مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الشعر في الشعر

الشعر حرفة في غاية الغموض، فهو صناعة وإبداع وتسلية وإمتاع، وحاجة ولغز، وهيام وعشق، والشعر حين يجعل الشعر نفسه موضوعاً له يكون مصدر اعتزاز وفخر، ومصدر تعبير وشوق، واستعطاف وبوح، ورجاء وعتاب، فيكون الشعر شعراً عن الشعر ولكنه يتضمن فكرة ودلالة عميقة خارجة عن الشعر.
إن الشعر في أسمى تجلياته دهشة فنية وومضة إبداعية تحدث في المتلقي تعجباً وأثراً. وهذا لا يحدث إلا حينما تتحول الكلمات إلى أشخاص داخل النص فتتفاعل فيما بينها وتتسق عن طريق الصورة الفنية بكل أشكالها لتكون حبلاً وثيقاً بين الخيال والواقع. وهذا التفاعل بين الكلمات هو الذي يحدث تحولاً في لغة القصيدة وصورها ودلالتها، فالقصيدة -كما يقول أوكتافيو باث- شيء مصنوع من كلمات بغرض احتواء مادة ما وإخفائها في الوقت ذاته. ومن هنا فإنّ الشعر من أعمق الفنون الأدبية التي تحدث انسجاماً بين الصوت والمعنى والصورة واللغة.
ويظل تاريخ القصيدة متجذراً، فالشعر يتغلغل في تاريخ كل أمة، حيث كان الشعر مرتبطاً بتاريخ الأمم السابقة كاليونان والرومان في ملاحمهم ومسارحهم، وما زالت الكتابات تزين بالشعر لأنه كتابة متميزة عن الكتابة، ولذا ظل تاريخ الشعر والشعر نفسه مقروءاً ومشعاً بالعقل البشري الذي أنتجه.
الشعر/ عقل ولب
ومن هنا عبر الشعر عن مكونات العقل البشري، وكشف مكوناته، فالعقل قيمة عليا يفتخر بها الإنسان، فحين يُعدّ المرء من العقلاء فإنّه يكون بذلك فاخراً وبعقله زاهياً، يقول حسان بن ثابت -رضي الله عنه- وتنسب لغيره:
وإنما الشعر لبّ المرء يعرضه
على المجالس إن كَيْسا وإن حُمُقا
وإن أحسن بيتٍ أنت قائله
بيتٌ يُقال إذا أنشدته صدقا
وهذان البيتان يترددان كثيراً على ألسنة الناس باعتبار أن أعذب الشعر أصدقه، على الرغم من أن النقاد ذهبوا إلى أن أعذب الشعر أكذبه، ولكن البيت الأول أتى بكلمة مركزية هي كلمة (لبّ) حيث أتت معادلاً لكلمة (شعر) بل جاء أسلوب القصر هنا مؤكداً لهذه الفكرة، والنتيجة بعد ذلك الحكم على هذا العقل بالكياسة أو الحمق، وهما صفتان متلازمتان للعقل، فجعلتا للشعر.
وتتأكد هذه الفكرة بعد ذلك في شعر أبي تمام حين يقول معبراً عن الشعر بأنه فيض العقول وفيه تنجلي الأمور وتتكشف الأسباب، فالشعر لا يفنى، فكم غادر الشعراء من متردم وما زال الشعر حاضراً ومتنوعاً، وأبو تمام من أكثر الشعراء حديثاً عن الشعر في ختام قصائده ومن ذلك قوله:
ولو كان يفنى الشعر أفنته ما قرت
حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه (فيض العقول) إذا انجلت
سحائب منه أعقبت بسحائب
ومن هذه النماذج يتضح أن الشعر هو العقل، وقيمته تنبع من قدرة هذا العقل على الإبداع وهو أيضاً مقياس لصحة العقل وسلامته، وهو -أيّ الشعر- لا يكتفي بالعقل دليلاً على هذه الموهبة بل يتصل بالعاطفة والمشاعر والأحاسيس والقدرة على التعبير والمخزون الثقافي واللغوي.
