جزر فرسان هذا الأرخبيل الذي يضم مئتين واثنتين وستين جزيرة والواقع في الجزء الجنوبي الشرقي للبحر الأحمر والجزء الجنوبي الغربي للمملكة العربية السعودية ويتبع إدارياً منطقة جازان. وفي هذا العدد الكبير من الجزر لا يسكن الإنسان إلا في ثلاث منها، هي: جزيرة فرسان الكبرى، جزيرة فرسان الصغرى (السقيد)، والجزيرة الثالثة هي جزيرة قماح آخر جزيرة سعودية مسكونة بالقرب من الممر الدولي للبحر الأحمر.
هذه الجزر المسكونة وغير المسكونة لها طبيعتها الخاصة تكويناً جيولوجياً وصبغة جغرافية متميزة بحكم موقعها داخل البحر مما انعكس على أسلوب حياة أهلها وأبنائها من منطلق تعاملهم مع البحر معيشة وعادات وتقاليد.
ومن هنا سأتناول في موضوعي هذا شيئاً من حياة هؤلاء الناس في الماضي خلال أيام شهر رمضان المبارك الذي يحتفي بقدومه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في ظلال طهره وقداسة روحانيته التي تصفو فيها النفوس وتتسامى فيها القلوب إلى بارئها عبادة وشفافية وتقرباً إلى رب الكائنات وخالق الأرض والسموات بين متبتل نهاراً ومتهجد ليلاً من (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ).
الفرسانيون والبحر
الإنسان ابن بيئته كما يقولون وأهل جزر فرسان بحكم نشأتهم داخل البحر الذي يؤطر جزرهم من جميع الجوانب ارتبطت حياتهم بهذا البحر يجوبون أرجاءه ويغوصون في أعماقه طلباً للرزق وتأمين لقمة العيش بحثاً عن الأصداف والمحار وقواقع البحر الأخرى أو في طرف سنارة يغري طُعمها الأسماك التي قد يكون صيدها وفيراً في بعض الأحيان وشحيحاً في أحيان أخرى معرضين أنفسهم لعواصف الرياح وهياج الأمواج عندما يمخرون العباب بسفنهم الشراعية أو مغامرين بحياتهم بالنزول إلى أعماق بعيدة غنية بمزارع المحار الطبيعية بحثاً عن صدفة تلمع في أحشائها لؤلؤة ثمينة يكون في ثمنها الغنى بعد الفقر والاستغناء بعد الحاجة وقد يكون الخطر الذي قد يصل حد فقدان الحياة في بعض الأحيان عندما يعرضون أرواحهم للأسماك والحيتان المفترسة التي تجوب أعماق الماء بحثاً عن رزقها هي أيضاً في وقت لم تعرف فيه وسائل الغوص الحديثة ولا أدوات السلامة ولم يكن لدى البحار في ذلك الوقت ما يتقي به تلك الأخطار سوى توكله على الله ثم مهارته الطبيعية التي اكتسبها من خلال تعامله مع البحر ولم يكن لديه من شيء سوى تلك السلة المنسوجة من الحبال التي يعلقها في عنقه ليجمع في داخلها الأصداف وفلقات المحار.
لقد كانت معظم أيام السنة في حياة الإنسان الفرساني كلها غياب في غياب ولكن هذه الأيام –أيام السنة– مقسمة إلى فترات متعددة يبلغ طول الفترة الواحدة منها ثلاثة شهور يطلقون عليها مسمى (الجوش) يعودون بعد كل فترة إلى أهلهم وذويهم ومحبيهم ليقضوا بينهم أياماً قليلة يعودون بعدها إلى البحر.
بداية رمضان
كما أسلفت أهل فرسان القدماء كانوا يقضون معظم أيام السنة في البحر يمارسون مهنة الغوص للبحث عن الأصداف والمحار والسبب في غيابهم عن أهلهم وذويهم - في الجوش الواحد ثلاثة شهور- هو أن سواحل جزر فرسان لم تكن غنية بالمحار ومصايد اللؤلؤ كما هو الحال بالنسبة لجزر (دهلك) الواقعة في الساحل الجنوبي الغربي للبحر الأحمر وعلى بعد من جزر فرسان قد يزيد قليلاً عن مئتي كيلو متر.. وهذه المسافة حسب وسائل المواصلات القديمة تعتبر بعيدة جداً.. لذلك عندما يعود المسافرون فإن عودتهم تكون مشحونة بالفرح سواء من قبل الغائبين أنفسهم أو من قبل ذويهم المنتظرين عودتهم بالسلامة بفارغ الصبر.. ولأن رمضان شهر كريم فإنه بالنسبة للبحارة يشكل فرحة كبرى لأن عودتهم إلى ديارهم تكون منذ بداية النصف الثاني من شهر شعبان وبالتالي فإن رمضان في حسابهم يبدأ من النصف الأخير من شعبان لأنهم سيقضون هذا النصف مضافاً إليه شهر رمضان المبارك وأيام عيد الفطر بين ذويهم وبعد ذلك يستأنفون السفر إلى البحر والغوص.
