسحرة الذين ادعوا امتلاكهم للقدرة على التفسير والتغيير والعلاج لمشكلاتهم وأمراضهم. لتظهر لأول مرة في التاريخ، الوظائف: النفسية، والاجتماعية، والثقافية للسحر والسحرة. وهي الوظائف التي لم تزل قائمة حتى اليوم، رغم التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حققته الإنسانية في رحلتها التي لم تكتمل بعد.
اليوم، وبعد مرور قرنين، تقريباً، على إعلان العلماء: جيمس فريزر، روبرت تايلور، فون فيبر، لنظرياتهم المرجعية، عُبد هذا الطريق الوعر، ليتجلى لنا، أن: العلوم والتكنولوجيا والمخترعات هي السحر الحلال! وذلك، بعد أن كانت إشكالية السحر، تمثل تحدياً كبيراً أمام التفكير العقلي العلمي المنتج، في الوقت الذي كانت قد اتجهت فيه المجتمعات العالمية نحو نهضتها الصناعية، واجتاحتها الماكينات والمخترعات التكنولوجية بصورة قوية، ليبدو ذلك وكأنه قوة مدمرة، ما أدى لارتداد الشعراء والكتاب والفنانين الرومانسيين إلى الماضي الوثني الكلاسيكي الذي كان قد ازدهر في بيئة رعوية، في حين كانت آخر البوابات المؤدية حينها إلى ذلك العالم الساحر، هي: العواطف والذكريات والخيال. ما دفعهم للتعبير عن استيائهم إزاء ذلك القبح المادي. وطبقاً لأوين ديفيز في مرجعه القيم (السحر مقدمة قصيرة جداً)، (أدى ذلك لاندفاعهم في القرن 19 إلى قوة جديدة تبشر بعودة اهتمام الطبقة الوسطى بالمذهب الروحي، خصوصاً بعد أن انتابت بعض المجتمعات الصناعية، موجة من الإلحاد والأزمات الإيمانية والأخلاقية). وزعم البعض أنهم يتواصلون مع أرواح الموتى! هنا، أخضع السحر لإعادة التأويل. فانتقلت إلى الدين مجدداً، إمكانية التواصل مع الأرواح، بعدما اعتبرت خرافة. ووصفت عند البعض كعودة لعبادة الشيطان. بينما اعتبرها فريق ثان، تأكيداً على الحياة الأخرى. في حين اعتبرها فريق ثالث، خدعة لابد أن يعاد اكتشافها، مما دفع بالموضوع إلى ساحة التحقيق الديني والعلمي.
شياطين الماسونية
بعد سنوات من ابتكار التلغراف وإرسال أول رسائله، ظهر المذهب الروحي، حيث جعل هذا الإنجاز العلمي من فكرة التواصل مع عالم الأرواح، فكرة معقولة بشكل أكبر سواء بين ذوي الخلفيات الدينية أو ذوي الخلفيات العلمية! وأدى ذلك إلى إجراء المزيد من الدراسات العلمية. فقام، مثلاً، عالم الهندسة الإلكترونية كرومويل فارلي (1828 - 1883م) بلعب دور رائد في اخترع نظام التلغراف العابر للمحيط الأطلنطي. ثم صار يؤمن، بوجود تلغراف كهربائي مغناطيسي للروح! فهو لم يكن قد توصل إلى هذا الاستنتاج، إلا بعد إجراء عدة تجارب علمية وليس نتيجة إيمان أعمى!
وخلال القرنين 18 و19، واصلت مجموعة من المثقفين غرباً، بحثها في كتب الحكايات والمخطوطات عما بها من أشكال السحر التي انتشرت من خلالها عبر القرون. وأسهمت الكتب التي نشرها ألفيس ليفي في إلهام مجموعة من الماسونيين البريطانيين بإنشاء أخويتهم السرية: (الفجر الذهبي)، حيث ابتكروا عدة طقوس دمجوا فيها السحر اليهودي المسيحي الذي انتشر في أوروبا القرون الوسطى المظلمة، مع الممارسات السحرية الشرق أوسطية، والآسيوية القديمة، والتي كانت أدلتها قد ترجمت حديثاً إلى الإنجليزية.
