قال أبو عبدالرحمن: والمشتهر في الفلسفة تقسيم القيم والمعايير إلى ثلاثة أقسام: قيمة منطقية مصدرها العقل، وقيم خلقية موضوعها السلوك؛ ومنفعته، ومصدرها العقل.. وقيم جمالية مكانها القلب مما يحصل له من الجميل من سرور ولذة وبهجة؛ ومصدر الحكم فيها للعقل القاضي باتباع الدين الصحيح ثبوتاً ودلالة؛ والمحقق أنهما قيمتان وحسب: قيمة وجدانية؛ وهي المشاعر من لذة وألم وفرح وترح.. إلخ، وقيمة منطقية مصدرها الفكر تصوراً وتصديقاً.. وإذا قيل: (القيمة الدينية): فليس معنى ذلك أن الدين قيمة ثالثة؛ بل الدين قيمة منطقية وجدانية؛ وإنما النص الشرعي هو مصدر الأحكام الشرعية خبراً وإنشاءً؛ فالفكر بقيمه المنطقية مبرهن على ضرورة الدين وصحته وعصمته إجمالاً، ومبرهن ومصدق بأخباره وأحكامه تفصيلاً.. وحلاوة الإيمان وبهجته وأشواقه الروحية: وجدانات في القلب؛ إذن الدين معقول بالنص، خلقي بالنص، جمالي بالنص.. أي أن المصدر نص تشهد لمدلوله القيم؛ والله سبحانه وتعالى فوض إلى العقول والقلوب المؤمنة أموراً من شؤون الدنيا ندرك بها الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، والخير من الشر، والجمال من القبح؛ ذلك أن العقول، ووجدانات القلوب: من مصادر التشريع فيما فوض إليها كما في قوله سبحانه وتعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) (سورة الإسراء 36)، وكقوله سبحانه وتعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون) (سورة الأحقاف 26).. والشرع المطهر تدخل في بعض المقتنيات والممارسات بتحريم، أو كراهية، أو بإباحة مفضولة؛ وليس ذلك لبطلانها أو قبحها في نفسها؛ وإنما ذلك لغيرها، فالذهب والحرير جمال وزينة وعظمة وكمال يحكم العقل بحسنهن، وتوجد آثار جمالهن ولذتهن في القلب؛ ومع هذا حرمهن ربنا على الرجال لمصالح كثيرة منها الرأفة بمشاعر الفقراء، وتصريف الورق فيما وضع له؛ من حيث يكون ثمناً للأشياء، ومنها الزهد في هذه الدنيا القصيرة؛ لتحصل المتعة الدائمة في الآخرة لقول الله سبحانه وتعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) (سورة الأحقاف 20)؛ ففي ذلك بعد عن صفة أهل الكفر.. وقد يحرم الله الجميل في الدنيا ابتلاء للعبودية والطاعة؛ فيعوض الله المطيع بجمال أبدي في الآخرة؛ فإن المؤمن يربي لحيته وذلك شاق عليه، ثم يدخله الله الجنة أمرد ملتذاً بهذه الحِلْية، وقد ورد النص الشرعي الصحيح بذلك.. (صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يبعث الناس يوم القيامة في صورة آدم (عليه صلوات الله وسلامه وبركاته) جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين، ثم يؤتى لهم بشجرة في الجنة؛ فيكسون منها.. لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم؛ وهكذا روي مرفوعاً بإسناد حسن عن معاذ بن جبل، وأبي كريمة رضي الله عنهما.. وفيه أحاديث ضعيفة ترتقي بمجموعها إلى الحسن إسناداً، وتصح متناً بغيرها.. انظر (صفة الجنة) للحافظ أبي نعيم الأصبهاني مع تخريجات محققه علي رضا بن عبدالله بن علي رضا 2 / 99 - 104 و108 / دار المأمون للتراث / الطبعة الثانية ص1415هـ).. ولقد حرم الله على عباده شرب الخمر، وأباح لهم قليلاً من الغناء في نطاق ضيق بدون آلة، ثم عوضهم في