مباهج رمضان
أشرت في مقدمة كتابتي هذه إلى أن جزر فرسان ذات طبيعة جيولوجية خاصة فهي كما يقول الجيولوجيون كانت مغمورة تحت مياه البحر قبل ملايين السنين لذلك فإن حجارتها وصخورها شعابية مرجانية جيرية التكوين ومن هذه الطبيعة بنيت منازلها الحجرية.. ليس هذا فحسب بل وتوجد بها مناجم من الصخور الجيرية استفاد منها سكان هذه الجزر إذ أنهم يقومون بحرقها بطريقتهم الخاصة وتحويلها إلى مادة جصية ناصعة البياض يستخدمونها في طلاء منازلهم عن طريق عملية (التلييس) كما هو حال الإسمنت في الوقت الحاضر ولكن الذي يميز الجص عن الإسمنت أنه يكون ليناً قبل جفافه الأمر الذي يساعدهم على نمنمة منازلهم بالنقوش والزخارف الجصية التي مازالت باقية إلى اليوم.. وكنوع من أنواع احتفائهم بشهر رمضان الكريم فإنهم يقومون بغسل جدران منازلهم لاستعادة نصاعة بياضها بل وزيادة في الاهتمام بهذه الاحتفائية يلجؤون إلى حرق القواقع الجيرية المستخرجة من البحر ثم طحنها وتحويلها إلى (نورة) - قبل زمن النورة المصنعة الآن, وهذه القواقع قبل طحنها تخلط بالماء على شكل سائل وترش بها الجدران.. ولشدة نصاعتها تكسر حدة بياضها بإضافة (النيلة) الزرقاء أو كما يسميها البعض (زهرة النيلة) حتى لا تحمل على المعنى المتعارف عليه عند إخوتنا المصريين.. أما ساحات المنازل الداخلية والخارجية فتفرش بـ(البطاح) وهو الحصى الذي تقذفه أمواج البحر على الشطآن وهو يختلف في جودته من ساحل لآخر إذ أن حصى السواحل الشرقية والجنوبية أفضل جودة وأنصع بياضاً من حصى السواحل الغربية للجزيرة (فرسان), وهذا الحصى يجلب على ظهور الجمال في أداة خاصة يسمونها (الكرباس) منسوجة من سعف الدوم وذات جيبين كبيرين ويسمى الرد الواحد بهذا الكرباس بـ(الزفة) وقيمة الزفة من بطاح السواحل الشرقية والجنوبية أغلى ثمناً من مثيلتها من السواحل الغربية.. أما السواحل الشمالية فإن أمواج بحارها لا تقذف من البطاح إلا القليل.
ومن التجديدات التي تقوم بها النساء في منازلهن تجديد طلاء ركب القعايد (قوائم السرر الخشبية) بالقطران والحمورة -التي اشتق اسمها من لون حمرتها القانية- وهذا قبل زمن معرفة الناس لـ(البويا) وقبل تجديد ألوان الركب لابد من تجديد حبالها ونسيجها الذي يتم بطريقة متقنة كما يتم تجديد السداديج (السجاجيد) المعرونة (الملونة) بالأصباغ المختلفة المنسوجة من الطفي (سعف الدوم).. كما أن ربات البيوت يقمن بدفن الموافيه الجديدة (مفردها ميفا) وهو التنور المصنوع من الفخار.. ومن لوازم رمضان الضرورية (الملحة) التي يجهز فيها اللحوح من عجين الذرة المخمر الذي يحول إلى سائل يساعد قوامه على رشه بشكل دائري في قاع الملحة التي تتربع على عرش من نار في عصارى أيام رمضان.
