مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

ذات.. أصدق صورة فنية عن الطبقة المتوسطة المصرية

كان الفيلم المميز(واحد صفر) أول عمل يرى النور للسيناريست مريم نعوم، وكان مسلسل (بالشمع الأحمر) أول أعمالها التليفزيونية، وحتى ذلك الوقت كانت اسماً يبشر بالكثير، ولكن ما أن لبثت في العام 2013 أن تحولت إلى واحدة من أهم الأسماء في عالم الدراما التليفزيونية بعملين عرضا في الوقت نفسه.. (موجة حارة) و(بنت اسمها ذات)، ونجح كلا العملين نجاحاً نقدياً وجماهيرياً كبيراً، ربما تعرض (ذات) للظلم بسبب توقيت عرضه الأول، وهو الأمر الذي دفع منتجه جابي خوري إلى اتخاذ قرار عدم العودة إلى عالم الإنتاج التليفزيوني مرة أخرى، بسبب المصالح المعقدة بين شركات الدعاية وشركات الإنتاج والقنوات الفضائية والتي تؤثر سلباً على مواعيد عرض الأعمال، ولكن المسلسل أصبح واحداً من أكثر المسلسلات مشاهدة في عروضه اللاحقة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، ولاحقاً قدمت نعوم عملين لا يقلان نجاحاً وأهمية هما (سجن النسا) و(تحت السيطرة)، صحيح أن عمليها الأخيرين (سقوط حر) و(واحة الغروب) لم يكونا على نفس المستوى الفني لأعمالها الأربعة السابقة، ولكن النظرة العامة لمجموع الأعمال يؤكد أنها في الظروف الإنتاجية المناسبة والمناخ الفني الصحيح تستطيع تقديم علامات فارقة.
مسلسل ذات مثله مثل مسلسل موجة حارة مقتبس عن رواية، والمدهش أن كلا العملين تفوقا كثيراً على الأصل الأدبي، موجة حارة المقتبس عن منخفض الهند الموسمي لأسامة أنور عكاشة، أضاف أبعاداً أكثر إنسانية على شخصياته واستفاد من الصراعات الدرامية للدرجة القصوى مما أضاف عليه منحى ملحمياً أصيلاً، ربما لو شاهده أسامة أنور عكاشة شخصياً لما وجد ما يمكن إضافته على المسلسل، وبنت اسمها ذات عن ذات لصنع الله إبراهيم أضاف بعداً زمنياً وسردياً منح الأحداث ثقلاً فنياً هائلاً مما حوله إلى مرجع تاريخي اجتماعي حي لكل الأجيال، والسر وراء هذا التفوق على الأصل الأدبي يكمن في المعالجة، معالجة مريم نعوم تقتبس روح العمل ورؤيته وتستفيد منه ثم تضيف إليه كل شيء يمكن أن يخدم تلك الروح والرؤية.
الغريب أن مشروع مسلسل ذات بخلاف أعمال أخرى كثيرة، هو مشروع يحمل قدراً هائلاً من المخاطرة الفنية والإنتاجية في نفس الوقت، فالمسلسل من الناحية الفنية وجانبه القصصي على وجه التحديد لا يحمل بين جنباته أي عناصر جذب جماهيري مطلقاً، فالقصة تتبع قصة حياة شديدة العادية لفتاة شديدة التقليدية، لا يوجد أي ألغاز أو جرائم قتل أو عوالم مثيرة أو حتى شيء مميز في الشخصيات، كل ما يعرضه المسلسل من أحداث وشخوص لا يختلف عن حياة عموم الناس بلا أي أحداث كبرى أو غريبة، والمخاطرة الإنتاجية تكمن في كونه يعرض حياة هؤلاء الناس على مدار ستين عاماً، بما يحمله ذلك من أزياء وديكورات ومكياج مختلف لستة عقود كاملة، إضافة إلى عدم توفر الكثير من المواد الأرشيفية الوثائقية النادرة التي اضطر المنتج إلى شرائها من الخارج بأسعار فلكية، ناهيك عن تصوير المسلسل في ظروف سياسية مضطربة، بل وتولي مخرج آخر من جيل مختلف هو خيري بشارة إخراج النصف الثاني من حلقات المسلسل، كل ذلك لم يكن يؤشر سوى على وجود كارثة إنتاجية وفنية كبيرة، ولكن المفاجأة أن صناع العمل قد ربحوا الرهان وقدموا عملاً سيبقى للذكرى.
أحداث مسلسل بنت اسمها ذات يتناول قصة حياة ذات منذ مولدها عام 1952م وحتى عام 2011م وقت انتهاء كتابة السيناريو، لم يكن مقصوداً في البداية أن يكون المسلسل رصداً لزمن بين حدثين كبيرين، بل كانت الأحداث تتوقف مع العام 2010م ولكن بعد ذلك تم إضافة ما تلا ذلك من أحداث، والسؤال هو.. ما الذي يمكن أن يكون مثيراً لمتابعة حياة ستين عاماً كاملاً من حياة سيدة عادية تماماً، والحقيقة أن المسلسل يوفر لمتابعيه تجربة مشاهدة نادرة وغير مسبوقة على ثلاثة مستويات.
