لعل أبلغ كلمة نقلت سمات الوضع الثقافي في الأندلس، تلك التي نجدها مثبتة في ذخيرة ابن بسام الشنتريني:
«(...) إلا أن أهل هذا الأفق، أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنماً، وتلوا ذلك كتاباً محكماً...».
وقد عالج بريس بدوره هذا الواقع الأندلسي بإسهاب كبير، مشيراً إلى انطلاق الثقافة الأندلسية معتمدة على الشعر المشرقي، الذي ظل الأندلسيون يحيطونه بعناية خاصة، لدرجة أنهم كانوا كلما أرادوا تمييز شخص في مضمار معين، بحثوا بلا تردد، في ذاكرتهم عما هو مشرقي مماثل له.
ولعل علماء الأندلس قد ذهبوا في النسج على منوال المصنفين والمؤلفين من المشارقة إلى أبعد حد، إذ ألفوا كتبهم وتصانيفهم على هدى مما كتب في المشرق. وهكذا كانت المعارضات الأندلسية بارزة لمؤلفات مثل (كليلة ودمنة) وكتاب الزهرة وعيون الأخبار.
وأقام بيرس من جهته، واستناداً إلى فهرسة ابن خير وغيرها من الوثائق، جدولاً تضمن جميع الكتب والدواوين المشرقية التي كان من واجب الفتى الرامي إلى الانخراط في سلك الأدباء والكتاب أن يدرسها. والحق أن ما نقلته فهرسة ابن خير من كتب ودواوين، يدل فعلاً على أن المشرق امتد بجذوره، وبعمق، في التربة الأندلسية. ولذلك لن نستغرب إذا وجدنا المعارضة تنشط لدى الشعراء والكتاب على حد سواء. ولعل إدمان الوسط الثقافي في الأندلس على قراءة النصوص المشرقية خلف لديه عقدة البحث، بنهم، عن كل ما يطابق هذا المقروء أو يجاوزه.
وربما أسهم المناخ السياسي العام في ترسيخ هذا التوجه، إذ ظل رجال السياسة يشعرون بميل شديد وبحاجة ملحة إلى استقطاب معالم النموذج السياسي المشرقي الذي أظهر قدرة وفعالية في تأسيس أعظم الحضارات التي عرفتها البشرية. وما المقارنات بين ملوك الأندلس وأمرائها وبين خلفاء بني العباس وغيرهم، سوى تعبير عن هذه الحاجة الأندلسية.
ولعل سنوات الفتنة أسهمت في تعميق هذه الحاجة في النفوس، فأضحت هاجساً يراودها في كل وقت وحين. وإن هذه الجسور الضخمة التي امتدت بين المغرب والمشرق هي التي كانت وراء العناية التي خص بها الباحثون دراسة العناصر المشرقية في الأندلس من النواحي الحضارية والثقافية والأدبية.
اتجهت عناية ابن شهيد إلى امتلاك ناصية القول شعراً ونثراً، وذلك عبر اتباع الدواوين والجلوس إلى الأساتيذ. يقول في مطلع رسالة التوابع والزوابع:
«كنت أيام كتاب الهجاء، أحن إلى الأدباء، وأصبو إلى تأليف الكلام، فاتبعت الدواوين وجلست إلى الأساتيذ، فنبض لي عرق الفهم، ودر لي شريان العلم بمواد روحانية...».
ولعل طموحه الذي اكتسى طابعاً رسمياً، هو ما وجهه نحو الاهتمام بالخطاب المدحي الذي برز باعتباره أحد الخطابات المهيمنة والنشيطة داخل الأوساط الأدبية، ساعده على ذلك كثرة الانقلابات السياسية التي خلقت دينامية خاصة مست كل أشكال التملق وابتغاء الحظوة والكسب.
