تحتل تقاليد رمضان وطقوسه حيزاً من ذاكرة مدينة دمشق التي تعيش في هذا الشهر الكريم أجواء بهيجة ذات خصوصية، وتظهر في أبهى حلة، إذ يستقبل الدمشقيون هذا الشهر بكثير من الاهتمام، وتسود روح التسامح والمحبة والتواصل الديني والاجتماعي بينهم، ولعل المثل الشامي القائل (العشر الأول من رمضان للمرق، والعشر الأوسط للخُرَق، والعشر الأخير لصر الورق)، يعبر عن هذا الاهتمام، فالشطر الأول يعني الاهتمام بإعداد وجبات الطعام الحافلة بالأطايب، والشطر الأوسط يعني شراء ثياب وكسوة العيد، أما الشطر الأخير فيشير إلى الانهماك بإعداد حلوى العيد.
ويتجلى هذا الطقس الاحتفالي قبيل وأثناء شهر رمضان، فالمتاجر والمحال التجارية تمتلئ بالسلع الكثيرة التي تجذب اهتمام الصائم، كما تزدحم الأسواق بحركة المارة وخصوصاً عقب الإفطار، ويدوم هذا الازدحام حتى ساعة متأخرة من الليل، وتعلق الفوانيس في الطرقات وعلى شرفات المنازل، وتكثر العائلات الدمشقية من الزيارات الرمضانية للتهنئة بقدوم الشهر الفضيل وتكون مصحوبة بجلسات سمر وترفيه وتسلية ضمن أجواء عائلية تنم عن العلاقات المترابطة بين الأسر، وتعمر المساجد بالمصلين وسط نفحات من الروحانية والعبادات الرمضانية، وتنهمك النساء بصنع أشهى المأكولات. ويجري كل ذلك ضمن إيقاع منضبط يبدأ بصوت المسحراتي في الفجر، وإطلاق (مدفع الإفطار) عند الغروب كتقليد مستمر عبر التاريخ.
ومع أن مفردات الحداثة قد فرضت حضورها، بهذا القدر أو ذاك، لكن في حارات دمشق القديمة يمكن للمرء أن يعيش هذه الأجواء بمختلف طقوسها وتقاليدها التي توارثتها الأجيال، ففي تلك الحارات الشعبية تجد بائع الحمص والمسبحة والفول، وفي ركن آخر تجد بائع العرقسوس أو التمر الهندي، فيما يبدأ الخباز في ركن آخر بخبز الأرغفة على الصاج، ويزين كل رغيف بحبة البركة السوداء، وفي أمكنة أخرى تجد بائع الحلويات العربية التي تشتهر بها هذه المدينة التي مازالت تحافظ على ما يسمى بـ(سكبة رمضان) حيث تقوم كل ربة منزل في الحارة بتقديم بعضاً مما طهته من طعام لجارتها كتعبير عن المودة والرحمة، ناهيك عن التبرعات وموائد الرحمن والخيم الرمضانية ووفاء الأضاحي والنذور وسواها من المظاهر التي تقتصر على هذا الشهر، ولا يمكن إغفال طقس صار ملازماً لهذا الشهر ويتمثل في متابعة المسلسلات التلفزيونية التي تتناول في غالبيتها سيرة شخصيات من التاريخ الإسلامي.
واللافت أنه بالرغم من شيوع ظاهرة المسلسلات في شهر رمضان، غير أن أهل دمشق يتمسكون بتقليد قديم يتمثل في الحكواتي، إذ يقصدون المقاهي المنتشرة في أحياء دمشق القديمة، وخصوصا مقهى النوفرة، للإصغاء إلى قصص البطولة والفروسية القادمة من عمق التاريخ العربي والإسلامي، ويقول منير كيال عن الحكواتي في كتابه (رمضان وتقاليده الشامية): «الحكواتي قصّاص شعبي يتخذ مكانه على سدة عالية في صدر المقهى الذي يقصده الناس للاستماع إلى القصص التي يتلوها الحكواتي، وأهمها الزير وأبي زيد وعنترة وسيف بن ذي يزن وهي بالغالب روايات حماسية تمثل قيم الشجاعة والكرم والحمية والوفاء والصدق والمروءة والجرأة وحفظ الذمم ورعاية الجار».
