مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

أسرار النجوم بين العلم والأسطورة

يعد علم الفلك من أقدم العلوم التي عرفتها البشرية، فقبل اختراع الكهرباء والأضواء، ومع غروب الشمس ودخول الظلام تدريجياً كانت السماء تبهر الناس بزينتها المتلألئة من النجوم البراقة المتناثرة على مد البصر، فكانت تؤنسهم في وحشة الليل وظلمته، ويتساءلون عن سرها ومصدرها وطبيعتها. ونظراً لعدم توافر الأدوات اللازمة لدراسة هذه الأجرام السماوية دراسة علمية في ذلك الزمن، أطلق الإنسان العنان لخياله، فتوهم أن هذه النجوم ترمز لشخصيات وعوالم أخرى وقام بنسج الأساطير حولها ليتداولها الناس من بعد ذلك جيلاً بعد جيل.

ولعل ما زاد الأمر تشويقاً أن عملية دوران الأرض حول نفسها تجعلنا نرى صفحة السماء بكل نجومها وهي تشرق من جهة الشرق وتتحرك باتجاه الغرب لتغرب هناك، فعلى سبيل المثال، لو قمنا برصد نجم ما الساعة العاشرة مساء ثم أعدنا رصده من جديد الساعة الثانية صباحاً، فسنلاحظ انزياحه باتجاه الغرب، وقد ساعد هذا الأمر الناس قديماً في معرفة الاتجاهات ليلاً فكانوا يهتدون بنجوم السماء ليصلوا إلى وجهاتهم. كما أن اختلاف طول اليوم الشمسي (الذي يقاس من ظهر يوم إلى ظهر اليوم التالي، والمعروف بكونه 24 ساعة) عن طول اليوم النجمي (المدة التي يستغرقها نجم بعيد ما لكي يظهر في نفس المكان في اليوم التالي) بما يقارب أربع دقائق يؤدي مع مرور الوقت إلى اختلاف النجوم التي نراها ليلاً باختلاف المواسم، فهناك بعض النجوم التي يمكن رؤيتها بالشتاء ولا يمكن رؤيتها بالصيف من نفس المكان والعكس صحيح.
ولهذا حاول بعض القدماء الربط بين الأبراج المختلفة (وهي أشكال معينة تصورها الأقدمون لمجموعات مميزة من النجوم الظاهرة في السماء) وبين الأشخاص الذين ولدوا في أوقات معينة من الشهر، فيفترضون أن من يولد في فترة محددة مرتبطة بموقع هذا البرج النجمي في السماء يتم تصنيفه ضمن مواليد هذا البرج. إلا أن هذه التصنيفات ليس لها أي أساس علمي، وذلك لأن النجوم التي تُكوِّن أشكال الأبراج المختلفة ليست متصلة ببعضها البعض فعلياً، ولا يوجد ما يربط بينها، فهي بعيدة جداً عن بعضها ولا توجد أي قوى تربطهم أو علاقة تجمعهم. لذلك فمن الخطأ أن نطلق لفظ العلم على هذا الأمر، فليس هناك علم أبراج، لأن العلم يكون مبنياً على ملاحظات وتجارب وقوانين قابلة للقياس والاختبار، ونظريات قائمة على الدليل والبرهان، أما ما يعرف بالتنجيم فهو قائم على مجرد خرافات وأساطير قديمة.
لكن وعلى الرغم من بساطة وسذاجة محاولات الإنسان لربط مصيره أو طبائعه وتصرفاته بنجوم تبعد عنا آلاف السنوات الضوئية، فإن هذا الأمر له دلالة عميقة وجوهرية، وهي أن الإنسان يتطلع دائماً إلى أمور غيبية تتجاوز حاجاته الجسدية اليومية، فروحه تشتاق لعالم آخر غير عالمنا المادي المحسوس، ما يجعله أسمى من كل الكائنات الأخرى. ومن هنا تميز علم الفلك عن غيره من العلوم الطبيعية البحتة بكونه يوفر غذاء للعقل والروح معاً.
فعلم الفلك علم دقيق قائم أساساً على قوانين الفيزياء المعروفة كالجاذبية والحركة والحرارة وغيرها من القوانين التي تسعى لتفسير خصائص الأجرام السماوية المختلفة وطبيعة حركتها من أجل فهم هذا الكون الفسيح الذي نحن جزء بسيط جداً منه، ولكننا في الوقت ذاته كلما اكتشفنا شيئاً من أسرار هذا الكون وتفاصيله الدقيقة المحكمة كلما ازددنا إيماناً بعظمة الخالق وقدرته ولسان حالنا يقول: (ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك).