الجنة بخمرة لذة للشاربين بريئة من أضرار خمر الدنيا كما قال سبحانه وتعالى: (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون) (سورة الصافات 47).. وعوضهم بغناء القيان المطرب، وكلماتها بلا ريب بريئة من الفحش، وأجزم بدلالة أحوال يوم القيامة أنها تمجيد للرب سبحانه وتعالى وتسبيح، وتهنئة لأهل الجنة والشعر إذا تجرد مضمونه من واجب أو مستحب: أصبح مباحاً مستوي الطرفين تارة، ومفضولاً تارة، وقد يصل إلى المحرم والمكروه بمقدار ما يصد عن الواجب وعزائم الأمور، وقد يصل إلى المستحب بمقدار ما ينشط على الواجبات والمستحبات.. وتحديد معنى الجمال بتعريف جامع مانع شبه متعذر من الناحية الاصطلاحية.. ومن طول معاناتي لهذه المسألة خلال ثلاثة عقود أو تزيد: اتضح لي أن الأصل في حقيقة الجمال بمعناه الوضعي اللغوي ما تأتى عن حاسة البصر من الصور والمرئيات؛ فالجمال موضوع لشيئين ليس أحدهما أولى من الآخر.. الأول ما حصل من المرئي من بهجة ولذة وسرور ورضا في القلب؛ وهذا الحاصل مجرد من النفع والغاية والشهوة؛ فهو التذاذ قلبي بهذا المرئي وحسب.. والثاني صفات في المرئي عرف باستقرائها واستقراء أضدادها وباستقراء القلوب المتذوقة لها: أنها هي الباعث للذة القلبية؛ إذن الجمال لغة يدل على الصفات في الموضوع، وعلى انطباعاتها في النفس.. ولو اتفقت كل القلوب على الالتذاذ بجميل ما: لكانت صفات ما هو جميل ثابتة.. بيد أن إحساس القلوب مختلف وفقاً للدين والمذهب والثقافة والتربية والمزاج؛ إذن الجمال وجداناً نسبي، والجمال حكماً ورجحاناً يخضع لمقاييس عقلية وخلقية؛ فيرجح جمال على جمال بذائقة الأرفع ثقافةً وتفكيراً، وبالأكثر تديناً إذا كان تذوق جميل ما غير متأثر بالدين والمعتقد، ثم توسعت لغة العرب التي نزل بها الشرع فأطلقت الجمال على ما أبهج القلوب مما ليس مصدره البصر؛ وذلك ما جاء عن حاسة السمع.. وقد يتجوز به عما جاء عن الذوق أو الشم أو اللمس، وتجوز به عن المعقولات من الأخلاق والأفكار والأحكام.. ووجه المجاز في كل ذلك الاكتفاء ببعض معاني الجمال كالجمال النفسي (لذة القلب) وإن لم يصدر عن صفات مرئية؛ إذن الجمال وجدان نفسي وهو نسبي؛ لأنه قد يكون عند زيد جميل ما ليس جميلاً عند عمرو، والجمال حكم في الموضوع؛ فتحكم بأن تلك الصفات هي التي أثارت الإحساس بالجمال عند فئات من الناس.. والجمال كما هو قيمة وجودية: فهو موضوع للحكم من معيار عقلي أو خلقي أو ديني: يحكم بأن ذلك الجمال نافع، أو ضار، أو غير معقول؛ لأن غيره أولى منه.. وخير سبيل لإحصاء ما هو جمال: أن تحصي من اللغة الألفاظ الدالة على معنى أو معاني يحكم بأنها جميلة أو قبيحة.. (يرد إحصاء اللغويين في الكلام عن الخصال في مثل كتاب (المخصص) لابن سيده، كما يبحث ذلك الصرفيون كما في كتاب (سيبويه) 4 / 28 - 30 في كلامه عن أوزان الخصال الجميلة والقبيحة)؛ فتحصي معاني الجمال من معاني مرادفاته أو مرادفات أجزائه، وتزيد تبييناً لها من معاني أضدادها؛ فتجمع في التعريف وتمنع، ثم ما كان أساسه رؤيةً بصرية فهو المعنى الحقيقي.. والبحث في حكم الإحساس بالجمال شرعاً يجب أن يكون بعد تبين معاني الجمال لغةً في الحقيقة والمجاز، وبعد التفريق بين الجمال وجداناً والجمال حكماً وترجيحاً.
