مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

محمد القاسمي (1942-2003م) الفن..وسيلة للسعي نحو كون أفضل

محمد القاسمي واحد من الفنانين التشكيليين المغاربة، انطلق في مساره الإبداعي يرسم ويتساءل، يحيا ويتفاعل مع محيطه اللامحدود، ينتبه إلى ما حواليه. هاجسه السؤال ومعاناة الإبداع، تمتع بوعي كبير، أكد من خلاله عدم البحث عن جمالية لا شكلية فحسب، وإنما الوصول إلى لغة تشكيلية واضحة، وأسلوب تعبيري يعتمد الأشكال المعروفة والمتوارثة، وسيلةً لبلوغ تكوين تشكيلي حرفي، واختيار دعائمه وتوازنه. وكان يبحث باستمرار، لينسج بعض أحلامنا، فأذهلنا بجديده المتميز بالحركة والانفتاح على العالم.
 
القاسمي ابن مدينة مكناس التي استقبلته وليداً سنة 1942م في أسرة ميسورة الحال، ترعرع وكبر وسط فضاء الثقافة الشعبية بمسقط رأسه بمدينة مراكش. وحين استقر بالرباط خلال الستينات من القرن الماضي، عمق تجربته وطور علاقاته وصلاته بأبرز ممثلي الحركة التشكيلية المغربية، وأصبح عضواً نشيطاً في الجمعية المغربية للفنون التشكيلية، وعضواً في اتحاد كتاب المغرب. إذ حرص منذ البدايات على مزاوجة اهتمامه بالتشكيل والكتابة، مما منحه توسعاً للرؤيا وفهماً للأشياء أكثر، فكان قارئاً ومتتبعاً لكل ما يصدر بالمغرب وخارجه. ومتعة القراءة عنده كبيرة جداً، لأنها تساهم في تركيب تصوراته للعالم ولتجارب الآخرين.
عشق السفر والترحال، وأصبح رحالة بالفطرة، رسم وعرض في جهات مختلفة داخل المغرب وخارجه، فمكانته الفنية امتدت عربياً وأفريقياً لتندمج ضمن فضاء الثقافة العالمية، سواء تعلق الأمر بأعماله التشكيلية أو بمساهماته الفكرية أو بمواقفه النضالية. استطاع أن يتفاعل مع عصره وأخضع فنه لعدة تجارب مع الأطفال، والمرضى والمجانين، ورسم على الجدران والحايك. فنان مسكون بمغربيته، مغامر يحب مجابهة الخطر، قال عنه جان لويس براديل (إن لوحات القاسمي هائمة مثل كلام الحاكي، كل واحدة من لوحاته هي على صورة هذه القصص التي لا بداية لها ولا نهاية، والتي تسمع في وسط ركام العالم، غناء الذاكرة والمحاولات التي تأتي).
 
كيف انخرط في الفن؟
سئل مرة من طرف أحد الصحفيين عن بداية الانخراط بصفة نهائية في الفن، فرد قائلاً: (جئت لعالم الفن متأخراً في سن الخامسة والعشرين، أحسست إحساساً داخلياً مستحيل التفسير: ظاهرة ما تفرض نفسها عليك، كل ما كنت أعرف وقتها أن قدري يكمن في هذا الطريق، تطورت طبعاً تجربتي فيما بعد، ولكن لم أكن أملك وقتها تغييرات لهذه الرغبة، أو لهذا الشيء الذي بدأ يسكن ويعمر جسدي).