ومع نهاية ق 19، ظهرت أخويات ماسونية سحرية سرية أخرى في ألمانيا وفرنسا. وبظهور مذهب السيريالية، قام رواده بالتنظير للسحر من خلال استعانتهم بأبحاث الأنثروبولوجيا، والتحليل النفسي للحضارات الأخرى، حيث اعتبروا السحر، وسيلة/ منهج يقترب بهم من دراسة المجهول بطرق مختلفة عن الدين والعلم. كما اعتبروا السحر كذلك، تقنية مهمة في أعمالهم الفنية.
وفي بدايات ق20، كان التعامل مع المعتقدات والممارسات والتقاليد السحرية غرباً، بمثابة دراسة للعالم الحديث من خلال المعتقدات السحرية القديمة، مثّل ذلك، وعياً جديداً نبع من الرغبة في تحويل الحياة النفسية للمجتمعات والشعوب الأوروبية، ودفعهم إلى التغيير. من هذا المنطلق، اعتبروا الهدف الفعلي للسحر هو تحرير العالم من السحر! ولم ينحصر افتتانهم بالسحر في سياقاتهم وممارساتهم الحديثة. أما آليستر كروالي (1875 - 1947م) عضو جمعية (الفجر الجديد) الماسونية، الذي عرف بشخصيته السيئة، وكان لقباه: (الوحش الكبير)، و(أخبث رجل في العالم)، فقد سعى إلى أن يبلغ الافتتان بأهدافه، الذروة بين الناس، باستخدام السحر والجنس والمخدرات، بعد أن آمن أن رحلته مع تاريخ السحر وعوالمه، قد منحته من القوى السحرية ما يمكنه من السيطرة والتحكم في الآخرين وتوجيههم إلى غاياته المنشودة!
السحر الحلال
بدأ الاحتكاك بين السحر، والتكنولوجيا، من خلال بعض التأويلات السحرية، حول طرق عمل بعض التقنيات العلمية، والتي جردت من طابعها السحري في بدء ظهورها، ما أدى لنبذ الأشخاص والمجتمعات غرباً وشرقاً، لهذه التأويلات، دون أن يتبنوا التفسيرات العلمية للتكنولوجيا، فلم يدركوا طرق التقاط الأجهزة المعدنية للموجات غير المرئية التي تبث في الهواء، والكيفية التي تتحول بها إلى الأصوات الإذاعية والصور التليفزيونية، وأقبلوا على استهلاك تلك المخترعات فحسب، واعتبروها أشياء غير سحرية، لكنها ظلت، في نظرهم، أموراً تثير حيرتهم المعرفية، وإدراكهم القاصر.
الأمر الذي أدى إلى اختراقهم فكرياً، وإدخال بعض التأويلات السحرية بينهم، للكيفيات والطرق الغريبة التي تعمل بها هذه الأجهزة التقنية، خصوصاً أهالي القرى والمناطق المحرومة من نور العلم، فاعتبروا التقاط الصور بالكاميرا، بمثابة عمل يسحر الأشخاص بمقتضاه أو تتخطفهم الجن! وربما يكون تسمية صورة النيجاتيف المحروقة: (عفريتة)، بسبب تلك التأويلات، وذلك التفكير السحري! وقدمت الكاميرا الفوتوغرافية على أنها جهاز سحري، لتأكيد تفوق مبتكريها، وضمان وصولها، وترويجها بين المجتمعات الشعبية، فقام الرحالة جوزيف طومسون بانتحال شخصية معالج بشرق أفريقيا، حيث أخبر أبناء القبائل أن الصور التي التقطها لمحاربيهم، تزيدهم قوة سحرية وبسالة أثناء القتال! ورغم اكتشافهم بعد عقود للحقائق العلمية التي يقوم عليها التصوير بالكاميرا، ظل استخدامهم للصور جزءاً من ممارساتهم السحرية! فضلاً عن ترويجهم لفكرة أن تصوير الإنسان مع الكتاب المقدس، يبطل مفعول الأعمال السحرية! وانتشار ممارسات سحرية أخرى، روجت لكاميرات التصوير في أفريقيا وأوروبا وأمريكا حتى أوائل ق 20. لذلك يمكننا القول، إن الممارسات السحرية، اخترقت العلم وتدخلت في الابتكارات والمخترعات، حيث علقت التمائم والخرزات الزرقاء في