قال أبو عبدالرحمن: التعريف اللغوي لمادة الجيم والميم واللام عزي إلى سيبويه أنه عرف الجمال برقة الحسن.. (انظر تاج العروس 14 / 121- بتحقيق علي شيري/ دار الفكر ببيروت عام 1414هـ).. إلا أن اللغة لا تساعد على هذا؛ لأن الكثرة والعظمة ملحوظة في معاني الجمال؛ ولأن معاني مادة الجيم والميم واللام تدور حول الضخامة والفخامة والحسن؛ فمن الأول الجمل؛ فهو عظيم الخلق ضخم، والجمل؛ وهو حبل غليظ، وجمالات؛ وهو حبال السفينة لإرسائها؛ وصف بذلك لضخامته.. وأجمل الشيء جمعه وحصله؛ وبالجمع تحصل الضخامة؛ والجميل ودك الشحم المذاب؛ فلما كان الودك خلاصة الشحم كان بمعنى جملته وإحصائه؛ فالجميل هنا من معنى الضخامة.. ورأى ابن قتيبة أن الجمال بمعنى الحسن مأخوذ من الجميل بمعنى الودك؛ لأن ماء السمن يجري في وجنات آكله.. (انظر مقاييس اللغة 1 / 418).
قال أبو عبدالرحمن: هذا الجريان مستحسن للنفع، ولا يعني أن كل سمين يكون جميلاً في الرؤية البصرية، وقد أسلفت أن الأصل في الجمال ما صدر عن رؤية بصرية.. وذكر السمين رحمه الله تعالى هذا الاشتقاق بوجه آخر؛ فقال: (قيل: منه الجمال وهو الحسن؛ لأنه يكون من أكل الجميل).. (عمدة الحفاظ1 / 393).
قال أبو عبدالرحمن: وههنا وجه آخر، وهو تجمل العرب بالدهن.. قال الراغب رحمه الله تعالى في (المفردات) ص203: (الجميل الشحم المذاب، والاجتمال الادهان به.. وقالت امرأة لبنتها: تجملي وتعففي: أي كلي الجميل، واشربي العفافة).. والعفافة ما بقي في الضرع من اللبن.. وعند الراغب: (أن الجمال كثرة الحسن.. (المفردات ص 202، و(بصائر ذوي التمييز) للفيروز آبادي رحمه الله تعالى 2 / 395)؛ ومنهم من يرى أن الضخامة مشتقة من الحسن.. قال السمين: (قيل: وسمي الجمل جملاً لأن فيه جمالاً عند العرب؛ ولذلك أشار إليه ربنا.. (قال أبو عبدالرحمن: الأسلم: ولذلك قال ربنا) ربنا سبحانه وتعالى: (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) (سورة النحل 6).
قال أبو عبدالرحمن: ما دام الجمال من أكل الجميل بمعنى الودك؛ فذلك يحدث سمنة؛ وذلك معنى الضخامة.. وجرى أهل الاصطلاح على تعريف الجمال ببعض مظاهره كتعريفهم له بأنه: (صفة ما تتعلق بالرضا واللطف، أو بأنه تناسب الأعضاء.. (التعريفات ص 78 / دار الكتب العلمية ببيروت عام 1408هـ، ودستور العلماء 1 / 140).