وقد صادفت مرحلة التحصيل والتكوين بالنسبة إلى ابن شهيد، زمن المنصور الذي نهض الأدب في عهده، خصوصاً شعر المديح. ووسط هذا المناخ بالذات، أدرك أبو عامر ضرورة إحاطة الخطاب المدحي بعناية خاصة، يظهر ذلك خصوصاً في رسالة التوابع والزوابع، التي احتوت مجموعة كبيرة من أشعار المديح لفحول شعراء المشرق، وهي التي ظفرت بنصيب الأسد في رصيد الشاعر ومخزون ذاكرته. كما أن ديوان الشاعر يضم بدوره ما لا يقل عن ستة عشر نصاً مدحياً (يراجع ذلك في صفحات الديوان الآتية: 82,87,92,97,102,107,111,116,123,130,131,132,136,150,155,165).
نقرأ في (المغرب في حلى المغرب) لابن سعيد ما يأتي:
«(...) ولم يوجد له (يقصد أبا عامر ابن شهيد) بعد موته كتب يستعان بها على ما جرت به عادة البلغاء والأدباء...». (المغرب ج1 ص78).
لعل التعامل السطحي مع الظواهر هو ما يدفع إلى إثبات ما توفر لدى ابن شهيد من المكتوب للبرهنة على صلته بشعراء أو كتاب بعينهم.
وبالطبع عندما نقول «ولم يوجد له كتب يستعان بها» فهذا لا يعني أن أبا عامر كان مستغنياً عن محاورة الآخر، ذلك أن مثل هذا القول لا يصح خصوصاً بالنسبة لرجل كان نقطة الدائرة الأدبية في عصره يرفع الأمراء قدره ويخطب الوزراء صداقته، ويتبارى الشعراء والكتاب بمساجلته واستحثات قريحته (التوابع والزوابع ص24) وهذا هو الأهم، إذ إن المساجلات الأدبية تتطلب رصيداً ثقافياً كافياً. وأكثر من ذلك، نجد ابن شهيد يعلن انتماءه إلى مدرسة حرصت بشدة على مجافاة الاستقاء الأعمى من الكتب المشرقية رغم ولائها للمشرق على المستوى الأدبي. ولذلك لا نستغرب إذا ما صادفنا كلاماً يقر بعدم وجود كتب تعين ابن شهيد على أداء رسالته الأدبية مثلما جرت العادة لدى البلغاء والأدباء.
لقد أقرت كتب التراجم المكانة المتميزة التي حظي بها ابن شهيد داخل الأوساط الأدبية، فـ(المغرب) و(جذوة المقتبس) و(الذخيرة) و(وفيات الأعيان)... كلها أجمعت على أن أبا عامر حمل لواء الشعر والبلاغة في عصره. ولعل أديباً بمثل هذا القدر، لا يمكن أن يكون مقلاً في قراءاته ولا عازفاً عن الأخذ والتحصيل. يقول: كنت أيام كتاب الهجاء، أحن إلى الأدباء، وأصبو إلى تأليف الكلام، فاتبعت الدواوين، وجلست إلى الأساتيذ، فنبض لي عرق الفهم... (الرسالة ص88).
يستفاد من هذا الكلام ما يأتي:
أن ابن شهيد اتبع الدواوين وحاول منافسة شعرائها. وتمدنا فهرسة ابن خير بكم غير يسير من الكتب والدواوين المشرقية التي تدفقت على الحاضرة الأندلسية، وصارت بضاعة رائجة بين أدبائها وكتابها.
كما أن ابن شهيد نفسه يحيلنا في رسالة التوابع والزوابع (ص87) على قائمة مهمة من الأشعار المشرقية التي ربط معها حبل الاتصال، وصارت جزءاً من مصادره الأساسية. نذكر منها أشعاراً لامرئ القيس، ولطرفة بن العبد، وللنابغة الذبياني، ولقيس بن الخطيم، ولمسلم بن الوليد صريع الغواني ولأبي نواس، وللبحتري، ولأبي تمام، وللمتنبي الذي حظي بمنزلة خاصة لدى الشاعر بل لدى الأندلسيين عامة.