لا تقل إني بعيد في الثرى فخيال الشعر يرتاد الثريا
إن تكن أنت بعيداً عن يدي فخيالي يدرك النائي القصيا
كلما تعمقت في دراسة التطور الجاري في أنظمة الذكاء الاصطناعي وجدت نفسي أردد هذه الأبيـات مستشعــراً علاقـة عضويـة بينهـا وبيـن تلك القفـزات العلميـة المهولـة.
قد يبدو الأمر غريباً بحكم ما يبدو من تناء بين المسارين غير أن حقيقة الأمر تختلف كلياً. بل دعني أمضي بعيداً في ادعائي لأجزم بأن خيال الفنان هو من يقود مسيرة هذا العلم وما علماء الذكاء الاصطناعي سوى أشخاص قد شكلت طموحاتهم العلمية ما جادت به قريحة أهل الأدب من خيال يستشرف آفاق المستقبل فصاروا يلهثون لنقله لدنيا الواقع.
ميلاد الروبوت
يضج المخيال الميثولوجي بحلم الكثير من بني البشر بمختلف عقائدهم في امتلاك من يخدمونهم ويطيعون أمرهم من كائنات بشرية وغير بشرية، وقد عكست آثار الإغريق الكثير من التماثيل التي تجسد تلك الأفكار. لم يكن فنان عصر النهضة ومهندسها ليوناردو دافنشي استثناءاً عارضاً فقد وجد من ضمن آثاره تصميماً أولياً لإنسان آلي ربما كان يفكر في صناعته.
مازال الكثير من الناس يحلم بامتلاك ذلك الروبوت الخادم الذي يؤمر فيطيع فيجتهدون في قراءة ما وصف لهم من تعاويذ علهم يفلحون في استجلابه من عالم الماوراء حتى جاءت نهاية الخمسينات حيث تمكنت معادلات العلماء من إنتاج أول روبوت على يد المخترع الأمريكي جورج ديفول الذي أطلق عليه اسم Unimate ليتم تطويره لاحقاً لأداء مهام تصنيعية على يد المخترع جوزيف أنجيلبيرقر الذي عرف تاريخياً كأب لعلم صناعة الروبوتات Robotics. في نفس الفترة قاد معهد أبحاث ستانفورد أبحاثاً دؤوبة نتج عنها روبوت أكثر تقدماً أطلق عليه اسم Shakey. لكن دعنا نتساءل: من أين أتى مصطلح (روبوت)؟
هل تصدق أن تسمية روبوت هي في الأساس ليست سوى مسرحية عرضت في عام 1921 اسمها Rossum's Universal Robots لمسرحي تشيكي يسمى (كارل كابيك)؟
تنبأت المسرحية بأن الإنسان قد تمكن من صنع كائنات آلية تسمى بالروبوت لتساعده في أنشطته الزراعية والصناعية والمنزلية والحربية. ثم يتطور الروبوت عبر الزمان ليكتسب القدرة على الشعور فيحس بظلم البشر واستغلالهم له فيدرك حاجته للروح والضحك والبكاء والحرية فيثور على صانعيه. كل هذه قد قيلت سلفاً قبل أربعة عقود من أبحاث معهد ستانفورد وقبل قرن كامل من نهضة الذكاء الاصطناعي التي نتبختر طرباً لإنجازاتها. فهل جافى شاعرنا الحقيقة حينما صدح بأن خياله يدرك النائي القصي؟
انطلاق الروبوت
في ذات عام عرض المسرحية التنبؤية ولد عظيم الخيال العلمي (إسحق عظيموف) -وللإنسان من اسمه نصيب- الذي حول الروبوتات إلى عالم روائي يضج بالحياة والإثارة. كانت موافقات تاريخ ميلاد الروبوت وملهمه شاهدة بأثر رجعي على أسطورية موافقات خيميائي باولو كويلو.
كتب عظيموف ست روايات سميت بسلسلة الأساس (Foundation) التي تخيل فيها مستقبل البشرية حين يخترع الباحث (هاري سيلدون) علماً جديداً اسمه (البسيكوتاريخ) الذي يستند إلى ما سماه بقانون الأعداد الكبيرة ونظرية الاحتمالات ليتمكن من التنبؤ بالمستقبل. ثم وصل خيال عظيموف إلى قمة الجموح بصياغته لما عرف بقوانين الروبوتية الثلاثة من خلال روايته المسماة بالتملص. تعتبر هذه القوانين بعض الضوابط حول كيف يجب برمجة وصنع الروبوتات من منطلق الذكاء الاصطناعي. وهذه القوانين هي:
1. لا يجوز لآلي إيذاء بشريّ أو السكوت عما قد يسبب أذى له.