قال أبو عبدالرحمن: بما أن الجمال أدل الألفاظ على معاني الحسن وأشملها، وهو مرادف الحسن؛ وبما أنه علم على معاني تقع في النفس؛ وبما أن الاسم الموضوع كان لمعنى يشيع في النفوس أكثر من شيوع الاسم الوضعي؛ وبما أن القبح هو أدل الألفاظ على ضد معاني الجمال؛ وبما أن الجمال هو مضاد القبح، وبما أنه لا يوجد في اللغة اسم وضعي لمعاني الحسن غير الجمال، وبما أن معاني الجمال تشمل الضخامة والكمال والتمام: فالراجح أن الجمال اسم وضعي لمعاني الحسن الكثيرة من الرقة والعذوبة والتناسب، وما تجلبه من رضاً ولذة وسرور؛ وبهذا يترجح قول من قال: (الجمال كثرة الحسن)؛ بل التعريف أشمل؛ وهو أن الجمال لكل معاني الحسن.. ولكثرة الحسن في الجمل عند العرب استعير له من الجمال اسماً؛ وإجمال الشيء بمعنى جمعه وتحصيله وخلاصته: مأخوذ من الجمال الذي هو أجمع معاني الحسن وخلاصتها؛ وليست العظمة هي الأصل في اسم الجمال؛ لأنه ليس كل عظيم في الخلقة يكون حسناً؛ وبالعكس فالحسن تعظمه النفس.. إلا أن بعض معاني العظيم يكون جميلاً حسناً كأن تكون العظمة بمعنى تمام الخلق؛ وبما أن الجمال لكل معاني الحسن: كان الأصل للجمال يعني تجمع معاني الحسن؛ فكأن معنى العظمة ملحوظ من معنى الحسن.. ومعرفو الجمال من المصطلحين لهم ثلاث سبل: أولها تعريف الجمال بالصفة في الموضوع؛ وهذا سبيل من عرف الجمال بالبهاء أو التناسب.. وثانيها تعريف الجمال بشعور القلب، أو علاقة الموضوع بالقلب؛ وهذا سبيل من فسر الجمال بالرضا واللطف.. قال أهل هذا المذهب: (الجمال صفة تلحظ في الأشياء، وتبعث في النفس سروراً ورضا).. (دستور العلماء 1 / 140)؛ فهؤلاء أغفلوا اسم الصفة، ونصوا على الشعور؛ وهو السرور والرضا.. وثالثها تعريف بالمرادف أو الضدية؛ وهذه سبيل من قال: الجمال الحسن؛ وهي سبيل من قال: الجمال ضد القبح.
قال أبو عبدالرحمن: وكل نماذج العقل الجمالي إذا كان من النص الفني فسأتناوله إن شاء الله تعالى وفق منهجي الذي تناولت به رائية أبي العلاء المعري في كتابي الصادر عن نادي جازان، وقصة (بنات آوى وعرب) لـ(كافكا) المنشورة بالأعداد الأولى من مجلة التوباد التي كنت رئيس تحريرها، وقد توقفت منذ خمس سنوات تقريباً، وقد شرحت هذا المنهج هناك، ثم تفرغت لجمع كل ما قدرت عليه من شاردة أو واردة عن (كافكا) خلال عشرين عاماً؛ فتحول منهجي في دراسته إلى موسوعة لا تزال في حيز المسودات المتناثرة، وأرجو الله أن يعينني على تحقيقها ونشرها؛ وهذا المنهج هو (منهج النقد التفسيري التعاوني) الذي يستقطب كل جهود الآخرين عن النص، ثم تأتي مرحلة التأني من قبلي؛ لاستيعاب الفهم للنص المدروس من قبل غيري، واستيعاب الفهم للنصوص التي درستها؛ (قال أبو عبدالرحمن: وضعت علامة التعليل (؛) وإن لم تكن (حتى) تعليليةً؛ لأن التعليل في الجملة يكون بعد العلامة لا في كلمة حتى) حتى أثق بأن فهمي تصور صحيح غير مسبوق بأحكام اعتباطية، وبعد ذلك ألتمس القيم الجمالية إيجاباً وسلباً بشرط الالتزام للفكر الصادر عن حرية نظر، كما ألتمسها تنظيراً وتحليلاً للنموذج وفق التنظير؛ ولهذا السبب جعلت العنوان (العقل الجمالي)، ولم أجعله (الإحساس الجمالي)؛ لأنني أريد جمال المتعة والهدف والسمو والنبل جلالاً وعظمة، وهذا لا يكون إلا بالمعيار الجمالي غير القار الذي هو في صيرورة التطور المستجدة، وفي تطور لدى أصناف البشر؛ لتطورهم تربيةً وثقافة وفكراً؛ وكل ذلك هو المشروط بمعياري الحق والخير.. والله المستعان، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الذي بعثه الله رحمة للأمة: يتمم لها مكارم الأخلاق، ويجملها بمحاسن الشريعة التي تمنح متبعها مقومات الأمة القائدة؛ ولهذا كان حرصه على أمته، ورحمته ورأفته بالمؤمنين.. اللهم صل عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وإلى جولة أخرى إن شاء الله تعالى مع هذا الهم الجمالي الكبير، والله المستعان.