مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

المترجم والأتمتة

تقوم عملية الترجمة على ركائز أساسية ثلاث، وهي المحتوى أو النص في اللغة المستهدفة، والمترجم، وأدوات الترجمة بما في ذلك الحصيلة اللغوية والمعرفية لدى المترجم والمراجع والمعاجم وأدوات الكتابة والتحرير وغيرها.

ولطالما كان المترجم هو العقل الذي ينقل لغة إلى أخرى، متحملاً في سبيل ذلك الجهد الفكري والعصبي والتحويلي والإنتاجي والتأهيلي لإنتاج عمل ترجمي ما، مما يسهم في مد الجسور وربط الثقافات ببعضها وذلك للمساهمة في نمو المعرفة وتعدد مواردها وازدهارها. ولذا فإن الوثبات العالية في مسيرة الحركة المعارفية عامة كانت ستظل منغلقة في إطار منتجها السياقي المنغلق لو لم يكن ذلك التبادل الفكري والمعرفي الواسع.
وقد ساهمت العولمة بمختلف آلياتها وتسارع وتيرة التبادل التجاري والسياسي والمعلوماتي بين الشعوب والدول إلى زيادة الطلب على الترجمة والمترجمين عموماً، فلم تعد الطرق التقليدية التي تقوم على النسخ الورقية اليدوية والمعاجم الورقية ذات جدوى، نظراً لما تستهلكه من وقت وجهد كبيرين لا يتوازن مع الطلب الذي يعيشه سوق الترجمة في عصرنا الحالي، مما يتطلب إيجاد حلول أسرع وأكثر كفاءة وفاعلية.
هنا برزت التقنية الحديثة للمساهمة في تسهيل موارد الترجمة وزيادة فاعليتها لتلبي حاجات السوق العالمية، فالمعاجم التي كانت تستهلك الكثير من وقت المترجم للانتقال بين طياتها، والبحث بين أرجائها، فضلاً عن حجمها وصعوبة انتقالها، تغيرت بشكل كبير لتتحول إلى قواميس إلكترونية بحجم كف الإنسان، يستطيع المترجم والباحث فيها الانتقال بين الكلمات في لحظات معدودة، مختزلاً كثيراً من العناء الذي تمثله القواميس المطبوعة.
لكن التقنية لم تتوقف عند هذا الحد، فتلك (الأجهزة) الترجمية اختزلت بشكل أكبر لتكون مجرد تطبيقات ضمن العشرات غيرها في الأجهزة المحمولة واللوحية وأجهزة الكمبيوتر، أو إلى صفحات في الشبكة العنكبوتية، ورغم ما صاحب بعضها في البداية من قصور في المحتوى، وعجز عن تلبية حاجات المترجم والوصول إلى مستوى الترجمة التي يتأملها، إلا أن التقنية الحديثة، بما تحمله من خوارزميات، قد مكنت تلك المصادر الترجمية من توسيع قاعدة بياناتها بشكل واسع، ما أدى إلى رفع جودتها، وفوق ذلك كله تسهيل مهمة المترجم وتسريعها.
مؤخراً شهدت أدوات الحاسوب المساعد في الترجمة (CAT Tools) قفزة نوعية عبر بروز عدد من الأنظمة والبرامج الخاصة بالترجمة، وتعمل تلك البرامج على زيادة كفاءة ونسق النص المُترجم، وتقليص الوقت والجهد بنسب كبيرة قد تصل إلى 60٪ في بعض الحالات، وتقوم آلية تلك البرامج على تخزين ما يقوم به في ذاكرات سحابية أو محلية تسهل للمترجم تقسيم أجزاء الكلام، والمحافظة على ثبات النسق الترجمي عند تكرار الكلمة أو المصطلح أو الجملة بأكملها، كما تمكن المترجم من زيادة مساحة قاعدة البيانات لديه من خلال مناظرة نصوص ترجمت سابقاً، الأمر الذي مكن عدداً من المترجمين من مضاعفة إنتاجهم وزيادة عطائهم.
ورغم ما قدمته تلك الأدوات من تسهيلات عظيمة للمترجم وعملية الترجمة، إلا أن البعض ينظر إليها بعين الريبة، حول ما إذا كانت الأتمتة ستخلق منافساً شرساً للعقل البشري، وما يحمله من قوة وأثر وإبداع.
ورغم أن التحدي الوظيفي بين الإنسان والآلة ليس وليد اللحظة، وإنما هو صراع انطلق منذ الثورة الصناعية، واستمر حتى عصرنا هذا الذي حلت فيه الآلة والذكاء الاصطناعي مكان البشر في صناعات عديدة، ومؤخراً امتد إلى الترجمة، إلا أنه من الصعب الجزم بأن العقل الصناعي قد يحل محل العقل البشري في تلك الصناعة، ولاسيما مع تمايز طبيعة النصوص وتغايرها، والوتيرة المتسارعة التي تظهر فيها مصطلحات ومفاهيم ناشئة لا تجد لها نظيراً في الثقافات المنقول إليها.
فبالنظر إلى طبيعة النصوص فهناك شبه إجماع على الابتعاد تماماً عن الأتمتة في عدد من النصوص التي تتطلب إعمال ملكة الإبداع والذائقة الفنية كالنصوص الأدبية بوجه عام، كما أنها تحد من خيارات الترجمة التي لا تجد مقابلاً مناسباً في اللغة المنقول إليها، مما يضطر المترجم إلى التعويض والابتكار.
من جهة أخرى تشكل المصطلحات الناشئة التي تتدفق بصورة غير مسبوقة في شتى المجلات، ولاسيما التقنية وعالم الأعمال والعلوم التطبيقية والنظرية، تحدياً كبيراً أمام الآلة، فالمجامع اللغوية في العالم العربي لم تعد تستطع مسايرة ذلك الدفق الهائل من المصطلحات المبتكرة، كما أن حركة التعريب لم تعد تلقى صدى واسعاً بين الجمهور والمتلقي العربي كما كانت عليه قبل عقود، ما يجعل دور المترجم وملكته وفهمه للمعنى الدقيق للكلمة، وفهمه لإشاراتها الدلالية واللغوية والثقافية، حجر الأساس في عملية الترجمة، إذ لا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال.
وأخيراً لا ننسى أن الأتمتة وأدوات الحاسوب المساعدة، كما أن لها فضلاً كبيراً في تيسير عمل المترجم وتعزيز كفاءته، إلا أنها في قواعد بياناتها ومخزونها لا تنفصل عن العقل البشري، الذي يزودها بخلاصة فهمه وتجاربه وإبداعه الترجمي لتستند عليه، فالعلاقة هنا في منظورها المرئي تكاملية بين المترجم والآلة، ولابد من الاثنين معاً لرفع جودة ومفهوم الترجمة الواسع.

ذو صلة