إنسان.. بلا خرائط.. بلا ملامح!
كم يهتم الإنسان بالتحرر من كل شيء، معتقداً أن في ذلك خلاصه!
يحدث هذا بشكل متكرر، وفي وقت تضغط الحياة المعاصرة على الجميع لتجعلهم أكثر تمرداً على الواقع، والقناعات، والمفاهيم، وتسير بهم قسراً إلى دروب متشابهة في الملبس والمأكل، والتفكير، والاتجاه.
العالم، المجتمع، الدول، الإنسان ذاته، بلا خرائط، بلا ملامح، هكذا يريدونه، وهو مضمون مختلف المشاريع التي تطرح اليوم لتنزع الجميع من جذوره، ولتجعل الواحد منهم يسير في طريقه دون أن يعرف مبتدأه ومنتهاه، متحرراً كما يظن طليقاً لا تحده حدود، ولا يوقفه حاجز مهما كان!
ولو نظرنا في الضخ الإعلامي اليومي، وبمختلف الصور والوسائل، لوجدنا أن ذلك هو المغزى والرسالة، تقدم للصغير والكبير على حدٍ سواء، حتى تحملهم في أحيان كثيرة وبالإكراه المغري لرفض أي التزام أو انتماء!
فهل يتحرر المرء هكذا فعلاً؟!
الحقيقة أنه مهما ظهرت القواعد والأنظمة والمعتقدات بشكل القيود التي تحد من حركة الإنسان، فإن الأصيل والنافع منها على العكس من ذلك، يمنحك أجنحة الانطلاق، ويجعلك تملك زمام القوة الحقيقية، فالروح تحلق مع الإيمان، والأرض تبتهج بتطبيق النظام، والإنسان يسعد بالتمايز لا التشابه، لأنها الفطرة، ولأننا هكذا خلقنا الله جل في علاه.
والحصيلة لمن سار في هذه الدروب واستجاب مريرة، وفاقدة لمعنى الوجود والحياة، فأي حياة للمرء وهو يعيشها دونما هدف يرسم له غايته ورسالته وسبيله ليحقق معنى وجوده كما أراده الله؟!
وأي طعم يتذوقه الإنسان لكيانه وهو يرى وجهه بلا ملامح، بلا عنوان؟!
الإنسان بدون خرائط لا قيمة له ولا خصوصية ولا هوية.. وهو لا يعدو أن يكون رقماً باهت اللون بين الأرقام، لكنه حين يمضي وهو يحمل معه فكره وإيمانه والتزامه، يحمل معه معنى سعادته ومفتاح نجاحه.
لذلك كله.. ومهما كانت الضغوطات قوية وشديدة الوطأة التزم لنفسك المسار، ولقلبك نبضه الخاص، ولعقلك فكره المتقد، ولشخصك الانتماء.
فمهما تشابهت الأسماء والأشكال.. تميز عن غيرك، وكن أنت.. فقط.
***
صراع معاصر
لا أدري هل يبدو طبيعياً وواضحاً ذلك التغير في ملامح الناس؟!
تجد أكثرهم إشراقاً وابتساماً وكأنه قد أخفى شيئاً بين تلك الضحكات، قد يكون حزناً عميقاً، أو انشداداً يومياً غدا سمة الحياة المتسارعة، أو إعلاناً لوقوعه فريسة القلق المعاصر!
لا أملك قطعاً جواباً نهائياً، ولكني أتلمس هذا الأمر بكلتا يديّ.
وأكاد أزعم جازماً أن كل ما يشهده العالم اليوم من متغيرات، وصراعات، وتقلبات، لا يمر هكذا دون انعكاس على حياة الناس، أبداً.
حتى وهم لا يشعرون على وجه الوضوح حقيقة ما أقول، لكن تصرفاتهم وأشكالهم وسلوكياتهم بالتالي كلها تنبئ عن ذلك.
شخص فطوره اليومي نشرة أخبار مدعاة للكآبة، وغداؤه تشييع حبيب، وسهرته معركة من الآراء المتناقضة المتضاربة! ماذا عسانا أن نتصور تأثير كل ذلك عليه؟!
وآخر يدق القلق على مصيره الباب كل لحظة، وثالث يفترش هموم المعيشة لتكون بساطه، فحاله كحال المستجير من الرمضاء بالنار!
لقد بات الصراع المعاصر ظاهرة لا يمكن تجاهلها، وهي تلقي بظلالها الثقيل لتزيد من شقاء الناس، فضلاً عن كونها ترسم للمجتمعات أخاديد من الأزمات المتعاقبة والتي يستلزم علاجها الكثير من الوقت والجهد.
فهل نعي هذا الوباء الخفي؟!
وهل نستعد لعلاج تراكماته؟!
بل.. هل نسعى لنوفر الحصانة منه حماية لمستقبلنا المنظور والمنتظر؟!