ظل مدى ظهور المترجم واختفاؤه مسألة مهمة تثير الجدل في مجال دراسات الترجمة عبر العصور. وفي فترات مختلفة من التاريخ نال المترجم مكانة متفاوتة الأهمية، تتراوح بين المكانة الهامشية التي تضعه في زاوية بعيدة والدور الكبير الذي يوزن بالذهب، كما كان عليه الحال في عهد بيت الحكمة عند ازدهار عملية الترجمة في العصر العباسي.
وفي عام 1995، نشر لورانس فينوتي كتابه الشهير (اختفاء المترجم) (The Translator’s Invisibility)، الذي أصبح من المراجع المهمة لوضع إطار نظري لهذه الظاهرة ضمن مجال دراسات الترجمة الناشئ. وتناول فينوتي تأثير صناعة النشر على دور المترجم وإجباره على الاختفاء، في محاولة لإرضاء الجمهور المستهدف وتقديم ترجمة خالية من أي مؤثرات أجنبية، مما سمي بالتوطين (domestication)، وهي ترجمة تندمج في البيئة الثقافية واللغوية الجديدة بسلاسة لا يشعر معها القارئ أنه بصدد قراء ترجمة، ويختار المترجم، أو يجبر، على الانزواء بعيداً. وقد كان تركيز فينوتي على مترجمي النصوص الأدبية في أمريكا خصوصاً. ويقابل هذا النهج، منحى يحتل فيه المترجم موقعاً بارزاً يظهر فيه البعد الأجنبي للترجمة واضحاً، أي نقل الأجنبي إلى المتلقي، دون السعي لذوبان الترجمة في اللغة والثقافة المتلقيتين، ولذلك أطلق على هذا النهج عنوان (الأجنبة) (foreignization).
وانطلاقاً من نظرية اختفاء المترجم هذه، نود أن نلقي نظرة سريعة على بعض العناصر التي تسهم في هذا الاختفاء وتعززه، وإعطاء مثال على ذلك من موقع المترجم في مجال التنمية الذاتية. وقد انتشرت مؤلفات الذاتية عبر الترجمة إلى جميع أنحاء العالم، وأصبحت صناعة تدر الملايين بحسب الإحصاءات التي تقدمها المواقع ذات الصلة. وهو مجال تؤدي فيه الترجمة دوراً رئيساً، حيث بدأ هذا المجال خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية وانطلق منها إلى أنحاء العالم عبر الترجمة. واليوم عندما ننظر إلى رفوف المكتبات في العالم العربي، نجد أقساماً كبيرة لمؤلفات التنمية الذاتية، المترجمة. ومما يلفت النظر في تلك المؤلفات أنها قلما تحمل اسم المترجم، فهي تقدم الكتاب وكأنما قد ألف أصلاً باللغة العربية. أما قراءة الكتب نفسها، فنجدها خليطاً بين نهجي (التوطين) و(الأجنبة)، فالتوطين يظهر في استخدام بعض المفاهيم والاستعاضة عنها بمفاهيم من الثقافة العربية الإسلامية، ومن ذلك مثلاً ترجمة (الكون) عند الإشارة إلى الخالق باسم الجلالة (الله). ولكنها تستبقي مفاهيم أخرى، خصوصاً عند إيراد قصص من تلك المجتمعات التي جاءت من المجتمعات التي تنتمي إليها القصص المحفزة الأصلية. ولا نريد أن نركز هنا على الترجمة وإستراتيجياتها، وإنما على المترجم ودوره.
ولعل طابع اختفاء المترجم، ولعلي أقول (إخفاءه)، يدفع المترجم إلى التخلي عن أفكاره الشخصية وقناعاته حول الترجمة ونظرياتها وطرائقها، وتقمص روح الجهة الراعية للترجمة، سواء كانت دار نشر أو مؤسسة أخرى. ومع ذلك، نتوقع أن يتحرى المترجم عموماً، بحكم دراسته ومهنيته، الدقة في أداء عمله، ويسعى إلى عدم النأي عن الأصل إلا عند الضرورة القصوى. وعلى الرغم من هذا الاجتهاد في التحري والتقصي، والسعي إلى فهم الأصل ونقله بأمانة، فقد لا ترضي النتيجة النهائية الجهات صاحبة المصلحة في الترجمة والنشر. ومثلما يحدث في الترجمة الصحفية، تمر الترجمات في تلك المؤسسات عبر مراحل عدة من التحرير والتنقيح، تزيد الشقة بين الترجمة والنص النهائي المنشور. وقد يراجعه ويعيد صياغته محررون لا علاقة لهم باللغة الأصلية، ويتدخلون في النص تدخلاً جوهرياً يبتعد به كثيراً عن الأصل، من أجل الاقتراب من المتلقي المستهدف، فيزيد المترجم بعداً ويكون أكثر اختفاء. وقد تتداخل الكثير من العوامل التي تعزز هذا التوجه، مثل مراعاة الجوانب الدينية والسياسية في الثقافة المتلقية، وإدخال عوامل جذب للقراء فيها.
واختفاء المترجم يظهر في جانب آخر مهم من جوانب صناعة النشر. وهو جانب الحقوق المادية للمترجم. يلاحظ كثير من المترجمين أن دور النشر تتعامل معهم بحساب الكلمة أو الصفحة، دون إعطاء وزن لجهدهم الفكري وحقوقهم الأدبية، ودون إعطائهم حقوقاً أخرى في عائدات نشر الكتب المترجمة. وهنا يجد المترجم نفسه في وضع مهمش، ويكاد يكون غائباً تماماً، مقارنة بالمؤلف أو غيره من المعنيين بعملية التأليف والنشر. ويتحول هنا المترجم من الاختفاء من تسجيل اسمه على العمل المترجم، واختفائه في ثنايا العمل، بمحو آثاره، وإذابة العمل المترجم في البيئة المستهدفة، إلى اختفاء مادي، يتجسد في تقليص الحقوق المالية، وربما الإجحاف فيها.
ومع تطور الأدوات الحاسوبية في مجال الترجمة وانتشار استخدام برامجيات الترجمة الآلية، يتزايد اتجاه الآن ينذر بجعل اختفاء المترجم أكثر عمقاً، وأصبحت الكثير من المؤسسات تستغني عن مهنة المترجم، وتطلق على عملية مراجعة الترجمة الآلية عنوان (التحرير اللاحق) وعلى من يقوم بتلك المراجعة صفة (المحرر اللاحق).
وهكذا نرى أن صناعة النشر وضغوط المؤسسات التجارية وتأثير التكنولوجيا وتطورها تزيد جميعها من اختفاء المترجم وتهميش مكانته ودوره. ويتطلب هذا الوضع من المترجمين وجمعيات حماية حقوقهم اتخاذ مواقف قوية للدفاع عن المترجم وضمان استعادة مكانته التي يستحقها في عملية التواصل ونقل المعارف من ثقافة إلى أخرى.