تتباين العوائد والتقاليد الاجتماعية، للمدن والمجتمعات العربية والإسلامية، خلال شهر رمضان، وهو أمر طبيعي جداً، لأن التقاليد هي لون من ألوان خصوصيات المجتمعات الإنسانية. غير أنها مع تباينها مشدودة إلى قيم واحدة، وإلى مرجعية ثابتة، هي مرجعية القرآن والسنة، وما ينبثق منهما من قيم العطاء والبذل والعطف والتضامن.
وفي المدن والمناطق الجزائرية، تحتفي الأسر والعائلات احتفاءً واضحاً بقدوم شهر الصوم والعبادة والغفران.. وقد حاولنا في هذه الأسطر رصد أبرز مظاهر وطقوس هذا الاحتفاء.
طلاء المنازل
في الكثير من الجهات والمناطق الجزائرية، يلجأ الناس إلى طلاء منازلهم من الداخل والخارج، وإن كان البعض يحرص أكثر ما يحرص، على تجديد الطلاء الخارجي للمنزل كمساهمة في مسايرة عادات المجتمع في مظاهر الاحتفاء بمقدم الشهر الفضيل. كما يلجأ الشباب والأطفال وعمال البلديات إلى تكوين فرق تطوعية، مهمتها تنظيف الشوارع، وطلاء الأرصفة، والحدائق، وجعل البيئة العامة، مناسبة لمكانة رمضان في النفوس والضمائر. غير أن هذه العادة بدأت تخف وتختفي مع مرور السنين، وإن كانت بعض المناطق ما تزال متشبثة بها، بوصفها سلوكاً حميداً، يذكّر بمآثر الآباء والأجداد والماضين.
تجديد الأواني المنزلية
ومن أهم مظاهر الابتهاج بشهر الصوم والغفران، في الأسرة الجزائرية، حرص النساء على اقتناء الأواني الجديدة، فحسب تقاليد الكثير من الأسر أن الأواني القديمة لاسيما أواني الطبخ لا تليق بجلال ومقام هذا الشهر العظيم. لذلك استقر في وعي الكثير من الأسر، حتى صار من الثوابت، ضرورة اقتناء الأواني الجديدة خلال شهر شعبان من كل عام. وقد حدثني بعض الناس أن الكثير من النسوة يعاتبن النساء اللواتي يتقاعسن عن اقتناء الأواني الجديدة، لأن ذلك في نظرهن أو عرفهن المستقر في وعيهن الجمعي، يندرج ضمن عوامل ضعف الاحتفاء بشهر رمضان. وتبالغ بعض النسوة في هذا الأمر، فلا يكتفين بتجديد أواني الطبخ والأكل.. بل يحرصن أيضاً على تجديد ألوان طلاء المطبخ وطاولات الأكل، والأفرشة...إلخ.
الأكلات الرمضانية
أيضاً يدخل في الاحتفاء بشهر الصوم والغفران والرحمة، التسوّق المبكر وشراء مختلف المواد الغذائية. حيث تتسابق ربات البيوت في تحضير مختلف أنواع التوابل والبهارات، وبعض عائلات الشرق الجزائري، لا تقبل بغير التوابل التونسية، لتميّزها وشدة فعاليتها في مختلف الأكلات الرمضانية.
أما أهم الأطباق الرمضانية، فهي متباينة من منطقة لأخرى، فأهل الشرق الجزائري، يمثل طبق (شوربة الفريك) (الفريك يصنع بطريقة تقليدية من سنابل القمح الأخضر) ويسميها البعض أيضاً بـ(الجاري) أهم طبق لديهم. أما أهالي الغرب الجزائري ومناطق الصحراء، فيمثل طبق (الحريرة) أبرز طبق لديهم. ثم تتنوّع الأطباق الأخرى، تبعاً لأذواق ربات البيوت، وللقدرة المادية لكل أسرة.
الاحتفال بالأطفال الصائمين
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن الفرحة بالأطفال الذين يصومون لأول مرة، تُعدّ من أبرز تقاليد الأسرة الجزائرية خلال شهر رمضان، لاسيما في مناطق الصحراء الكبرى. إذ يحظى الأطفال ممن أدركتهم الفريضة لأول مرة، نتيجة بلوغهم، باهتمام خاص، لا يظهر لدى الأطفال الذين يتدربون كل سنة على الصوم، ممن لم تدركهم الفريضة بعد. وفي مفهوم هذه الأسر أن هذا السلوك، فضلاً عن كونه يسهم في غرس قيم المهابة والإجلال لهذه الفريضة الدينية، فهو يشجع هؤلاء الأطفال على الصبر والتحمل والعنت، خاصة لدى أهل الصحراء والبوادي، حيث الحر الشديد، وقسوة الطبيعة وصعوبة العيش.
