يهل شهر رمضان كل عام ومعه تستدعي الذاكرة العربية ثقافات ضاربة في أعماق التاريخ، وبالقدر الذي تتنوع فيه مظاهر الاحتفالات بذلك الشهر في العواصم العربية والإسلامية تظل فيه المدن المصرية شديدة التشبث بعادات ومظاهر لم تتغير منذ حقب زمنية بعيدة. مفردات هذا الشهر تترك آثارها على سائر البيوت والشوارع والمقاهي، وتستعد الأسر به قبيل مجيئه بأسابيع، فالمرأة المصرية عادة ما تتم الاستعداد قبيل رؤية الهلال بأسابيع خاصة في مجال تخزين السلع الغذائية المرتبطة بالشهر الفضيل.
ومن مفردات هذا الشهر التي عصت على العولمة ومظاهر الحياة الحديثة بكافة ألوانها المسحراتي والوجبات الرمضانية وصلاة التراويح وفانوس رمضان بأشكاله المتعددة ومدفع الإفطار الذي ما يزال يعمل.
المسحراتي
المسحراتي الذي ينشط خاصة في الأحياء الشعبية مهنة مرت عليها عدة قرون كما يقول الدكتور إبراهيم عبدالحافظ أستاذ الأدب الشعبي بأكاديمية الفنون، والذي يشير إلى أن المسحراتي ظهر لأول مرة في عهد الخليفة المنتصر بالله في عصر الدولة العثمانية. وفي عصر الدولة الفاطمية أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمراً لجنوده بأن يمروا على البيوت ويدقوا على الأبواب بهدف إيقاظ النائمين للسحور, ثم تم لاحقاً تخصيص رجل للقيام بمهمة المسحراتي كان ينادي: (يا أهل الله قوموا تسحروا)، ويدق على أبواب المنازل بعصا كان يحملها في يده.
ويؤكد عبدالحافظ تطور شكل المسحراتي في هيئته التاريخية المعروفة, فقد دخلت الطبلة كأهم أدوات المسحراتي ليدق عليها بدلاً من استخدام العصا, هذه الطبلة كانت تسمى (بازة) ويدق عليها المسحراتي دقات منتظمة، ثم تطورت مظاهر المهنة فاستعان المسحراتي بالطبلة الكبيرة التي يدق عليها أثناء تجوله بالأحياء وهو يردد العديد من الأشعار التي تستهوي الأطفال خاصة المقيمين في الأحياء الشعبية، وينال المسحراتي أجره عقب انتهاء الشهر الكريم، ففي قرى ومدن محافظات الصعيد والدلتا وأحياء القاهرة تتنوع الهدايا التي يحصل عليها، فبعض المواطنين يفضلون منحه كعك العيد والبعض الآخر يكتفي بمنحه المال خاصة الأثرياء, وقليل من المواطنين يمنحونه بعض الملابس، وفي كل الأحوال يحرص الأطفال على أن يسيروا خلف المسحراتي كي يودعونه بأغنيات ينشدها ويرددونها خلفه.
ويشير عبدالحافظ إلى بعد تاريخي في تلك المهنة التي لم يحتكرها الرجال فقد شاركت النساء بالمهنة في عهد أحمد بن طولون, حيث كانت تنشد النساء الأناشيد من وراء المشربية (النافذة), ومن الشروط الواجب توافرها في النسوة العاملات بها أن يتمتعن بالصوت الندي الجميل وألا تكون من الغرباء عن الحي الذي تمارس عملها به.
وتعتبر (الست إحسان) أول سيدة تمتهن مهنة المسحراتي التي ورثتها عن زوجها في القرن الـ19 الميلادي, والسيدة أم جليلة التي عملت فيها تحت وطأة الحاجة عقب وفاة زوجها تاركاً لها 6 أبناء, والسيدة أم سحر وهي مسحراتية بالوراثة فمنذ الطفولة ورثت المهنة عن أبيها.
