في الفصل الثاني من رائعته مسرحية ( الملك لير) وظَّف وليم شكسبير عبارة (لاعب كرة قدم دنيء) ضمن الإهانات التي تطلقها شخصيته (أوزوالد) الشهيرة في ذلك الوقت، كان هذا على مسارح إنجلترا مطلع القرن السابع عشر الميلادي، أي قبل سنوات طويلة من تأسيس الشكل اللامع والمحبوب لكرة القدم الحديثة التي نعرفها اليوم في إنجلترا أيضاً! لذا يبدو -والله أعلم- أنَّ التناقض والظهور بوجهين هو جزء طبيعي ومفهوم من تاريخ هذه المعشوقة المستديرة، والتي يربطها معجم الأصول التاريخية للغات اللاتينية بالجنون والشغف في ذات الوقت! وبالتالي فإنَّ صفاً أمامياً طويلاً من الكراسي الفارهة في منصة كبار الحضور من الشخصيات الاقتصادية والثقافية والسياسية يدل على أنَّ كرة القدم أو (راس إبليس) كما كان والدي -رحمه الله- يفضل تسميتها دائماً؛ ليست مجرد لعبة لتمضية الوقت والتسلية كما يعتقد البعض؛ بل كانت ولا تزال من أكثر الألعاب إثارة للجدل! كونها اليوم مرتعاً خصباً ومهماً لبناء الهويات الوطنية، وعولمة القيم الثقافية، والأيديولوجيات الفكرية والسياسية، وتصدير أشكال من القوى الناعمة، والعلامات التجارية العابرة للقارات.
مؤخراً، كشفت وكالة المخابرات الروسية -ضمن تقارير سرية عديدة- عن سيرة غير عطرة لواحدة من الشخصيات الأكثر جدلاً في تاريخ الشرطة السرية (KGB) في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، والذي كان بمثابة الذراع الأيمن للرئيس جوزيف ستالين، وأنا أعني مواطنه القاسي والمشاغب (لافرينتي بريا) الرئيس السابق للشرطة السرية، والذي تشارك مع الرئيس جوزيف ستالين في مطلع العشرينات الميلادية في واحدة من أشهر قصص البروبوغاندا الأيديولوجية إبّان المد الشيوعي من خلال تأسيس عدة أندية كرة قدم تحت اسم (دينمو)، أحدها نادي دينمو كييف الأوكراني الذي لعب له نجم كرة القدم الأوروبية أندريه شيفشنكو، وحقق معه بطولة كأس الكؤوس الأوروبية، وكذلك نادي (دينمو بوخاريست) النادي الروماني الشهير في الثمانينات، ونادي دينمو تبليسي الجورجي والفريق المفضل لـ(لافرينتي بريا) شخصياً. والمؤكد أن تلك التقارير السرية عن بروبوغاندا فرق الاتحاد السوفيتي ليست إلا مجرد مثال على ما تم تحميله كرة القدم من مسؤوليات تجاه معارك الهوية والانتماء والأيديولوجيا. وربما أنَّ أحداث كأس العالم الأخيرة لا تزال نشطة في ذاكرة معظم القراء، وذلك حينما انتشرت في وسائل الإعلام العالمية صورة للاعبي المنتخب الألماني يضعون أيديهم على أفواههم كناية على اعتراضهم سياسات منع الترويج لأيديولوجية المثلية في مناسبة رياضية عالمية، وما صاحب تلكم القضية الشائكة من الضغوط الإعلامية والسياسية التي واجتها دولة قطر الشقيقة من قبل بعض المؤسسات العالمية الداعمة للأفكار المثلية، مما لا يمكن نسيانه أو تجاهله أيضاً! والسؤال الذي يستحق أن يطرح هنا: ما الذي يمكن أن يربط كرة القدم مع أيديولوجيا الأفكار وصراعاتها؟
المفكر الفرنسي ومستشار نابليون بونابارت في القرن التاسع عشر الميلادي (أنطونيو تراسي) سبق أن أشعل جذوة مصطلح الأيديولوجيا في كتابه (عناصر الأيديولوجيا) وذلك في سياق حديثه لأول مرة عن هذا المصطلح بالتحديد، وعن دور الأفكار الأيديولوجية الاجتماعي. ولقد كان هذا العمل الفكري لـ(تراسي) مجرد مواصلة لحديث انطلق منذ عبارة فيلسوف العقل رينيه ديكارت الشهيرة: (أنا أفكر إذن أنا موجود) ودور الأفكار في معرفة العالم من حولنا، ولعل مثل هذه اللمحات التاريخية الفلسفية -الفرنسية بالصدفة- تشجعنا للتذكير برأي مفكر فرنسي آخر معروف وهو (لويس ألتوسير) وحديثه عن دور مؤسسات السلطة في الترويج للأفكار عبر استثمارها للقوة الناعمة، بدلاً من الاعتماد على المؤسسات التقليدية. ولذا حينما نتحدث عن الأيديولوجيا في كرة القدم، فليس شرطاً أننا نتحدث عن دعاية مستفزة للشعور أو مباشرة ومكشوفة لموضوعات مثيرة للجدل في عالم الأفكار وحسب! أبداً على الأطلاق، وخذوا على سبيل المثال الأيديولوجيا الرأسمالية التي أصبحت اليوم واحدة من أبرز الأيديولوجيات التي تؤثر على كرة القدم الحديثة، حتى أصبح البعض يتحدث عن دين جديد هو (دين الرأس مالية)! وباتت رياضة كرة القدم إحدى ممارسات وطقوس تلك الديانة الناشئة! عبر تحولها السريع المضطرد من مجرد لعبة للتسلية إلى صناعة تجارية ضخمة تعزز فيها الأندية الشهيرة في أوروبا والعالم أجمع من أفكار الاستثمار والاقتصاد والاحتكار والثروة، وهذا كله يتم بدعم وتوجيه من أكبر مؤسسة رياضية في العالم (فيفا) التي تعد اليوم بمثابة مركز النشاط الدولي للدعوة إلى دين المال ونشر الوعي المنظم بأهمية أفكاره، كمعيار لبقاء وتطوير ونجاح لعبة البسطاء!
