مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الفعل الإنساني وصناعة الصورة شخصية المتنبي بين مرجعها الواقعي وحضورها التداولي

تشكل العلاقة بين الذات وعالمها نقطة انطلاق في محاولة البحث عن صورة ذهنية يقوم المتلقي برسمها فكراً وعاطفةً لمن يتصدى له بالاهتمام والمعالجة، وقد تتنوع الصور تبعاً لتنوع الآليات المستخدمة من قبل هذا المتلقي أثناء اللقاء الجامع بين طرفي منظومة الاتصال (المرسل والمستقبل بفضل رسالة الأول المبثوثة إلى الثاني) الذي قد يطول وقد يقصر وما يترتب عليه من أحكام يصدرها هذا المستقبل بعد رحلة في التحليل والتأويل. المهم أن سكنى الذات في منطقة فاصلة بين مرجعها/عالمها ومن يتولون النظر إليها عبر أنساقها الفعلية الصادرة عنها؛ يمثل المرتكز الأهم في هذه العملية التي تحدها أبنية إنشائية تساؤلية تقوم على مفاتيح للمعرفة من نوع:
من..؟
ماذا..؟
لماذا..؟

إن الصيغ الثلاثة تفضي إلى وظائف عدة يؤديها النظام اللغوي القائم على الإخبار والإعلام من خلال من وماذا، والمتصل بالجانب الفلسفي الذي يعانق ما هو ثقافي، لماذا قالت الذات أو فعلت ذلك بهذه الكيفية؟ وتبدو خيارات القارئ معتمدة على رصيد معرفي بإزاء الحالة (الشخصية والنص) موضع الاهتمام، وعلى تراكم خبرات وتجارب يتيح لها المقارنة ثنائية الأطراف أو متعددة الأطراف، ومن ثم تأتي الصورة أو ما يمكن تسميته صياغة القالب/النموذج الذي يتم من خلاله وضع الذات المرسلة فيه بمثابة مرآة عاكسة وكاشفة لأنساق فاعلة متنوعة تتضافر جميعها في صناعة هذا النموذج:
- نسق المرجع المحيط بالذات/الشخصية
- نسق الاستقبال المعانق لتجربة المتلقي والخاضع لقناعاته وللوعاء الحامل خبراته وتجاربه.
- نسق الرسالة المنجزة نفسها وما يتعلق بها من هيئات تتصل بصياغتها التشكيلية وبما يمكن أن تفضي إليه من قيم فكرية تترك أثراً محدداً في وعي من يستقبلها.
وتحاول هذه الورقة المقالية عبر هذه السطور الدخول إلى هذا العالم الرحب عالم المتنبي من بوابة نسق تساؤلي مفاده: ما الذي يجعل المتنبي بهذه الهيئة من العظمة والمجد والسمو والمثالية في عيون من يؤيدونه؟ وما الذي يجعله بصفات سلبية من مثل: الغرور، الثقة الزائدة بالنفس الواصلة حد النرجسية، وتوظيف موهبته الشعرية في سبيل تحقيق غايات سلطوية يعلو بها على من حوله أو على أقل تقدير بحثاً وطلباً لمال..؟
وتعتمد هذه الورقة للانطلاق إلى محاولة تلمس جواب لن يكون نهائياً قاطعاً في كل الأحوال على أمرين في البداية: مفتتحات، ومنطلقات:


مفتتحات
أ‌- يقول ربنا في كتابه العزيز: (الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن 1 : 4).
وفي البيان باللغة طريقان: طريق الوضوح/المباشرة في التعبير عن الفكر والشعور، وطريق المجاز/الخيال الذي يرحل بالوعي من شاطئ إلى شاطئ. وكانت مطية المتنبي في البيان وجهه الثاني، إنها اللغة بأحد وجوهها التي تظهر بها، تلك اللغة التي قال عنها المتنبي من بين ما قال:
لغتي وأفخر إذْ بُليتُ بحبها
        فهي الجمال وفصلها التبيان
عربية لا شك أن بيانها
            متبسم في ثغره القرآنُ
ب‌- قول نبينا صلى الله عليه وسلم تعليقاً على رجلين قدما عليه من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحرا).
وإذا تم النظر إلى السحر من منظور ديني وشعبي نجد أن فيه نوعين: سحر بالولع والشغف والتعلق كما هو الحال بالنسبة إلى عاشقي المتنبي أبداً، وسحر آخر بالكراهية والنفور والصدود والفراق، كما هو الحال بالنسبة إلى كارهي المتنبي أبداً قديماً وحديثاً.