أجواء رمضان فى المسرح
المخرج المسرحي زين نصار الذي قدم عملاً مسرحياً مستوحى من تيمة شعبية عن الأجواء الرمضانية في حي الحسين بمشاركة الفنان التشكيلي مجدي ونس؛ يشير إلى أن مهنة المسحراتي باتت تواجه خطر التلاشي والانقراض مع تزايد اعتماد الناس على وسائل اتصالات عصرية وازدياد الاهتمام بالتلفزيون والفضائيات التى قلصت دوره خاصة بعد أن أصبحت معظم الفضائيات تقوم بتصوير أعمال باسم المسحراتي يقوم ببطولتها مطربون وتقوم بإذاعتها عند وقت السحور، ويشير نصار إلى أن الفضل في ذيوع تلك الأعمال يعود لبيرم التونسي وفؤاد حداد وسيد مكاوي الذين أبدعوا حتى نقلوا المسحراتي من الشارع إلى ميكروفون الإذاعة وشاشة التليفزيون.
كما يواجه المسحراتي تهديداً من وسائل الاتصالات الحديثة ومن بينها الخدمات التي تقدمها شركات الهواتف المحمولة والتي من بينها خدمات تقدم للصائمين، ويعترف زين نصار بأن سكان الأحياء الراقية في العاصمة لايحفلون بوجود المسحراتي.
أسواق رمضانية
لايمكن للمصريين أن يقدموا على الشهر الكريم من غير أن يتزودوا بأطايب الطعام والشراب وخاصة الحلويات الشهيرة برمضان التي تزخر بها أسواق القاهرة التاريخية.
ويمكن القول إن الباحث في التاريخ الإسلامي والمرشد السياحي محمد عبدالرحيم ممن تشكل تلك السوق مصدر عمل لهم، حيث يصطحب معه بشكل يومي السياح الألمان ضمن برنامج رحلتهم لمصر.
يقول: تشهد تلك الأسواق رواجاً كبيراً ليس فقط بالنسبة للمصريين وإنما بالنسبة للأجانب الذين يتوافدون لحي الحسين والغورية كجزء من نشاطهم عند زيارة المعالم الأثرية للقاهرة. و من الأسواق التاريخية سوق السمكرية داخل باب زويلة (بوابة المتولي بالغورية)، والذي يحفل بمختلف أنواع (الياميش) و(قمر الدين), وكانت وكالة (قوصون) شارع باب النصر التي ترجع إلى القرن الثامن الهجري مقر تجار الشام ينزلون فيها ببضائع بلاد الشام من الزيت والصابون والفستق والجوز واللوز والخروب. ثم انتقلت تجارة المكسرات إلى وكالة مطبخ العمل بالجمالية، وكانت مخصصة لبيع أصناف الياميش وخاصة الجوز واللوز.
وقد كانت الأسواق التاريخية في القاهرة القديمة مثل (سوق الحلاويين) التي كانت تعد من أكثر الأسواق ازدحاماً، حيث كان يصنع فيه العديد من أنواع الحلوى ومازالت تلك الأنواع تصنع حتى الآن, وتم تطوير العديد منها بأشكال متعددة مثل الأحصنة ومدفع رمضان والخيول والعرائس وجميعها مصنوعة من السكر ويقبل عليها الأطفال.
ويشاركنا الحديث أحد تجار تلك الأسواق وهو الحاج عبدالرشيد عبدالرحمن، الذي تخصص في بيع السلع الرمضانية ومن أبرزها ياميش رمضان والفوانيس؛ يقول: منذ بداية نشاطي قبل أربعين عاماً وأنا لا أعمل إلا في تلك المهنة وعلى مدار العام لنا زبوننا الخاص الذي يقدم على شراء الحلويات المختلفة, لكن شهر رمضان يمثل لنا مناسبة كبيرة للرواج، حيث تتوافد ربات البيوت من كافة أحياء القاهرة لشراء السلع الخاصة بذلك الشهر الفضيل. ويضيف عبدالرشيد: رغم أن المحافظة تضيق علينا وتطالبنا بالرحيل من السوق بزعم أننا نقوم بنشاط مخالف ونعيق حركة السير إلا أننا نقاوم تلك الضغوط، ونصر على البقاء لأننا ورثنا تلك التجارة عن آبائنا ولانعرف غيرها.