وكان الحكواتي، وفي سعي منه إلى التشويق، يحبك القصة، ويصعّد الأحداث إلى أن يتوقف عند عقدة يكون فيها البطل في موقفٍ حرج، على أمل اللقاء بهم في اليوم التالي، ليتابع لهم السيرة، وحدث في إحدى الأمسيات أن أحد الحكواتية توقف ذات مرة في مثل ذلك الموقف، وترك عنترة يعاني في القصة ما يعانيه، فما كان من أحد أنصار عنترة، وقد طار النوم من عينيه، إلا أن توجه ليلاً إلى دار الحكواتي وأيقظه متوعداً مهدداً إذا لم يخرج البطل من ذلك الموقف!.
في شهر رمضان تمتزج أصوات المآذن برائحة الأطعمة، وتتداخل همسات الدعاء مع التهاني، ويختلط صوت الحكواتي مع ثرثرة النسوة.. إذ يمتلك كل شيء في هذا الشهر قداسة وروحانية تدفع المسلمين وأهل دمشق إلى تحمل مصاعب هذا الشهر، والتحلي بالصبر إزاء الملذات.
وعرفت دمشق خلال تاريخها تقاليد مميزة في هذا الشهر، فكانت الاستعدادات تبدأ قبل بزوغ الهلال، والتماسه من فوق المآذن العالية لجامع بني أمية، أو من النافذة الشرقية لجامع محي الدين بن عربي على سفح جبل قاسيون، ومن أهم هذه التقاليد تكريزة رمضان, والتكريزة، كما تقول المصادر، عادة قديمة جرى عليها العامة بدمشق، فقبل حلول شهر رمضان بيوم أو أيام كان الناس يقومون بنزهات عائلية إلى مناطق الغوطة، والربوة، والشادروان التي تكثر فيها الخضرة والظلال وأفانين الجمال، وكانت كل جماعة تحجب نفسها عن أعين الغرباء بحواجز قماشية شدت بين شجرتين أو أكثر، بحيث لا تحجب المرء عن الاستمتاع بالنسيم العليل والماء المنساب بين الأشجار المتعانقة. وفي حين تنهمك النسوة في إعداد الطعام، ينشغل الرجال والشباب بألعاب مسلية، ويذهب بعض الباحثين إلى تفسير هذه الظاهرة قبيل حلول شهر رمضان على أنها وداع لما لذّ وطاب من مباهج الحياة الدنيا، واستعداد للانصراف إلى العبادة والزهد خلال الشهر الفضيل.
ولدمشق حكايات مع المسحراتية، فكان شيخ الكار أعلى المسحّرين رتبة، وله سلطة معنوية وبركة معترف بها، ويُكنُّ له المسحّرون الولاء، ومنصبه وراثي، وقد ينتخب في حال عدم وجود وريث يليق بالمقام. ومهمة شيخ كار المسحرين أساسية في تنظيم العمل، فهو يجمع المسحرين في شهر شعبان، ويلقنهم أصول الصنعة، وضرورة التسحير في الوقت المحدد، كما كان يقوم بإجراء اختبار للمسحرين الجدد، ومن أشهر المسحرين في مدينة دمشق توفيق بن أمين القاضي، فقد أمضى خمسة وأربعين سنة برفقة فانوسه وسلته وطبلته يؤدي عمله بإخلاص وأمانة وقد علمته الأيام والسنون تجارب الحياة فيقول: «كان أبناء دمشق يستقبلون المسحر بالتهليل والترحيب، ويؤثرونه بأفضل أنواع الطعام، ويقدمون له الحلويات، كما أنهم يعطونه الإكرامية في شهر رجب وشعبان، وبشارة رمضان، أما الآن فالمحبة والعطف قد زالا من القلوب، وتغيرت العادات والتقاليد حتى أن بعض البيوت توصيه بألا يقرع بابهم عند السحور».
واشتهرت دمشق كذلك بالدراويش والمجالس المولوية، ويعد الدراويش من الطرق الصوفية في دمشق، ولهم عدة أطياف تختص بالذكر وعبادة الله، وتهدف إلى (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). ومن أهم الطرق كانت الطريقة السعدية (نسبة إلى الشيخ سعد الدين الجباوي) وهناك أيضاً الطريقة المولوية، وهي طريقة صوفية انتشرت في أرجاء الدولة العثمانية، كان مركزها قونيا بالأناضول، ويبلغ عدد تكاياها نحو 360 تكية، ويعود تأسيسها إلى جلال الدين محمد بن بهاء الدين المولوي. وكانت مجالس المولوية تقام في دمشق وتتألف هذه المجالس في السلم الهرمي للطريقة من:
الميدانجي: وهو ما يعرف بالشاويش، ومهمته التحري عمن يريد السلوك في الطريقة.