 منطلقات
أ‌- إن التعامل مع الشخصيات والنصوص، الساعي إلى توخي أكبر قد ممكن من الموضوعية والإنصاف؛ يجب أن ينطلق من المحتوى الدلالي لهذا الدال الأثير (نقد)، القائم على فكرة المقارنة والتمييز والتصنيف، في إطار سياق حُكمي من الضروري أن يتجرد قدر جهده من نوازع الانفعالية أو أية انحيازات سابقة التجهيز مع أو ضد.
ب‌- الفضيلة وسط بين طرفين، فالتوسط والاعتدال يقع بين الغلو والإفراط من جانب، والتفريط من جانب ثانٍ، أو بين التمجيد والتعظيم المبالغ فيه من جانب، والاحتقار والحط من الشأن من جانب ثانٍ.
ت‌- هذه المقولة الأثيرة لابن عباس: (كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر) في إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ث‌- إن هذه الظاهرة المسماة المتنبي قد أثارت في أيامها منذ النصف الأول من القرن الرابع الهجري، وبعد مماتها، حتى عصرنا الحديث؛ جدلاً لم يتوقف، فها هو ذا القاضي الجرجاني ومصنفه: (الوساطة بين المتنبي وخصومه).. وما كتب عنه في عصرنا عبر أقلام تنوعت مشاربها في معالجته بين معارض ومؤيد، ومحاول سلوك سبيل للسير، يبدو فيه متوازناً بين هذا وذاك، فعندنا: طه حسين، والعقاد، والشيخ محمود محمد شاكر في رسالته الشهيرة عنه التي عنيت مجلة المقتطف المصرية بنشرها في عدد مخصوص في يناير من العام 1936م. وهذا المصنف الجامع الذي جاء تحت عنوان: (فتنة التأويل.. المتنبي من النص إلى الخطاب) للمفكر الأكاديمي د.عبدالرحمن عبدالسلام الذي وظف فيه وسيلة بغية تحصيل غاية، إذ جعل من هذه الظاهرة في وسطنا الثقافي العربي (المتنبي) مطية لطرح نقدي جامع ذي صبغة موسوعية تقدم للنخبة من القراء المعنيين بالأدب وبالنقد إطاراً تنظيرياً يجمع في عناصر تكوينه: التركيز على الشكل والقيم الجمالية للنص المهتمة بطرائق صياغته على مستوى المفردة والتركيب والسياق ببعده الداخلي المتصل بعالم القصيدة على المستوى الجزئي وبمجمل إنتاج المتنبي على المستوى الكلي (الديوان)، هنا يظهر جلياً هذا المصطلح الرئيس (الخطاب) الذي يمثل حلقة وصل تربط بين ضفتين: ضفة الشكل وضفة الدلالة، هنا يأتي الجانب الثاني في منجز الدكتور عبدالرحمن، ألا وهو جانب التأويل الذي يفتح أفق النص على قيم فكرية وأنساق دلالية تكشف عن قدرة المتلقي المالك لأدواته في التحليل والاستكشاف في إنتاج أنساق من المعاني تعكس قدرته على مصاحبة النص بوصفه كائناً حياً يتحرك باستقلالية كبيرة وعلى عدم الانغلاق على صلة رابطة بين النص وتجربة صاحبه التي لازمت عملية خروجه إلى النور، تلك الصلة التي تبدو في التعويل الكلي عليها مقيدة ومحجمة لعملية الإنجاز الدلالي هذه.
ج‌- من المنطلقات -أيضاً- أنه يمكن التعامل مع البشر والنصوص في كثير من الأحيان من خلال ما يمكن تسميته بذرة النص التي منها وبفضلها خرج هذا النص، هذه البذرة قد تفسر -بدرجة كبيرة- لماذا يبدو النص بهيئة معينة تسترعي الانتباه والوقوف أمامها، فالمتنبي -على سبيل المثال- في عيون من يحتفي به تأييداً ومدحاً أو رفضاً وذماً بحاجة إلى تفتيش عن البذرة أو العلة التي يمكن أن نزعم إذا ما استطعنا الوقوف عليها أنها أسهمت في كونه على هذه الحالة الجدلية، إنه وفق مدرسة الفن التي ترى في اختيار اللفظة وسبك العبارة -منذ الجاحظ في القرن الثالث الهجري الذي يعد من رواد هذه المدرسة- شاعراً وصل إلى القمة في إبداعه الشعري، لكنه وفق نظر مدرسة أخرى تنظر إلى الفن بوصفه رسالة تنطوي على منافع ذات أبعاد أخلاقية؛ شاعر -بالتصدي لبعض شعره بالقراءة- فيه من رذائل الغرور والكبر الكثير والكثير، شاعر أناني أنفق -كما يرى معارضوه في مسوغات الهجوم عليه- جل عمره وموهبته بحثاً عن المال وبحثاً عن مجد ذاتي فردي يحصله لنفسه ويستعلي به على غيره.