الشعر/ عاطفة وشعور
وارتباط الشعر بالعاطفة ارتباط وثيق، فالشعر نبع القلب وضياء الروح، ولذا سعى الشعراء لتأكيد هذه الفكرة، فعبروا بالشعر عن الشعر من حيث كونه عاطفة وشعوراً يحسن في الأسماع والقلوب، يقول أبو تمام:
حسن هاتيكَ في العيونِ وهذا
حسنه في القلوبِ والأسماعِ
فهذا الحسن/ الشعر، هو هذا الشعور الذي يؤثر في القلوب ويطرب الأسماع، فكلما تأثر القلب طرب السمع، ووجد في الشعر مشاعره وانفعالاته وأفراحه وأتراحه وأصبح معبراً عن آماله وآلامه وطموحاته وانكساراته. ويستمر الشعراء في التعبير عن هذه الفكرة حيث يكون الشعر عاطفة وذكرى متأصلة في الفؤاد، يقول أحمد شوقي:
والشعر إنْ لم يكن ذكرى وعاطفةً
أو حكمةً فهو تقطيعٌ وأوزانُ
ويظلّ هذا الاهتزاز الذي يحدثه الشعرُ في قلب الإنسان حاضراً في الشعر، يقول جميل صدقي الزهاوي:
والشعر ما اهتزّ منه روحُ سامعِه
كمَن تكهرب من سلكٍ على غفلِ
وهذه الكلمة (تكهرب) تعطي إحساساً مادياً لأثر الشعر في قلب الإنسان. وتعكس اهتزاز الروح له، ويتأكد هذا المعنى عند شاعر آخر هو أمين نخلة، حيث يقول:
أنا لو سُئلت لقلتُ في تعريفه:
طرب يهزّك كالغناء الصاخبِ
ولعل هذا البيت يقدم لنا وجهة نظر حول تعريف الشعر، وهي وجهة نظر أصيلة في التراث لكنها متجددة وفق الحركات الشعرية الحديثة وبخاصة الرومانسية، ويتأكد هذا المعنى عند شاعر من شعرائها، وهو أبو القاسم الشابي، حيث يقول:
يا شعر أنتَ فمُ الشعورِ
وصرخةُ الروحِ الكئيبْ
ونجد شاعراً رومانسياً آخر يُعلّل قيمة الشعر وأهميته النفسية معبراً عن الشعر بالشعر، يقول الطبيب الشاعر إبراهيم ناجي مقارناً بين الطب والشعر:
والنّاسُ تسألُ والهواجسُ جمّةٌ
طبٌّ وشعرٌ: كيف يتفقان؟
الشّعر مرحمة النّفوسِ وسرّهُ
هبةُ السماءِ ومنِحةُ الديانِ
والطبّ مرحمةُ الجسومِ ونبعُه
من ذلك الفيضِ العليّ الشانِ
واقتران الشعر بالعاطفة والشعور له امتدادٌ تاريخيّ، وغالباً ما يكون مُسالماً في إطار الحب والجمال والإحساس النبيل، لكن شاعراً مثل نزار قباني جعل الشعر عاطفةً مختلفةً، فالشعر في رؤية نزار غضب، فهو يقول:
الشعر ليس حماماتٍ نُطيّرها
فوق السماء ولا ناياً وريح صبا
لكنه (غضبٌ) طالت أظافره
ما أجبن الشعر إنْ لم يركبِ الغضبا!
وإذا كانت صلة الشعر بالعقل والقلب صلةً واضحةً جليّة الملامح في الشعر، فهو صادر عنهما فإن الشعر يتصل بجانب أخلاقي اجتماعي.
الشعر/ مجد وتاريخ
حيث تأتي علاقة الشعر بالمكارم والعلا علاقة وثيقة، بل إنّ قريش لما نبغ بها شاعرها عمر بن أبي ربيعة افتخرت به، ولذا أتى في تاريخ الشعر ارتباط وثيق عن مكانة الشعر وتأثيره في المجالس وقضاء الحوائج وشفاء العداوات، ولعلّ أبلغ ما قيل في ذلك قول ابن الرومي:
أرى الشّعر يُحيي الناس والمجد بالذي
تبقّيه أرواح له عطراتِ
وما المجدُ لولا الشعر إلا معاهد
وما الناس إلا أعظم نخِراتِ
ويأتي أبو تمام ليؤكد هذه الفكرة فيقول:
ولولا خِلالٌ سنّها الشّعر ما درى
بُغاةُ العلا من أين تؤتى المكارمُ
يُرى حكمةً ما فيه وهو فكاهة
ويُرضى بما يقضي به وهو ظالمُ
فالشعر يقيم أود الصلة مع المجد والمكارم والعلا. وهذا ممتد من العصر الجاهلي، حيث تروي كتب الأدب أنّ هارون الرشيد قال للأصمعي: يا أبا سعيد، أتعرف للعرب اعتذاراً وندماً؟ ودعِ النابغة؛ فإنه يحتج ويعتذر، فقال: ما أعرف ذلك إلا لبشر بن أبي خازم الأسدي، فإنّه هجا أوس بن حارثة بن لأم الطائي فأسره وأراد قتله، فقالت له أمه وكانت ذات رأي: والله لا محا هجاءه لك إلا مدحه إياك؛ فعفا عنه. فقال بشر:
وإِنِّي على ما كانَ منِّي لنادمُ
وإِنِّي إِلى أَوسِ بنِ لأْمٍ لتائبُ
سأمحو بمَدحي فيكَ إِذْ أَنا صادِقٌ
‏كتابَ هِجَاءٍ سارَ إِذْ أَنا كاذِبُ
‏فقال الرَّشيد للأصمعي: إنَّ دولتي لتحسن ببقائك فيها.