فعلى سبيل المثال وحسب النظريات الحديثة يبلغ عمر الكون 13,8 مليار سنة تقريباً، وقد كان التركيب الكيميائي للجيل الأول من النجوم يتشكل من الهيدروجين والهيليوم مع نسبة ضئيلة جداً من بعض العناصر الخفيفة الأخرى، أي أن العناصر الكيميائية التي نعرفها اليوم كالكالسيوم والحديد والمغنيسيوم وغيرها لم تكن موجودة وقتها. هذه العناصر الكيميائية الجديدة تكونت في باطن النجوم نتيجة التفاعلات النووية، وعند انفجار هذه النجوم فإن العناصر الكيميائية الموجودة في باطنها تتناثر وتنتشر في الوسط المحيط بها لتصبح بدورها المادة الخام التي تتشكل منها نجوم أخرى جديدة، وهكذا فكل جيل من النجوم يكون أكثر ثراء من حيث التركيب الكيميائي من الجيل الذي سبقه. أما عمر مجموعتنا الشمسية فهو 4,5 مليار سنة، أي أنها حديثة الخلق مقارنة بعمر الكون مما يفسر احتواءها على هذا العدد الكبير والمتنوع من العناصر الكيميائية التي نعرفها اليوم.
إن معرفة هذه التفاصيل الدقيقة عن النجوم التي تبعد عنا آلاف السنوات الضوئية تتطلب أجهزة وتقنيات متطورة، مثل التلسكوبات الضخمة والحواسيب الإلكترونية الفائقة ذات القدرات الحسابية الهائلة، بالإضافة إلى النماذج الرياضية الدقيقة التي يتم إعدادها لدراسة الخصائص النجمية. وقد أدركت العديد من الدول المتقدمة أهمية دعم الأبحاث العلمية في هذا المجال وتوفير المعدات والبرمجيات اللازمة، فخصصت ميزانيات ضخمة للمراكز البحثية العالمية المتخصصة في إجراء البحوث والدراسات الفلكية، وقد تمكنت بتوفيق الله من المشاركة في مجموعة مهمة من هذه الأبحاث وتوليت قيادة بعضها بالتعاون مع عدد من أبرز المراكز البحثية العالمية المرموقة والتي يعمل فيها العشرات بل المئات من العلماء البارزين والباحثين المتخصصين من مختلف بقاع العالم.
وعلى الرغم من كون هذا النوع من الدراسات والأبحاث يعتمد التفكير العقلي ويتبع المنهج العلمي المستند إلى حقائق مادية/طبيعية بحتة، إلا أنه لا يخلو من جانب إيماني وروحي يدفعنا للمزيد من التفكر والتأمل في الكون من حولنا، وهذا ما يفسر كثرة الآيات القرآنية التي تدعونا إلى التفكر في خلق السماوات والأرض. فعلى سبيل المثال، دراسة أطياف النجوم التي تمكننا من معرفة تركيبها الكيميائي، تجعل الراصد يقر أن خالق السماوات والأرض واحد، سبحانه لا إله إلا هو، فما نراه في أطياف النجوم التابعة لمجرات عمرها قد يكون قريباً من عمر الكون، هي ذات الخصائص التي نراها في مختبر الكيمياء عند دراسة أطياف الغازات المختلفة، وقوانين الفيزياء التي استنتجناها هنا على كوكب الأرض، تنطبق كذلك على تلك النجوم على اختلاف أعمارها وأبعادها.
لقد تعلقت أرواح القدماء بجمال السماء وتساءلوا عن أسرارها وخفاياها، وتطلعوا لمعرفة مستقبلهم ومصائرهم من خلال مراقبة حركة أجرامها. إلا أن العلم الحديث اليوم يثبت أن دراسة النجوم والمجرات البعيدة هي دراسة لما مضى من أحداث فلكية حدثت قبل ملايين بل مليارات السنوات، وأننا رغم كل التطورات والاكتشافات الجديدة لانزال نجهل الكثير وما زال أمامنا المزيد لنكتشفه، فما أوتينا من العلم إلا قليلاً.

ذو صلة