السيارات، شرقاً وغرباً، حماية لها ولمالكيها من العين والحسد! وفي أمريكا، أدى تطوير تطبيقات التليفون المحمول، لقيام شركات الاتصالات بتسويق وبيع التعاويذ السحرية! فكما خدع الإنسان قديماً، من خلال إلهاء حاستي السمع والبصر بالدجل والشعوذة وخفة اليد والنصب، فإنه يمكن أيضاً، خداع العين من خلال أشكال تكنولوجية من حيل السحر البصري التي كانت تستخدم في إحداثة العدسات المنشورية والمرايا العاكسة، بهدف إخراج صور ظاهرية خادعة للعين في عصر النهضة الأوروبية، فيما سمي حينها: السحر الحلال، حيث كانت قد تطورت، منذ ق 17، تكنولوجيا العدسات، وأدى وضع مصدر للضوء داخل صندوق مظلم، فضلاً عن إنتاج الشرائح الزجاجية، إلى اختراع الفانوس السحري، فكانت إذا عرضت صور لهياكل عظم الإنسان، تبدو كعفاريت مثيرة مرسومة على الشرائح الزجاجية. وقد رويت قصص من سبعينات ق 17 تحكي كيف أن أشخاصاً كانوا في منتهى الشجاعة، هربت دماؤهم خلال مشاهدتهم لهذه الألاعيب والحيل السحرية. بحلول ق 18، كانت عروض الفانوس السحري تجوب العواصم والمدن، وبدا واضحاً أن بعض من قام بأدائها، لا يجد غضاضة في تقديمها كعروض سحرية حقيقية! أما الحواة في الأسواق والمهرجانات، فرغم اعتبارهم منذ القدم، أفاقين ومحتالين يستغلون سذاجة الفقراء، والبسطاء ثقافياً، إلا أنهم قاموا في ذات الوقت، بوظيفة اجتماعية إيجابية، فكانوا طبقاً لتوماس آدي: (شمعة في الظلام)، لدرجة أضاف معها النبيل الإليزابيثي ريجنالد سكوت (1538 - 1599م)، في معرض إعجابه بألعابهم، أنها: (ليست جيدة فحسب، بل كانت جديرة بالثناء أيضاً)! وذلك، لتفوق عروضهم الجماهيرية على التنظيرات اليائسة التي لطالما شككت في الخرافات. فضلاً عن إعراب لاعبيها صراحة عن مكمن وسر الحيلة، وبهذا أمكن التفريق بينها، وبين الحيل الأخرى الشريرة وغير المشروعة، واكتشاف أمرها وفضح سحرتها.
لكن هذا الدور التنويري الذي لعبه الحواة، والسيدات ذوات القدرات الخاصة، اللاتي يتكلمن من فروجهن، والرجال الذين يتحدثون من بطونهم، وسحرة المسارح، لم يلق قبولاً حقيقياً إلا في أواخر ق 18 وما بعده. بل وبلغوا مرتبة أصبحوا بمقتضاها، أساتذة علموا الجماهير. وتقلد بعضهم لقب: (بروفيسور)، ووصف آخرون بالفلاسفة، وعلماء الرياضيات، حيث كانوا متعهدي ترويح السحر العقلاني للمجتمعات. لدرجة أعلن معها الساحر الإسكتلندي المتكلم من بطنه، جون راني، الذي أثار ضجة كبيرة خلال جولته في أمريكا عام 1801م، معرباً عن رغبته في: (إزالة الغشاوة من فوق أعين من لا يزالون يعتنقون الإيمان الأحمق بالأشباح والساحرات واستحضار الأرواح والمس الشيطاني.. إلخ). ومن ثم دشنت الممارسات السحرية المسرحية، في أوائل ق 19، منتجاً معلوماتياً ترفيهياً مهماً ورئيساً في القاعات العلمية العامة، والتي أقيمت باعتبارها مشروعات تجارية. وقامت أكثرها شهرة في إنجلترا بالمعهد الملكي للفنون المتعددة، حيث قدمت شروحاً لعلم الخدع السحرية بجانب عروض وشروح عن الكهرباء والمحركات والفوانيس السحرية والتفاعلات الكيميائية والبصريات، وغيرها. وتسبب تضافر الجهود في هذا الصدد، في إثراء خيال العلماء والمخترعين وإلهامهم ومدهم بأفكار غير مسبوقة أفادتهم في تنظيراتهم وتطبيقاتهم الابتكارية.