الماضي والحاضر
لا أدري عن ربات البيوت اليوم هل ما زلن يستشعرن لذة استقبال شهر رمضان الكريم ويتهيأن له كما كان أمهاتهن يفعلن ذلك من قبل؟ أم أن عصر الخادمات المنزليات وجاهزية الأشياء التي تميز بها هذا الشهر قد ذهب بتلك البهجة وأصبحت ربات البيوت لا يعرفن من رمضان إلا السهر ليلاً وملازمة الفراش الوثير نهاراً تحت تأثير المستجدات وإغراء المبتكرات وتداخل العادات التي قذفنا بها الآخرون حتى كادت تمحو معالمنا وتمسح خصوصياتنا.
في جزيرتي المستلقية على وسائد الموج والمشرئبة إلى خفقات الأشرعة العائدة من مجاهل الغياب لم تعد الديار كما كانت تستقبل غائبيها فتزغرد أم وتبتهج زوجة وتورق بالفرح حدائق أطفال.
بمناسبة قدوم شهر رمضان كانت الأكف تتباهى بـ(الحناء) والأقدام تختال بتعرجات الخضاب والمنازل تفتح أبوابها وشبابيكها لهبوب النسائم التي تحمل معها هياج الشوق وعواصف الحنين الممزوجة بحرارة العناق ولقاء الأرض بعد طول غياب .
في جزيرتي كانت رائحة رمضان قبل الغروب تعطر كل الزوايا وتنعش كل الأنوف عندما تشم رائحة بخور القَفَل ودخان مجامر المصطكى الذي يفتح شهية الصائمين لجرعة ماء من شربة فخارية تتربع على (بيت الشراب) المصنوع من الخشب تندي قطرات الماء جدارها الفخاري بفعل الهواء الذي يمر عليها فيجعل ماءها يبرد بطريقة طبيعية قبل زمن الثلاجات وفي زاوية كل بيت ميفا (تنور) تتصاعد رائحة لهبه الممزوجة بالدخان ورائحة السمك ونكهة الشواء وأقراص عجين الذرة المخمر و (برم الشوربة).
في الأزقة الضيقة وفي بعض الساحات الفسيحة أطفال يلهون ويلعبون وينشدون:
رمضان أجانا ما نهب له
نهب له دجاجة تلعب له
يا مؤذن أذن من بحين
وتعشى بالحوت السمين
يا مؤذن أذن من بدري
وتعشى بالحوت العبري
ومن أناشيد الطفولة في عصارى رمضان:
دقوه دقوه
سيدي رميضان
يابو السعاده
حطوا المصله على السداجة
وكلما بدأت الشمس تقترب نحو المغيب ارتفعت الأصوات الطفولية بأناشيدها الممزوجة بالفرحة والمترقبة لاجتماع الأسرة على مائدة الفطور:
يا علي رص الفناجين
عندنا دولة وعسكر
عندنا رجال مكسر
قهوة الهندي رزينة
حالية من غير سكر
وكلما احمرت شفاه الشفق واصطبغ الأفق بلون الغروب بدؤوا أناشيد استعجال المؤذن:
ماله المؤذن دنّى
يشا فتيته حنا
ماله المؤذن غاوييشا فتيته جاوي
وقبل دقائق معدودة من الأذان تحلق بهم الفرحة عالياً فيختمون أناشيد لعبهم :
تفطروا يا صايمينا
حق رب العالمينا
والمؤذن شايؤذن
شايقول الله أكبر
هكذا يقضي الأطفال عصارى رمضان بين لعب وغناء طفولي.. أما إذا جاءت العشر الأخيرة من الشهر الكريم فإنهم يضيفون إلى أناشيدهم اليومية هذه الأنشودة:
يارمضان لفلف ملاعقك
يارمضان والعيد لاحقك
أما ليل رمضان فهو حيوية لا توصف تبدأ بصلاة العشاء وبعدها صلاة التراويح حيث يتقاطر المصلون إلى المساجد الضاجة بتلاوات القرآن وارتفاع أصوات بعض المصلين بعد كل ركعتي تراويح:
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله
الله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
أو فضل من الله ونعمة
ومغفرة ورحمة
والله ذو الفضل العظيم
وبعض الأئمة يجلسون بعد صلاة التراويح يدعون بهذا الدعاء:
(اللهم إنا ندعوك في كل ليلة من ليالي شهرنا هذا بأن لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا عاصياً إلا هديته ولا ميتاً إلا رحمته ولا حاجة لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ولا كربة إلا نفستها ولا هموماً إلا فرجتها بفضلك وإحسانك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.. اللهم اغفر لنا -في هذا الشهر الكريم- ذنوبنا واستر عيوبنا وأجرنا يا ألله من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة.. اللهم أحسن فيه عاقبتنا ووفق خاتمتنا وطهر نفوسنا من أدرانها ونوايانا من خبائثها وشحنائها.. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها) إلى آخر دعاء طويل.