استأثرت به الألوان فانجذب نحوها ليصبح واحداً من حاملي مشعل الإبداع الفني في المغرب، وتمكنت أعماله من تشريف بلده في الملتقيات الدولية (أكثر من مئة معرض في أوروبا وأمريكا وأفريقيا والشرق العربي). وقد حصل على الجائزة الشرفية ببينال القاهرة الدولي الرابع سنة 1993م، والجائزة الأولى في كل من بينال «سان كونتان» الدولي بفرنسا، وبينال القاهرة الدولي السادس سنة 1994م، وتم اقتناء لوحاته من طرف عدة متاحف ومؤسسات ثقافية (متحف معهد العالم العربي بباريس، ومتحف الفن المعاصر لمدينة باريس، مدينة كرونوبل، ومجلس منطقة فال دومارن..). نصب أعمالاً فنية على شاطئ الهرهورة، وأنجز أعمالاً فنية مشتركة مع صناع تقليديين من مهن النسيج والدباغة، بتجربة «الحايك» بمراكش سنة 1989م. وأشرف على تظاهرات فنية تربوية خاصة بالأطفال (تجربة الأوداية، تجربة ساحة بيتري بالرباط)، وانخرط في أعمال جماعية على الجدران في المستشفيات والساحات العمومية، وجمعته تجارب مشتركة مع فنانين تشكيليين وفوتوغرافيين وشعراء من داخل المغرب وخارجه، وأصدر كتباً فنية ومجموعتين شعريتين بالفرنسية وأخرى مشتركة بالعربية مع الشاعر والأديب حسن نجمي. كل هذه التجارب تنطوي تحت ما يسمى في القاموس الفني «فن- عمل» أو «فن- إنجاز»، حيث يظهر الفنان قدراته خارج التقنيات والأنماط المألوفة.
بصمات الفنان الغرباوي تبدو واضحة على تجربته الشخصية (ربما أميل إلى جانبه أكثر.. لتعامله مع المادة واختراقه الأشياء وعدم احترامه للقوانين وللثقافات في مفهومها المبتذل. ولو كان الغرباوي أمريكياً أو فرنسياً أو ألمانياً لكان أباً لجيل ليس بالنسبة إلى المغرب فحسب، بل أيضاً على المستوى الدولي، وعمله لا يزال إلى الآن يتمتع بحيوية غريبة وقوية، ولهذا أضعه ضمن الرسامين الكبار في العالم العربي الذين أحسوا بأزمة المرحلة وبالتناقضات الاجتماعية والثقافية. الغرباوي لم يكن ترقيعياً، فهو لا يعطيك جزءاً من شيء كي يقنعك بأنه يشتغل على الأصالة والمعاصرة وبأنه يبحث. كان الغرباوي كلياً وشمولياً، ويحس بالأزمة ويترجمها فنياً).
عمل على تجسيد العادات في المغرب والعالم العربي، وضمن ذلك ما يتعلق بالجسد والحضرة والتصوف، وحضر جلسات الحضرة والدراويش، وتيسر له الانتقال والاطلاع على معطيات فنية وثقافية مغايرة، فأغناه ذلك كثيراً (أنتقل كذات تتلقى وتحاول هضم الأشياء المتداخلة، ولا أنكر انتمائي لمنطقة جغرافية معينة، ولكن أجمع كل هذه العوامل في عملي، ومن ثم أنا لا أومن بفكرة «غربة الفكر» وحتى غربة الجسد، لأن العالم أصبح صغيراً والناس يكونون جسداً داخل بلدهم، ولكن قد تجد فكرهم في بلد آخر عن طريق البارابول والصور الأخرى، ولهذا أتبنى المعرفة من أين أتت).
 
التشبث بالألوان والإيقاعات
يرى الناقد حسان بورقية أن: المثير في القاسمي، التشبث بالألوان والإيقاعات، فجوهر عمله يقوم على فهم حدسي-شعري لمنزلة اللون، وعلى الرغبة في توليد بنيات حركية في طور الانفجار، داخل «نظام» هندسي ينأى عن المألوف، وقد استطاع أن يحقق هذا التوازن الصعب والدقيق بين الصرامة والمتعة، وذلك السحر المتعذر تحديده الذي يسم كل لوحة بميسمه، نجد في الواحدة اللون-الشكل، اللون-الفضاء في أخرى، وفي ثالثة اللون-البنية.. وهكذا دواليك، كألوان كشافة وعناصر دعامة. 