وتختلف طبيعة ورسوم هذا الاحتفال من منطقة إلى أخرى، ففي بعض المدن الجزائرية، يتم الحرص على أن تقام احتفالية خاصة للأطفال الذين يصومون لأول مرة. وتكون الاحتفالية إما في بداية شهر رمضان أو عند منتصفه، أو في ليلة السابع والعشرين. ومما جرى به العرف يتم تحضير مشروب خاص، مصنوع من الماء والليمون والسكر، يوضع به خاتم من الذهب، وبعد انتهاء المشروب يُهدى الخاتم إلى الفتاة التي تصوم لأول مرة، بعد أن تكون قد ألبست حلة فاخرة، تظهر من خلالها كأنها ملكة محتفى بها. أما الأطفال الذكور، فتقدم لهم هدايا متنوعة وألبسة ونقود...إلخ. وذلك كله يدخل في أعراف المدن والمناطق، ضمن سياق إعداد الأطفال من الجنسين، وتشجيعهم على تقديس الفرائض الدينية، واحترام العادات والتقاليد الاجتماعية.
صلاة التراويح
من أرسخ المظاهر في كل المدن الجزائرية، صلاة التراويح، ورغم أنها ليست من الفرائض، بل هي من السنن، إلا أن الصائمين في كل مدن الجزائر ومناطقها، يرون أن التقاعس عن أداء التراويح في المساجد كأنه منقصة في صوم الصائم!! ولا شك أن المطلع على الشرع الحنيف والمتفقه في مقاصده الجليلة، يلحظ الفارق بين تلك المقاصد وبين أفهام الناس وما رسخ في وعيهم دون أدلة صحيحة أو فهم سليم.
وفي هذه المناسبة يتم إحضار الحفاظ والقراء المتميزين من مختلف الجهات، لأداء صلاة التراويح وصلاة القيام، وإقامة حلقات تلاوة القرآن الكريم، ومراجعة الأحاديث النبوية الشريفة. ويتنافس الأهالي على تكريم هؤلاء القراء والعناية بهم وإغداقهم بالهدايا المختلفة إلى نهاية الشهر الفضيل. ويحرص البعض على أن يقدّم القارئ المتميز تعهداً يقضي برجوعه إليهم في العام القادم. خشية أن يكون هذا القارئ من نصيب مسجد آخر غير مسجدهم.
موائد الرحمة
تشترك المدن الجزائرية كافة، في إقامة موائد الرحمة طيلة أيام الشهر الفضيل، وتتنافس العائلات والتجار والأثرياء على تزويد هذه الموائد بكل ما تحتاج إليه من أطعمة وخضار ومشروبات وفواكه...إلخ. وقد رأيت بنفسي في الجزائر العاصمة وبعض مدن الشرق الجزائري، تنافس الأسر على تجهيز هذه الموائد وإعدادها للصائمين. وقد نبعت هذه الفكرة في البداية لغرض إفطار الصائم عابر السبيل الذي يضطر للمجيء إلى العاصمة أو بعض المدن الكبيرة مثل (وهران) و(عنابة) و(قسنطينة) و(سطيف) لتسوية أغراض إدارية أو نحوها، غير أنها أصبحت ملاذاً لكلّ صائم، محتاجاً كان أو عابر سبيل، أو ما شابه ذلك من حالات وأوضاع.
ومنذ عدة سنوات أصبح الهلال الأحمر الجزائري مؤطراً ومعضداً للجمعيات الخيرية الوطنية والولائية، وجمعيات الأحياء، التي تبادر كلما أقبل شهر رمضان، إلى إقامة موائد الرحمة، وبفضل هذا التعاون أضيفت إلى هذه المساعي التضامنية الخيرية ما يُسمى بقفة رمضان، حيث يحصل كلّ فقير أو مسكين، أسبوعياً أو كل ثلاثة أيام حسب الميزانية المرصودة، على قفة كبيرة تحتوي على المواد الغذائية الأساسية التي يحتاج إليها الصائم الفقير الذي لا يستطيع أن يأخذ طعام إفطاره من هيئات (موائد الرحمة) إما بسبب حيائه، أو بسبب بعد مسكنه عن أمكنة ومقرات هذه الموائد. وقد ساعدت هذه الأعمال على تقوية أواصر الترابط والتكافل الاجتماعي. بل إن بعض تلك الهيئات باتت لا تقف عند حدود إعداد طعام الإفطار للصائمين المحتاجين فقط، وإنما أضافت إليها أيضاً شراء الحلويات وملابس عيد الفطر مع إكرامية نقدية يتم منحها في اليوم الأخير من شهر رمضان، كي تكون ختاماً حسناً يُدخل المسرّة والبهجة على قلوب وأفئدة هؤلاء الفقراء وعلى أبنائهم وعائلاتهم، ليلة ويوم عيد الفطر السعيد.