والسؤال هنا: ما الذي يوجد في هذه اللعبة، ويجعل منها ملعبة مكتظة بلاعبي الأفكار والأيديولوجيات وليس الجلد المنفوخ وحسب! هذا السؤال يقودنا للحديث والتفكير في سوسيولوجيا الهوية والانتماء الرياضي، إذ إنَّ للفرق الرياضية تأثيراً ملحوظاً على الهوية الفردية والجماعية، فعندما يصطف المشجعون مع فريق رياضي معين، فإنهم غالباً ما يطورون شعوراً قوياً بالانتماء والهوية الاجتماعية، فمشجعو فريق أرسنال، أو ريال مدريد، أو حتى على سبيل المثال محبو اللاعب الأرجنتيني (ليونل ميسي)؛ هم لا يكتفون بتشجيع فرقهم أو لاعبهم المفضل تشجعياً قائماً على معايير الربح والخسارة خلال المبارة، بل يعرّفون أنفسهم للآخرين على أنهم جزء من مجتمع فرقهم القوي والمثير للإعجاب، وأصبحت مباريات كرة القدم قضية اجتماعية أكثر تعقيداً من مجرد انتماء رياضي! ويمكن بالاطلاع البسيط على عالم مشجعي الأندية الأوروبية وتفاصيله الطويلة، ملاحظة مقدار التنظيم عالي الجودة لمشجعي هذه الفرق، والذين أصبحوا بفضل تطور تقنية التواصل الاجتماعي يقدمون أنفسهم بطريقة مبهرة ودالة على مدى قوة وتأثير كرة القدم في صناعة هوية لا تقل عن قوة أي انتماء ديني أو سياسي أو وطني! إذ يوفر الانتماء الذي تكونه الفرق العالمية لمشجعيها إحساساً بالولاء والانتماء في عالم متسارع ومتجدد يمتاز بالمتغيرات الضخمة على المستوى الثقافي والاقتصادي والسياسي، ويشجع على العزلة والكفر بالسرديات التقليدية!
من جهة أخرى يطرح المفهوم الشهير للقوة الناعمة الذي طوره الأمريكي جوزيف ناي مسألة في غاية الأهمية، وهي أن التأثير بالأفكار ليس جانباً سلبياً فقط، وإنما يمكن أن يكون له جانب إيجابي أيضاً، والحديث هنا ليس عن القيمة الأخلاقية، بل الحديث هنا عن مدى الفعالية والنجاح بمعناه التقدمي والاقتصادي، وبالتالي يصبح لمفهوم القوة الناعمة قدرته الساحرة على الجذب الثقافي والفكري وربطه بالنجاح. إنها القدرة على رفع معدل ثقة الآخرين فيك وبمنتجاتك عبر قوة تأثير الأفكار الثقافية والحضارية، وباختصار إنها القوة التي يمكنك من خلالها توظيف محبة الآخرين الشغوفة في كرة القدم، لتسويق نفسك وإنتاجاتك عبر استثمار ميزة الفخر والسمو وقيم الامتياز التي لديك! وعلى فكرة نسيت أن أخبركم أن شخصية (أوزوالد) كان يمثل في (مسرحية الملك) دور خادم ابنة الملك الخبيثة (جونيريل)، وكان إحدى الشخصيات المكروهة، إلا أنه في الحقيقة -وبعيداً عن أي أحكام أخلاقية نسبية- كان مثالاً للخادم الأمين والمطيع لسيدته، حتى لو كانت تصرفاته تعكس الجانب القبيح للانتماء والولاء الأعمى!
في الختام يمكن الخلوص إلى أن تلك المساحة الخضراء للعبة الأشهر حول العالم، تعد بمثابة مساحة مغرية وفاتنة، وقد تحولت مع مرور السنين وتطور المؤسسات الرياضية المنظمة والراعية، إلى أن تكون مجالاً خصباً -وبلا متاعب ثقافية كبيرة- لمشاركة شحنة من الأفكار والمعتقدات المتضادة والمتصارعة بهدف تصدير الأيديولوجيات، أو الهويات، أو حتى التأثير الاقتصادي والأخلاقي، وليس علينا إلا أن نشاهد بتمعن فاحص ودقيق ما يستجد من أخبار المستطيل الأيديولوجي الأخضر في المستقبل القريب والقريب جداً كما عودتنا معشوقة الملايين!