واللون عنده لا يتعلق بالمعنى التقليدي؛ بقدر ما يرتبط بالجانب التعبيري في العمل الفني، ليس لإراحة العين أو إثارة غرائز معينة؛ بقدر ما هو داخل في عمق المفهوم العام المطروح في العمل الفني ككل، ولهذا حاول إبعاد الألوان الصارخة في لوحاته لسبب معين وهو محاولته تقريب المشاهد من اللوحة للبحث في جزئياتها واكتشاف الرموز الدقيقة المكونة للوحة. والناظر في لوحاته، ابتداء من تلك التي أنجزها في منتصف العقد الثامن من القرن الماضي؛ سيلاحظ أن القاسمي -منذ وقتئذ- أصبح مهووساً بلونين: الترابي والأزرق، يهيمنان في جل أعماله، مع التأكيد على الترابي الذي يسيطر على مجموع المساحة غالباً. قد يكون هذا -عنده- تمسكاً بجذوره وسمرته وأطلسه وقاراته المغلفة بزرقة السماء. يقول مكاتباً «جيلبير لاسكو»: (إنني أفتح على السماء وأراني أخترق الأزرق منها، وأراني أنحني لأشرف على الأرض فإذا هي صلصال، كل شيء يأخذني، فأنسى نفسي ولا أتمالكها). 
المكان عنده لامحدود، وتجربته الخاصة تقترح علينا خلقاً متجدداً للعالم، ينتقل من مرحلة إلى أخرى. فمن تجربة اللوحة المتعددة الفضاءات إلى تجربة المساحة الغامضة، وإلى تجربة الأحجام الكبيرة، وحضور الملامح البشرية.. وهكذا، فإن العملية الإبداعية (تبدأ عندي على كتابة تشكيلية ووحدات متوالية متقاربة ومتداخلة، مع إعطائها الحيز الفراغي الذي يوفر لها إمكانية وجود المتحرك.. لأنه في مثل هذه الحالة يكون العمل كإحساس كتلذذ كمعنى يعطي نفسه دفعة واحدة).
إن الإحساس باللذة كان دائماً موجوداً بالنسبة له، غير أنه كان يتوارى بحكم السيطرة على الفضاء بطريقة تكوينية معينة، لقد كانت حرية الحركة إلى حد ما محكومة بقوانين معينة، كما أنه لا يُحَمِّل لأعماله موضوعات مسبقة، بل إن الموضوع يكمن في الحركة نفسها، فقد تجد وجوهاً وأجساداً تنتقل داخل لوحاته وتمنح نفسها للبصر بطريقة ما. فهو يشتغل على نتوءات معينة لمحاولة تفجير الجدار نفسه، هذه المعطيات هي التي تكوّن اللوحة عنده. قال عنه الناقد موليم لعروسي محللاً بعض أعماله الفنية: (في مركز لوحة من لوحات محمد القاسمي تبزغ دائرة مضيئة تخترق الأسود، أو هكذا يبدو. كما توهمنا اللوحة أن الأبيض يختنق بسبب طغيان الأسود. من نفس الدائرة تبزغ مربعات مسكونة برموز وأشكال منطفئة... تأتي بعدها ضربة فرشاة لتلامس المربع وتترك عليه بصمات حمراء تجاورها: خبازتان اثنتان يلامس الأزرق والأبيض والأحمر والدوائر السوداء التي تصبح هكذا، وكأنها رؤوس مقطوعة، ووجوه مشوهة قد انمحت ملامحها نهائياً بسبب الحريق).