بعد صلاة التراويح ينصرف الناس إلى منازلهم لتناول طعام العشاء لأن طعام الفطور في العادة يكون خفيفاً ووجبة العشاء هي الوجبة الرئيسة لدرجة أن البعض يكتفي بها لأنه عندما يأتي وقت السحور لم تكن المعدة قد أكملت هضم ذلك العشاء.. ووجبة العشاء هذه يكون السمك عنصراً رئيساً فيها.
شيخ عجوز يتكوم عمره الزمني في انحناءة ظهره المحدودب يحمل فانوسه ومصحفه المتآكلة بعض أطرافه يمر على عدد من المنازل ليقرأ في كل منزل منها على ضوء فانوسه الصدئ ما يتيسر له من القرآن الكريم على منبر خشبي منسوج من الحبال الرفيعة ويكرع عدداً من فناجين قهوة القشر المحلاة بالسكر من جَبَنَة فخارية تجثو إلى جانبه.
أما الشباب فيكوّنون مجموعات في بعض دكاكين القرية ليلعبوا لعبة (الضاع), ويسمونها أيضاً (المرقع) وهو عبارة عن خرقة من القماش مجدولة تستعمل للضرب الشديد على راحات الأيدي تتساوم على شرائها مجموعتان تتكون كل مجموعة منها من عدة أفراد وقد يصل ثمن الشراء من إحدى المجموعتين إلى مئة جلدة على راحات الأيدي مقابل أن تبدأ المجموعة الثانية التي اشترت باللعب والاحتفاظ بالضاع الذي يكون نواة حبة تمر أو حبة نبق أو حبة بن ليحتفظ بها أحدهم في إحدى قبضتي يديه وعلى المجموعة الأولى التي باعت أن تتلقى الضرب حتى يسعفها الحظ بالعثور على النواة المخبأة في قبضة أحد المشترين وأحياناً لا يتم العثور عليها حتى موعد الانصراف لتناول وجبة السحور.. شباب آخرون يلعبون لعبة (الكف) وهذه اللعبة تتم عن طريق القرعة حيث يضع الشخص الذي وقعت عليه القرعة يديه خلف رأسه وأحد اللاعبين يضربه من الخلف وهو بعد ذلك يبحث عن اليد التي ضربت فإذا حالفه الحظ وعرفها فإن الشخص الضارب يأخذ الدور ويضع كفيه خلف رأسه مطبقتين وأحد أفراد المجموعة يضربه وهكذا.
في آخر الليل وعلى مئذنة مسجد يتوسط البلدة يصعد مؤذن رخيم الصوت لينادي بأعلى صوته (تسحروا غفر الله لنا ولكم.. تسحروا فقد قرب الصباح).
أما الأطفال الصغار فإنهم يحرصون على تناول طعام السحور مع ذويهم بزعم أنهم سيصبحون صائمين ولكنهم عندما ينتصف النهار ويشتد لفح الهاجرة يلجؤون إلى الاختباء في الزوايا بعيداً عن الأنظار ليفرغ أحدهم كأساً من الماء في جوفه وبأطراف أكمامه يمسح شفاهه من طراوة الماء ولكن إذا ما رآه أحد الكبار قال له على سبيل المداعبة: (انتبه رمضان يشوفك).
هكذا يمضي شهر رمضان في جزر فرسان وفي أعماق كل واحد من أبنائها أمنية بألا تنتهي أيام هذا الشهر الكريم ولكن هيهات أن تتحقق تلك الأمنيات فقد قال الشاعر القديم على ألسنتهم:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فما تكاد أيام العيد تنتهي حتى ترفع السفن قلوعها وتنشر أشرعتها البيضاء وتغادر الطيور المهاجرة أوكارها متجهة إلى البعيد البعيد, وعلى ثغر كل أم وكل زوجة تلك الكلمات الشجية في ساعات الضحى عندما تكنس ساحة دارها أو تغسل آنية مطبخها:
درهت ماقول
بصافي اللول
والي بيادوه
والي بسيدي
درهت باثنين
قمر ونجمين
والي بيادوه
والي بسيدي
درهت باثنين
النون والعين
والي بيادوه
والي بسيدي
هكذا كان رمضان في هذه الجزر المختبئة في أعماق البحر, وهكذا كانت حياة أهلها الأقدمين شجن وحنين وألفة لم يبق منها إلا الذكريات.