مولد الكنافة
في حي السيدة زينب الشهير يقبع أحد أقدم الحلوانية الذي يبلغ عمر متجره قرناً، وورث عنه المهنة أحفاده وهو الحاج عرفة وله زبائنه من أنواع الحلويات التاريخية التي يشتهر بها رمضان منذ عدة قرون كالقطايف والكنافة, والأخيرة نشأ حولها خلاف تاريخي بين المؤرخين فيرى البعض بأنها صنعت خصيصًا للخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك، بينما يرى آخرون أنها صنعت للخليفة معاوية بن أبي سفيان.
الناقد عبدالقادر تليمة يشير إلى أن الكنافة والقطايف كانتا موضعاً مهماً للمساجلة والتنافس بين الشعراء في حضرة الولاة, فجلال الدين السيوطي له رسالة عنوانها: (منهل اللطايف في الكنافة والقطايف).
موكب الخليفة
أما سوق الشماعين بالنحاسين الذي ظل قبلة للمواطنين خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين، خصوصاً خلال شهر رمضان الذي يمثل موسماً لشراء الشموع الموكبية التي تزن الواحدة عشرة أرطال, وكان الأطفال يلتفون حول الشموع وبأيديهم الفوانيس يغنون خلف الموكب المنير في الحواري من بعد الإفطار حتى صلاة التراويح. وكان موكب الخليفة يبدأ من بين القصرين المعروف بشارع المعز بالصاغة، ويسير في منطقة الجمالية حتى يخرج من باب الفتوح, أحد أبواب سور القاهرة الشمالية، ثم يدخل من باب النصر عائدًا إلى باب الذهب بالقصر، وفي أثناء الرحلة توزع الصدقات على الفقراء والمساكين، وحينما يعود الخليفة إلى القصر يستقبله المقرئون بتلاوة القرآن الكريم في مدخل القصر ودهاليزه حتى يصل إلى خزانة الكسوة الخاصة، فيغيِّر ملابسه ويرسل إلى كل أمير في دولته بطبق من الفضة مملوء بالحلوى، تتوسطه صرة من الدنانير الذهبية وتوزع الكسوة والصدقات والبخور وأعواد المسك على الموظفين والفقراء، ثم يتوجه لزيارة قبور آبائه حسب عاداته، فإذا ما انتهى من ذلك أمر بأن يكتب إلى الولاة والنواب بحلول شهر رمضان.
موائد الرحمن
من بين أشهر العادات التي يعرفها المصريون موائد الرحمن التي تنتشر في سائر المدن وتعد أبرز وشائج التعاون والثقة بين المصريين، حيث تعد بالنسبة للفقراء فرصة طيبة لتناول الإفطار بدون مقابل مما يعضد من العلاقة بين الفقراء والأغنياء وتزخر أحياء العاصمة والأقاليم بالعديد من تلك الموائد، غير أن السؤال الذي يفرض نفسه متى نشأت تلك الموائد؟ يقول الدكتور عبد الحليم نورالدين أستاذ الآثار ورئيس الهيئة العامة للآثار الأسبق: من الحقائق التاريخية المتفق عليها أن الخليفة الفاطمي العزيز بالله أول من عمل مائدة في شهر رمضان يفطر عليها أهل مسجد عمرو بن العاص. وفي العصر الفاطمي كانت تمتد آلاف الموائد للصائمين من الفقراء وعابري السبيل بهدف تجسيد قيم الإسلام. وكان الخليفة العزيز بالله ومن بعده المستنصر بالله يهتمون بموائد الإفطار التي تقام في قصر الذهب للأمراء ورجال الدولة، وكذا التي تقام في المساجد الكبرى للفقراء والمساكين حتى بلغت نفقات شهر رمضان مدة 27 يوماً ثلاثة آلاف دينار.