وعن التجريدي والتصويري في لوحته ثمة أجساد تخترق فضاء عمله لكنها في الواقع ليست على الطريقة الأكاديمية، ولا على الطريقة المفهومة بتبسيط الأشياء؛ ففي العمل الأكاديمي يتخذ الجسد وضعاً معيناً، لكن الجسد الذي يرسمه هو حركة داخل المادة نفسها، ويتخذ الصفة الأسطورية داخل تراكمها، لهذا يتحول إلى حالة فنية وطريقة للعمل وللتعبير أكثر مما هو حالة تصويرية. وهو يرفض أن يكون حالة تصويرية، والمغزى ناجم من الاختيار نفسه، وأعماله تتخذ صفة شاعرية أكثر مما تقترب من صفة الرسالة. هذا العمل الذي يقدمه يندرج كعطاء بصري وداخلي في الوقت نفسه لا يهمه الوصول (إلى نهاية معينة، الشيء الذي يهمه هو حالة هذا الاختيار). من هنا تخال أن لوحاته ترسم، مذكرة إيانا بأن ثمة «ذوات» متعددة هي في الفن أهم من الأصالة بالمعنى التعبيري.
إن تجربة القاسمي مطبوعة بالتحولات، بل إنها منحوتة من صخرة التحولات، تجربة لا تستكين لنفسها ومنجزاتها، ولا تقتعد موقعاً معيناً، تجربة تسير إلى موقعها، تسير إلى معناها ودلالتها.
يضاف إلى ذلك تجربة انفرد بها وهي تجربة «المرسم المفتوح»، وتدخل في خلق نوع من الحركة، وتقريب الفن من المتلقي. وهي أول تجربة من نوعها على مستوى المغرب وربما العالم العربي، كان يهدف من ورائها إلى توفير فرصة للجمهور ليطلع من خلال ذلك على الأشياء الذاتية والخاصة جداً للمبدع، وجعله يقترب أكثر منه من خلال العلاقة التي توحي بها القاعة الخاصة للعرض، ويدخل في علاقة مباشرة مع المبدع. وقد نوه الكثير من المتتبعين والمهتمين بالحركة التشكيلية بهذه التجربة الجريئة والرائعة الفريدة كحدث صغير له أهميته داخل الحركة الفنية بالمغرب.
كما ساهم في تجربة «الجداريات» التي انطلقت في مدينة «أصيلة» (شمال المغرب) سنة 1978م، مع مجموعة من الفنانين (رحول- ميلودي- ميلود- شبعة- المليحي- الحساني- بلكاهية- زكاني- حريري- حميدي)، وكان العمل جديداً وغير مسبوق، توزعوا في المدينة القديمة، فرسموا أحد عشر جداراً بعضها وصل إلى ثلاثين متراً مربعاً، فتحوا من خلالها حواراً مباشراً مع الجمهور، وبالنسبة إليه (كان هناك حماس وتخوف في آن واحد، لكن ما لبث هذا التخوف أن انقشع كغمامة تتبخر وتكون قد حجبت شيئاً في النفس مجهولاً، ثم إذا بالعصفور يتململ ثم ينطلق مرفرفاً. أحد عشر رساماً يعانقون أحد عشر جداراً، احتفال فني كبير بدون تذاكر، عاش فيه سكان أصيلة من الناس وبالناس وإلى الناس، هذا جوهر التظاهرة).
وقد تكررت التجربة عدة مرات، سواء في أصيلة أو عدة مناطق أخرى بالمغرب وفرنسا «كرونوبل».
إن الجداريات خرقت حجب «الإبداع» وكشفت سره، الهدف منها هو تنمية التربية البصرية وإنعاش الذوق الفني والجمالي، وإشعار السكان بالمحيط، أي خلق محيط جديد.
ظل محمد القاسمي في جل مغامراته الإبداعية منشغلاً بإخراج الفن من المتاحف وقاعات العرض، ومطالباً بوضعه على قارعة الطريق، وسط الناس، ولهذا عمل مع الأطفال في المدارس والمراسم، وجعل العمال والحرفيين والشعراء والمرضى العقليين يتقاسمون معه تجربته الفنية، وكانت النتيجة أن وجدت إبداعاته طريقها بسهولة إلى البيوت والمنازل وجدران الشوارع وأروقة المستشفيات وغرف المصحات العقلية.
رحم الله الفنان محمد القاسمي الذي عاش لفنه وفياً، وخلد الفن ميتاً.
ذو صلة