2. يجب على الآلي إطاعة أوامر البشر إلا إن تعارضت مع القانون الأول.
3. يجب على الآلي المحافظة على بقائه طالما لا يتعارض ذلك مع القانونين الأول والثاني.
لاحقاً أضاف عظيموف القانون صفر إلى مجموعة القوانين، وهو: (لا ينبغي لأي روبوت أن يؤذي الإنسانية، أو أن يسمح للإنسانية بإيذاء نفسها بعدم القيام بأي رد فعل).
ويعتبر الكثير من العاملين في مجال الذكاء الاصطناعي هذه القوانين بمثابة اتجاه أو تيار فكري لهم.
مرة أخرى: هل جافى شاعرنا الحقيقة حينما صدح بأن خياله يدرك النائي القصي؟
رواية 1984 وتدشين الدكتاتورية الرقمية
تفتق ذهن عبقري الرواية جورج ورويل عن مقاطعة تسمى (أوشينيا) يعيش البشر تحت وطأة رقابة قاسية من الأخ الأكبر الذي يعرف كل شيء، إذ يراقب خفايا الأنفس وما تخفي الصدور من خلف شاشات تعد أنفاس الناس ووسائل مبتكرة في التلاعب بعقول الجماهير. نشر روايته في عام 1948 ليلهم كل أشرار العالم من ساسة وعلماء فيحولوا خياله الخصب لتقنيات على أرض الواقع. دشنت الصين نظاماً للرقابة العامة يحتوي على ما يقارب السبعمئة مليون كاميرا أي بواقع كاميرا لكل شخصين. ثم ربط شبكة الكاميرات بنظام للتعرف على الوجوه يعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي مرتبط بقاعدة بيانات تحتوي على كل صور ومعلومات الصينيين دون استثناء.
هل تعلم أن الصيني لا يستطيع أن ينشئ حساباً في أي وسائط التواصل الاجتماعي بغير أوراق ثبوتية تثبت شخصيته الحقيقية؟ المواطن الصيني لا يستطيع التخفي خلف أسماء وهمية إذ لا يمكنه كتابة (بوست) بمسمى شمس الأصيل أو الطائر الأزرق أو ما شئت من تلك المسميات المستترة التي تعطي حاملها شجاعة البوح بكل شيء وفرد عضلات لا تتجاوز عالم الأسافير. ما يكتبه الصيني محسوب عليه بواسطة أجهزة إلكترونية تمثل له (رقيب وعتيد) وخلفها أخ أكبر يعرف كل شيء وفق تصور جورج أورويل. ثم يتم جمع البيانات بصورة تجعل الأخ الأكبر قادراً على التدخل ثم التلاعب في معطيات البيانات بما يتيح له إعادة تشكيل وعي الجماهير في أكبر عملية تلاعب بالعقول يشهدها التاريخ.
حق لخيال جورج أورويل أن يفاخر بقدرته على إدراك النائي القصي ومناطحة الثريا.
ميلاد الميتافيرس
بعد إعلان موقع فيسبوك عن تغيير اسمه إلى ميتافيرس سرعان ما تداعت إلى الذاكرة رواية الكاتب الأمريكي نيل ستيفنسون المعروفة باسم تحطم الثلج (Snow Crash) المنشورة في عام 1992 أي منذ ما يقرب الثلاثة عقود.
مصطلح ميتافيرس نفسه صاغه المؤلف في روايته وعرفه بأنه مساحة الواقع الافتراضي التي تستخدم الإنترنت والواقع معاً حيث يتم تمثيل المستخدمين بأفاتار، ويمكنهم التفاعل مع البشر من خلال برنامج كمبيوتر أسماه بوكيل البرمجيات.
لكل ما سبق كان طبيعياً أن يجزم الكثيرون بأن تحويل الفيسبوك إلى ميتافيرس ليس سوى تجسيد لما تم تصويره في تلك الرواية فكانت الضجة التي دعت المؤلف إلى التنصل من أي علاقة له بمشروع فيسبوك فأصدر تغريدة على حسابه بموقع تويتر نفى فيها أي علاقة له بمشروع فيسبوك الطموح رغم إشارته للارتباك الحادث بسبب استخدام فيسبوك لذات المصطلح الروائي.
خاتمة
مع الرعب الذي بثته تطبيقات الذكاء الاصطناعي بالصورة التي جعلتنا ننقبض من قتامة المستقبل، ألا يحق لنا أن نستدعي خيال إسحق عظيموف وهو يصك قوانين الروبوتات الثلاث ونجعلها ميثاقاً أخلاقياً يدشن ميلاد الذكاء الاصطناعي المسؤول؟