‏وكان بشر قد هجا أوساً بخمس قصائد، فلما عفا عنه وأعطاه مئة من الإبل، قال: لا مدحت أحداً حتى أموت غيرك، فنقضها بخمس قصائد هي من عيون المدح مثل قوله:
إِلى أَوسِ بنِ حارِثَةَ بنِ لَأمٍ
لِيَقضِيَ حاجَتي وَلَقَد قَضاها
فما وَطِئَ الحَصى مِثلُ اِبنِ سُعدى
وَلا لَبِسَ النِعالَ وَلا اِحتَذاها
إِذا ما المَكرُماتُ رُفِعنَ يوما
وَقَصَّرَ مُبتَغوها عَن مَداها
وَضاقَت أَذرُعُ المثرينَ عَنها
سَما أَوسٌ إِلَيها فَاِحتَواها
لَهُ كَفّانِ كَفٌّ كَفُّ ضُرٍّ
وَكَفُّ فَواضِلٍ خَضِلٌ نَداها
نَمى مِن طَيِّئٍ في إِرثِ مَجدٍ
إِذا ما عُدَّ مِن عَمرٍو ذُراها
نَمَوهُ في فُروعِ المَجدِ حَتّى
تَأَزَّرَ بِالمَكارِمِ وَارتَداها
ويتضح في هذا الموقف الأدبي قدرة الشعر في التغيير والتأثير، فقول بشر (سأمحو بمدحي.. كتاب هجاء) هي دلالة على هذه القدرة التي يملكها الشعر على الشعر نفسه والتحول الذي يحدثه، وقول أم أوس: والله لا محا هجاءه لك إلا مدحه إياك. قيمة دلالية على قدرة الشعر في محو الشعر نفسه إذا كان صادقاً وقوياً ومبدعاً.
‏الشعر فخر ذاتي
وهذا ما قرره أبو الطيب المتنبي حيث افتخر بشعره؛ لأن المتنبي من أهم الشعراء الذين جعلوا الشعر مفخرة وشرفاً، على الرغم من تلك المقولة التي تتناقلها كتب الأدب بأن (الشعر أدنى مروءة السري، وأعلى مروءة الدنيء) وفي هذه العبارة تقليل من أهمية الشعر ومنزلته، بيد أن المتنبي في أبيات كثيرة رفع من قيمة الشعر، ولعل من أبلغ ما قال في ذلك:
وما الدّهرُ إلا من رواةِ قصائدي
إذا قلتُ: شعراً أصبح الدهرُ مُنشدا
فسارَ به مَن لا يسيرُ مُشمّرا
وغنّى به مَن لا يغنّي مُغرّدا
أجزني إذا أُنشدتَ شعراً فإنّما
بشعري أتاكَ المادحون مُرددا
ودعْ كلّ صوتٍ غير صوتي فإنّني
أنا الطائرُ المحكيّ والآخرُ الصدى
فالدهر وكل من يسير وكل مغن وكل شعر وكل صوت هي صدى لشعر أبي الطيب المتنبي. ومن هنا وضع أبو فراس الحمداني الشعر ديوان العرب فقال:
الشعر ديوان العرب
أبداً وعنوان الأدب
لم أعد فيه مفاخري
ومديح آبائي النُّجُب
وقد سبقهما أبو تمام فجعل شعره سيّاراً ليس بنازح عن الأرض، بل إنّ قصائده تشرق شروق الشمس في كل يوم وكل مكان، يقول أبو تمام:
عَذارى قَوافٍ كُنتَ غَيرَ مُدافِعٍ
أَبا عُذرِها لا ظُلمَ ذاكَ وَلا غَصبُ
إذا أُنشدت في القوم ظلّت كأنها
مُسَرةُ كِبْرٍ أو تداخلها عُجبُ
مُفصّلة باللؤلؤ المنتقى لها
من الشعر إلا أنه اللؤلؤ الرطبُ
إنّ كتابة الشعراء عن الشعر فكرة متداولة وعميقة في تاريخها، وكان حضورها متجلياً في كل العصور الشعرية، إيماناً من الشاعر بقيمة الشعر وأثره النفسي والاجتماعي والإنساني.

ذو صلة