كلا الموقفين يسهم ويساعد ويشجع على محاولة ولوج متأنٍ إلى عالم هذا الرجل تفتيشاً وبحثاً عما يمكن أن يكون عللاً وأسباباً تفسر وتبرر خروج هذه الظاهرة الملبسة (المتنبي) إلى النور التي أثارت -ولا تزال- الجدل إلى يومنا هذا. ولعل لسان الحال في اختيار د.عبدالرحمن عبد السلام للدال (فتنة) في صدارة عنوان مصنفه الأخير عن المتنبي؛ يأتي منسجماً وهذه الحالة.


المتنبي: النسب والنشأة
في هذه الجزئية تنطلق ورقتنا المقالية من سؤال مفاده: هل كان لنشأة المتنبي ولحياته طفلاً وصبياً وشاباً أثر في هذه الهيئة التي بدا عليها، بوصفه شاعراً مجوداً منعوتاً بالمجد والعظمة والإجادة عند محبيه، وبالغرور وبالكبر والثقة الزائدة بالنفس والتطلع إلى المال والسلطة عند من يعارضه؟
إن محاولة البحث عن جواب/خبر لهذا البناء الإنشائي يأتي من بوابة تصور مفاده: (في نظم كل كلام وفي ألفاظه؛ ولا بد أثرٌ ظاهر أو رسم خفي من نفس قائله وما تنطوي عليه من دفين العواطف والنوازع والأهواء من خير وشر وصدق وكذب ومن عقل قائله).
إن المتنبي (أحمد بن الحسين...) المولود في 303هـ، والمتوفى قتيلاً في 354هـ؛ يمكن النظر إلى نسبه من زوايا عدة:
الأولى: التي أشار إليها علي بن المحسن التنوخي من أنه جعفي، وكان أبوه سقاء في الكوفة، وكان مشهوراً باسم عبدان السقا، كان يسقي الناس على بعير له بالكوفة.
الثانية: تفند الأولى وتسعى إلى إثبات نقيضها، ألا وهي ما قدمه الشيخ محمود محمد شاكر من طرح أفاد فيه مما ذكره الأصفهاني من أن نسب المتنبي راجع إلى العلويين الهاشميين، وأن أباه الحسين -وليس الذي اشتهر بعبدان السقا- كان علوياً شريفاً، قد أُجبر على تطليق أمه بعد أن حبلت منه، وقد ساعد الشيخ شاكر على هذا الطرح ما أورده الأصفهاني من تردد المتنبي وهو صغير على دور التعليم التي لم يكن يقصدها سوى أبناء العلويين وحدهم. ودخول واحد من أبناء الفقراء، أبوه كان سقاء؛ هذه الكتاتيب؛ يبدو أمراً عجيباً غريباً يسترعي التفتيش في علله، وقد يُفهم منه أن بين جدة المتنبي -التي تعهدته بالرعاية والتربية بعد وفاة أمه وكانت من النساء الحازمات صلحاء الكوفة- وبين العلويين سبباً موصولاً قوياً هو الذي شرح صدورهم وأرضاهم أن يدخلوا بين أبنائهم غلاماً كان أبوه سقاء.
الثالثة: تفند الثانية وترى أن المتنبي نسبه جعفي، وأن محاولة الشيخ شاكر تبيان أو إثبات هذه الصلة في النسب بناء على مبررات معينة بعضها متصل بما نقله الرواة، مثل الأصفهاني يأتي منسجماً مع طقس عام مخيم على موقفه من المتنبي المبني على انحياز له، ومحاولته سلوك مسلك الرد على من هاجموه، وقد حرص صاحب فتنة التأويل على تقديم أطروحات تفصيلية متأنية في هذه المسألة من خلال معالجة موضوعية لها.