النياظان: عازف الناي (لاعب القصب).
قدوم خان: ضارب النقارات.
العشي باشي: ملاحظ الدراويش.
النعت خانه: قارئ الدعاء.
وكان المجلس، وفق ما ترويه المصادر التاريخية، ينعقد ليلة الاثنين والجمعة من كل أسبوع، ولا سيما في ليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وليلة القدر، ويبدأ المجلس بدخول الدراويش إلى الحضرة (السمع خانه) قبل الشيخ، بالملابس التقليدية (الجبة والكلاة) فيقبّلون الأرض، ويجلسون، وبعد فترة وجيزة يدخل الشاويش أو (الميدانجي) فينهض الجميع فيحييهم بانحناء الرأس ويحيي الحضور، ويرد الدراويش له التحية بانحناءة مماثلة، ويقف الدراويش جانباً، ثم يدخل الشيخ ويحيي الجميع بنفس الطريقة، فيرد أحد المطربين من الدراويش الجالسين في سدة عالية: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ويمدها حتى يصل الشيخ إلى المكان المخصص له في صدر المجلس (البسط) فيجلس ويجلس الجميع وراءه، فيكتمل الحضور من مدعوين، ومريدين، ودراويش ومشاركين، ويبدأ الاحتفال بعشر من القرآن الكريم من قبل أحد المطربين بالسدة المذكورة ثم ينهض (النعت خانه) فيقدم الدعاء:
إذا رمتِ المنى يا نفس رومي
لمولانا جلال الدين الرومي
عندها يضرب ضارب النقارات ثلاث نقرات على القدوم، وتبدأ النايات بالنفخ، وتكون النغمة الأساسية هي الصبا، فينهض الدراويش ويبدؤون الدوران.
وتحتفظ دمشق في ذاكرتها الرمضانية المثقلة بالكثير من المظاهر بفن خيال الظل الذي كان يزدهر في شهر رمضان، وكذلك الإصغاء إلى الكراكوز وهو ناقد شعبي، وأديب حاضر النكتة، وأعجب ما فيه قدرته على تغيير وتيرة صوته ولهجته، ومن الكراكوزاتية من كان يستطيع أن يقلد أكثر من عشرة أصوات، وهي أصوات الشخوص التي تتوزع أدوار الفصل (البابة). ولعل أشهر من مارس هذا الفن في دمشق، آل حبيب، فقد استمر هذا الفن فيهم أربعة أجيال، وكان منهم جدهم علي حبيب، ثم أولاده عبد اللطيف وعلي خالد، ثم أحفاده حبيب وخالد وصالح. وقد تتلمذ الشيخ أبو خليل القباني عند علي حبيب فحفظ منه الموشحات، والأدوار وأخذ ما عنده من الأوزان، والألفاظ.
لقد كان الكراكوزاتي يضمّن فصوله على لسان شخوصه، وكان يريد أن يبث في أذهان مشاهديه من نقد وتجريح أو مدح وطرب مع بعض الحكم والنوادر، ويلجأ إلى إشراك المشاهدين أحياناً بإجراء الحوار مع الشخوص.
ويلعب الكراكوزاتي الدور الأول، والأخير في حركات الرسوم، وأشكال ظهورها على الشاشة، وذلك أن لكل خيال شكلاً مميزاً في ظهوره، وفي معظم الأحيان كان يساعد الكركوزاتي تخت موسيقي يتصدر المكان إلى جانب الخيمة، ويتكوّن من صوّيت (مغني) ورقّجي (طبال) وقانونجي (عازف قانون) ولاعب قصب (نافخ ناي)، وتعمل هذه الجوقة بإمرة الكراكوزاتي حسب طبيعة المشهد وشخوصه. وكان لمسرح الظل أهمية بالغة، ويذكر ابن عربي شيخ الصوفية في فتوحاته المكية فيقول: «ومن أراد أن يعرف حقيقة ما أومأنا إليه، فلينظر في خيال الستارة وصوره ومن الناطق بها، فالصغار يفرحون ويطربون، والغافلون يتخذونه لهواً، والعباد العلماء يعتبرون ويعلمون أن الله ما نصب هذا إلا مثلاً».