رمضان عند الصوفيين
لشهر رمضان عن الصوفيين منزلة خاصة, فهم يحيون أيامه ولياليه ويحرصون على الاستعداد له منذ ليلة رؤية الهلال, وفي ذلك يقول الشيخ محمد الشهاوي شيخ الطريقة الشهاوية: بالطبع نحن ننتظر هذا الشهر بالأشواق لكونه شهر المكرمات والثواب العظيم لكل مجتهد كما أنه شهر التآلف بين المسلمين لذا نحرص في الطريقة على أن نقيم العديد من الأنشطة وأهمها إحياء لياليه التي تبدأ بصلاة التراويح وتستمر عدة ساعات. ويضيف الشهاوي: ونحن نعتقد في أن أهم خصال ذلك الشهر تتمثل في طلب النصح والتعاون بين الأمة, ويمثل بالنسبة لكافة المنضمين تحت لواء الصوفية فرصاً لاتتوافر على مدار العام في تطهير القلوب ونزع الشهوات منها وعدم التعلق بشهوات الدنيا الفانية.
ويقول الشيخ عبد الهادي القصبي شيخ مشايخ الطرق الصوفية: شهر رمضان هو شهر القرآن الكريم بلا منازع، لذا فإن الاجتهاد فيه يعد أصلاً من الأصول التي اتفقت عليها الأمة وعلماؤها, وعادة ما يكون مناسبة مهمة لتجديد الروح والعهد على الطريق الذي يريده المسلم في حياته. ويضيف: بالنسبة للمتصوفة فهم يحرصون خلال الشهر على جمع حسنيي الدنيا والآخرة، حيث تقام موائد الرحمن وتحرص الطرق على إقامة حلقات الذكر وصلاة التراويح التي هي من أهم معالم الشهر الكريم, ومن قبيل لاتنسى حظك من الحياة الدنيا فإن الشهر فرصة أيضاً للكبار والصغار معاً لتناول أطايب الطعام.
الشيخ يوسف البدري يرى أن شهر رمضان هديه من السماء لكل تائب وعاص يبحث عن المغفرة لأن فيه ليلة خير من ألف شهر وهي ليلة القدر. وينتقد البدري الإسراف في المأكل والمشرب حيث يرى أن أهم فائدة ينبغي أن تحصل في هذا الشهر تتمثل في الدعوة للاقتصاد وكثرة إخراج الصدقات على الفقراء والمساكين, كما أن أهم ما ينبغي على المسلم أن يقوم به هو إحياء ليالي الشهر الكريم في التهجد والعبادة.
صناعة الفانوس
الفنان التشكيلي مجدي ونس يرى أن أهم ما يميز هذا الشهر هو ازدهار عدد من الصناعات التي لا تظهر إلا خلاله، ومن أبرزها صناعة الفوانيس, حيث بدأت منذ العصر الفاطمي بظهور طائفة من الحرفيين المتخصصين في صناعة الفوانيس بأشكالها المتعددة. ولم يتشكل الفانوس في هيئته الحالية إلا في مع مطلع القرن العشرين، وأصبح يستخدم إلى جانب لعب الأطفال في تزيين وإضاءة الشوارع ليلاً, كما كانت وظيفته الأصلية خلال شهر رمضان. ويضيف ونس: للفانوس أشكال محددة عند ابتكاره, ومع مرور الوقت أبدع الصناع أشكالاً جديدة له غير أن الفانوس التقليدي الذي تقتنيه العديد من الأسر سواء للزينة أو لأطفالها يواجه منذ أعوام تهديداً ينذر بزوال عرشه بسبب دخول الصين ذلك المجال من خلال ابتكار العديد من أشكال الفوانيس غير التقليدية التي لاقت إقبالاً كبيراً بسبب رخص سعرها وتعدد ألوانها ووسائل إضاءتها.
وحول النشأة التاريخية للفانوس يقول مجدي ونس: عرفه المصريون لأول مرة عند دخول المعز لدين الله الفاطمى القاهرة ليلاً فاستقبله أهلها بالمشاعل والفوانيس وهتافات الترحيب وقد تحول الفانوس من وظيفته الأصلية في الإضاءة ليلاً إلى وظيفة أخرى أخرى كأداة للتسلية بالنسبة للأطفال طيلة ليالي الشهر الكريم.