نحن إذاً بصدد شخصية تعاني منذ الصغر ألم الفقد بأشكاله، فقد الأب والأم، وفقد الجدة الحانية عليها، الباثة فيها معاني الجدة والنبوغ والتحقق وإدراك معالي الأشياء، وفقد النسب الذي يمكنها أن تفخر به وتجهر وأن تحقق لنفسها احتواء وأنساً وسكناً وشعوراً بالأمن من خلاله، إنه لم يكن يجهر بنسبه وفي ذلك أطروحات عدة تسعى للوقوف على السبب:
الأولى: ما ذكره عدد من رواة الأخبار نقلاً عن المتنبي نفسه في بيان علة كتمانه النسب: خشية أن يكون بين قومه وقبيلة من العرب ثأر فيؤخذ به، أو أن المرء بفعله لا بنسبه، أو أن ذلك يتيح لمن يتلقى شعره الاهتمام فقط بما يصدر عن لسانه لا بمن هو نسباً.
الثانية: التي حاول أن يزكيها الشيخ محمود محمد شاكر في رسالته عن المتنبي من أن جدته التي تعلم وأعلمته بنسبه العلوي هي من أخذت عليه المواثيق ألا يجهر بذلك خشية عليه وعليها من بطش العلويين الذين لم يكونوا مرحبين بزيجة واحد منهم بهذه المرأة أم المتنبي.
الثالثة: التي يتبناها صاحب فتنة التأويل د.عبدالرحمن عبدالسلام من أن حرص المتنبي على عدم الجهر بنسبه مرده إلى وضاعة هذا النسب على مقياس من مقاييس أهل هذا الزمن وتصنيفهم للناس رفعة أو حطاً بناء على القبيلة التي ينتهي إليها الفرد، فكيف لواحد شديد الاعتداد بنفسه أن يدعي عبر شعره علواً ومكانة وهو ابن لرجل سقاء ونسبه على هذا النحو؟!
إن المتنبي إذاً لم يجد وعاء جمعيّاً إنسانيّاً يحتضنه ويأويه ويكون منسجماً مع نفسه التواقة للمجد؛ فكان نتاج ذلك مزيداً من الاعتداد بضمير الأنا الذي يمثل الضمير الأبرز في بنيان عالمه الشعري، هذا الضمير يقف وراء غلبته وسيادته فاعل مضمر آت من سياق ثقافي محيط بتجربة الشاعر في عالمه وأثرها القوي على تركيبته الذهنية والنفسية.
إن من المرتكزات المهمة إذاً في التعامل مع الأديب عموماً -والمتنبي نموذجاً- هذه الثنائية الإطارية: ثنائية التجربة الشعورية المتصلة بالذات في علاقتها بعالمها وما يلقيه عليها هذا العالم من ظلال تترك أثراً فيها، من تجلياته الطرف الثاني في هذه الثنائية، ألا وهو التجربة الشعرية التي تعد بمثابة نتيجة جمالية لهذا السبب.
إذن يمكن مع نموذج مثل المتنبي أن نرصد هذا القانون الفيزيائي الشهير: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، هذا القانون الذي يمكن أن نقدم من خلاله إجابة عن ذاك السؤال الأشهر: لماذا المتنبي... في عين من رفعه ومجده؟ وفي عين من رأى غير ذلك فيه؟
إن الشعور بالفقد الواقعي نتج عنه ما يمكن تسميته وفق الجهاز الاصطلاحي لعلم النفس (الكبت) على هذا الشعور ترتب عليه لدى واحد مثل المتنبي نسق سلوكي مؤسس على التنفيس والتعويض، فبغض النظر عن الطروح المعالجة لمسألة النسب فإن النتيجة تبدو واحدة هي أننا أمام شخصية محرومة ترى في مساحتها الحياتية فراغاً ونقصاً سعت إلى ملئه بوجود عبقري مميز، ألا وهو الوجود بالإبداع الذي لازمه إحساس بالعظمة لم يفارقها، بدت تجلياته واضحة في كثير من محطات حياتها، مع سيف الدولة الحمداني، ومع كافور ومع غيرهما، إنه لم يكن كقرنائه من الشعراء يعطي لمن يدفع أكثر أو يتزلف، بل كان يمدح وفق شروطه هو فكان يلقي الشعر على سيف الدولة قاعداً لا واقفاً كغيره -على سبيل المثال- إن هذه الفاعلية الواقعية في التجربة الشعورية للمتنبي تفسر لنا منطوقاته الشعرية الآتية وما على شاكلتها:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
        وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخرُ كلِّ من نطق الضا
        د وعوذ الجاني وغوث الطريد
وقوله:
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
        بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
إن الجدة التي لم يتمكن من العودة من الشام إلى الكوفة للقاها في الفترة التي جهر فيها بنسبه العلوي؛ تعد من المؤسسات المهمة لشخصية المتنبي، وما اعتراها من معاني الثورة والطموح وطلب المجد، فهي التي غرست فيه هذه القيم وهو صغير، وهي التي اشتاق لرؤياها لكنه لم يستطع، فزاد ذلك من شعوره المتأجج بالتمرد وبالرغبة في طلب الثأر:
هبيني أخذت الثأر فيك من العدى
        فكيف بأخذ الثار فيك من الحمى
نعود ونقول: إن هذه الحالة الفاعلية الواقعية الملتحمة بشخصية المتنبي قد أسهمت بدرجة مؤثرة في صناعة هذا المفعول الإنساني، الذي يقوم بناؤه على عمد مهمة تتجلى في الاعتداد الزائد بالأنا وبالجدارة بكل ما هو عظيم على مستوى الواقع وفي عالم الإبداع، كما في هذه الأبيات المتفرقة على سبيل المثال، من قصيدته التي يعتب فيها على سيف الدولة الحمداني بعدما كان منه من قطيعة وخصام أدت في نهاية المطاف إلى خروجه من حلب:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
        والسيف والرمح والقرطاس والقلم
...