وأدت التطورات الاجتماعية والثقافية الناجمة عن التقدم العلمي إلى تقليل أعداد اللاجئين إلى الممارسات السحرية، وخلقت الوسائل البديلة الفعالة في شتى مجالات الحياة، بحيث أفقدت السحر الأسود كثيراً من وظائفه الاجتماعية والثقافية، وتشكك المزيد من المثقفين والمتنورين في جدواه النفسية التعويضية وفي مجالات الطب والعلاج، والكشف عن اللصوص والأعداء، ومكافحة الحرائق واستعادة المسروقات، بيد أن كل هذا، لم يؤد لاختفاء الاعتقاد في السحر بشكل تام، بل بقيت الحاجة إلى ممارساته غير المرغوبة، لعجز البعض عن مواجهة مشكلاته النفسية والوجدانية، لاسيما الحالات التي لا يستطيع الطب علاجها.
ورغم أن السحر والطلاسم والتعاويذ والأرصاد وغيرها، تعود إلى الثقافات التي سادت العصور القديمة، إلا أنها استمرت مع الزمن، وتطورت، فاتخذت أشكالاً أخرى، طبقاً لحاجات وغايات الإنسان. ولم تزل تستخدم حتى اليوم، رغم التقدم العلمي المعاصر، لدرجة أصبحت معها هذه الممارسات، ظاهرة حية عبر العصور، ولم تزل المجتمعات الشعبية وغير الشعبية، تتحدث عنها بلغة قوامها، الرهبة والرغبة، وهناك قصص عجيبة وغريبة تروى آناء الليل وأطراف النهار عن العفاريت، والأرواح، والأشباح، خصوصاً الجن العاشق الذي يمس بعض النساء أو يصرعهن أو يتلبسهن ويأبى الخروج منها ويصيبهن بالمرض! أو يجعل سلوكهن غير مفهوم أو مقبول. وقد يصيبهن بالهوس أو غيره. فضلاً عمن تتلبسه جنية، وما قد ينتاب البعض من حالات غير طبيعية تجعل من يحيطون بهم، عاجزين عن فهم السبب فيما طرأ عليهم من تغييرات سلبية. أو ذلك الرجل الذي يعاني ضعفاً عقلياً، أو عجزاً جنسياً، لأن أعداءه سلطوا عليه الجن، فسلبوه قدرته! أو من يسقط/ تسقط في أزمة أسرية، أو مهنية، فلا يجد شماعة لفشله، أو موضوعاً يتسلى به ويبعث في نفسه العزاء، أو يتوهم علاجاً، سوى عند المخرفين والنصابين. فكلهم زبائن مضمونين. إن الواقع يمتلئ بقصص المخدوعين، والخادعين ممن يتخذون مظاهر التدين ستاراً لممارساتهم، حيث تتداول المجتمعات الشعبية وغير الشعبية قصصهم بشغف أحياناً، وباستنكار أحياناً أخرى.
وسيظل العلماء والباحثون، يدرسون هذه الممارسات، باعتبارها جزءاً من الحياتين: النفسية، والاجتماعية، وظاهرة من الظواهر التي يدرسها علما: الفلكلور، والأنثروبولوجيا، حيث يتوقفان طويلاً، أمام القيم الفكرية المترتبة عليها، والأنماط والاتجاهات الاجتماعية والنفسية السائدة في مجتمعاتها. فضلاً عما يدور من أحاديث عنها في مجالات: الزواج، والحب، والفشل، وغيرها. حيث تتناول هذه الأحاديث العجيبة: مدى سعادة الإنسان أو تعاسته، صحته أو مرضه. وذلك، بالقدر نفسه من الإيمان بالسحر، واستنكاره في ذات الوقت. وهذه هي المفارقة المضحكة المبكية في تفسير سلوك وشخصية الإنسان، ومشكلاته الفردية والأسرية الغامضة عليه، والظواهر والأحداث الجماعية غير المقبولة سواء في رؤيته القاصرة، أو داخل إطاره الاجتماعي الثقافي غير المتكامل الذي يعاني فيه، ويلات الحرمان من رحمة الله. لتظل تؤدي هذه الممارسات الضرورية، وظائفها: النفسية، الاجتماعية، الثقافية. بل وستظل تتحدد درجة وجودها وانتشارها، وفقاً لدرجة التقدم ومدى التحضر. فضلاً عن القدرة على تقديم البديل الفعال الذي يرتقي بالقيم الروحية والأخلاقية، ويحمي من الأفاقين، ويهدي من الضلال، ويغني عن الفقر الفكري!