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
        وأسمعت كلماتي من به صمم
...
أنام ملء جفوني عن شواردها
        ويسهر الخلق جراها ويختصم
إن هذه الحالة الواقعية ذات الصبغة المأساوية عند المتنبي المتصلة بنسبه وبظروف تربيته ونشأته قد ولدت شعوراً بالقهر أفضى إلى كبت، كانت ردة فعله الفنية بمثابة الضد الكاشف عنها.
وما قيل بشأن قضية ادعائه النبوة سواء أكان صحيحاً بالفعل أم افتراء عليه، أم كان على سبيل المبالغة والمجاز لأبيات من الشعر قالها، مثل:
ما مقامي بأرض نخلة إلا
        كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها الله
        غريب كصالح في ثمود
لا يعدو أن يكون شكلاً من أشكال ردة الفعل هذه، إن افتقاده لـ(النحن) في الواقع وما يحمله من معاني التواد والترابط والقربى والاحتواء والانتماء قد أسهم بشكل كبير في إفراز هذه الأنا الفردية شديدة التوهج بإحساسها بالعظمة والعلو مع شعور بالاغتراب والوحشة في الوقت ذاته.
من خلال هذا الطرح الأخير يمكن -على سبيل التوسع- معالجة مدائحه الشعرية في جُلها التي أثارت حفيظة معارضيه من بين ما أثارت ضده على أنها مظهر من مظاهر التجريد -هو مصطلح بلاغي من مصطلحات علم المعاني- عندما تجرد الذات من نفسها كياناً آخر تفصح عنه في منجزها اللغوي في صيغة المخاطب أو في صيغة الغائب، وما هذا الكيان في حقيقة الأمر إلا هي، فكأنه في مدائحه لواحد مثل الحمداني (سيف الدولة) إنما هو على سبيل الرمز يمدح نفسه التي يجب أن تكون ويحب لها أن تكون في مرتبة الحاكم لا المحكوم، وفي مرتبة الراعي لا الرعية، وفي وضعية عالي النسب لا وضيعه. الأمر الذي يجعل من مدحه بمثابة بنية استعارية تمثيلية في عمق بنيتها التصويرية (أنا المتنبي) وحلمه وذاته المتحققة كاملة الوجود غير المتألمة لنقص أو حرمان، ومن ثم تصير لغته الشعرية بالنظر إلى غرضي الفخر والمدح سائرة في مستويين من المجاز: مجاز قريب سمته المباشرة ومجاز أعمق وأبعد يقوم على الرمز والغموض عندما تتشخص ذاته التي يحلم بإدراكها في ثوب إنساني واقعي كثوب سيف الدولة أو الإخشيدي على سبيل المثال.
وهكذا يمكن أن نقرأ على سبيل المثال لا الحصر أبياتاً للمتنبي في المدح كهذه التي يخاطب بها سيف الدولة:
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقف
        كأنك في جفن الرَّدى وهو نائم
تمر بك الأبطال كَلْمَى هزيمةً
        ووجهك وضاحٌ، وثغرُكَ باسم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
        إلى قول قومٍ أنت بالغيب عالم
وفي مطلعها قوله:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
        وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
        وتصغر في عين العظيم العظائم
ولا شك في أن هذا الطرح ما هو إلا حلقة صغيرة في سلسلة حلقات منعقدة منذ القدم يبدو أنها لن تتوقف في الاقتراب من هذه الظاهرة الثقافية العربية المسماة المتنبي لما لها من أثر وحضور في كتاب الفن العربي الذي يشغل المتنبي حيزاً في باب من أبوابه، ألا وهو باب الشعر.

ذو صلة