المستوى الأول هو أننا نعيش تجربة الأبوة والأمومة بشكل تفاعلي حقيقي ففي الأغلب الأعم من الأفلام والمسلسلات، نحن نتابع جزءاً يسيراً من حياة البطل أو البطلة، وحتى في الأفلام التي تتناول حياة الشخصية من المهد إلى اللحد، تكون المتابعة على هيئة شذرات متفرقة بين حياته الطويلة، ولكن هذه المرة نتابع قصة حياة شخصية من لحم ودم منذ لحظة مولدها على مدار إحدى وثلاثين حلقة كاملة، وهو ما يجعلنا نعرف كل شيء عن حياتها بالتفصيل، وفي الوقت نفسه يجعلنا نرتبط بها على المستوى العاطفي والإنساني كأنها ابنتنا، التي نفرح عندما تمشي لأول مرة، ونهتم بمستقبلها الدراسي، ونحاول أن نساعدها في حياتها الزوجية والمهنية، ذات بشكل ما أو بآخر هي ابنة جميع مشاهدي المسلسل، صحيح أننا نرى فيها صورة الأخت والزوجة والأم، ولكنها ابنتنا في الأساس.
المستوى الثاني أن المسلسل تحول- سواء كان يقصد ذلك أو لا يقصد- إلى بانوراما تاريخية/ اجتماعية لحياة المصريين في السنوات الأخيرة من حياتهم، والبانوراما لا تقدم رصداً دقيقاً للوقائع والأحداث، ولا تدعي أنها بمثابة سجل أرشيفي يمكن الرجوع إليه في كافة المواضيع، ولكن البانوراما هي عين طائر محلق يمر زمنياً على الأحداث بشكل عام، ويتوقف بين الحين والآخر مسلطاً الضوء على حدث بعينه، لذلك لا يمكن القول على وجه الدقة إن المسلسل أصبح بمثابة بديل عن كتاب التاريخ المدرسي، ولكن يمكن القول إنه بمثابة شهادة محايدة تعرض مختلف وجهات النظر السياسية والاجتماعية في حياة المصريين في تاريخهم الحديث، وهو الأمر الذي لم يسبق لأي عمل فني آخر أن يتمكن من تقديمه بمثل هذا الإلمام، سواء من ناحية المسافة التاريخية المرصودة، أو من خلال المادة الأرشيفية البصرية المذهلة التي تعرض للمرة الأولى على المشاهد العربي بعدما اختفت تماماً من أرشيف التليفزيون المصري.
المستوى الثالث أنه ولأول مرة يكون لدينا عمل فني يرصد الحياة العادية جداً للطبقة المتوسطة المصرية في أبسط أشكالها وأصدقها على الإطلاق، وليس المقصود من ذلك أن جميع الأعمال الأخرى لم تتعرض بصدق إلى الطبقة المتوسطة، ولكن لم يكن هناك تركيز منصب عليها من قبل، ففي العادة يتم تناول الفقراء في مقابل الأغنياء أو الحارة الشعبية في مقابلة كومباوند الأثرياء، وهي الثنائية التي ركزت عليها كثير من الأعمال الفنية، وفي بعض الأحيان يكون التركيز على أحد أطراف الثنائية، ولكن لم يحدث أن خرج مسلسل من ذلك الصندوق المغلق وقرر تقديم حياة الطبقة المتوسطة بشكل منفرد بعيداً عن الطبقات الأخرى التي حظيت بالاهتمام طوال الوقت، وأحد الأسباب التي أدت إلى إهمال تلك الطبقة طوال هذه المدة هو فكرة شائعة مفادها أنه لا يوجد ما هو مثير للاهتمام حقاً في حياتها، وهي الفكرة -وياللعجب- ما يكشف هذا المسلسل عن زيفها.
الحياة العادية قد لا تكون صاخبة مثلما تظهر في الأفلام والمسلسلات، قد لا تكون مسلية أو مثيرة أو مدهشة، ولكنها مليئة بالمشاعر، مليئة بالغضب والحزن والدهشة والانكسار والفرحة والملل والترقب، وهي ما يبرع السيناريو تماماً في إظهارها على محورين، محور المشاعر المشتركة بين عموم المصريين، مثل لحظات الخوف التي عاشها الجميع مع زلزال 1992م، هي مشاعر عاشها المشاهدون ولكل منهم ذكرى مختلفة عنه، ومحور المشاعر الخاصة مثل لحظات الحزن على فراق الأحبة أو اليأس بعد بحث بلا فائدة عن عمل أو الفرحة بزواج الأبناء، مشاعر دافئة حقيقية يرصدها المسلسل بصدق بالغ.
جزء لا يتجزأ من هذا الصدق وهو أيضاً من أسباب نجاح المسلسل وثراء قيمته الفنية ألا وهو الأداء التمثيلي، باسم سمرة ونيللي كريم في أفضل مستوياتهما الأدائية طوال مسيرتهما الفنية، باسم سمرة في دور عبدالمجيد (of course) يفزعنا في أول ظهور له في المسلسل، فهو يأتي من خلفية بعيدة تماماً عن ذات وفي هيئة مرتبكة وثرثرة فارغة تجعلنا لا نتقبله زوجاً لبطلتنا، ولكن مع مرور الحلقات نتعاطف معه شيئاً فشيئاً حتى نقع تماماً في محبته، أداء متمكن لشخصية كان من الممكن بسهولة أن نكرهها وأن نكره المسلسل بسببها، ولكن باسم سمرة في تدرج ذكي ولماح يتمكن تماماً من الوصول إلى قلب المشاهد، في المقابل نيللي كريم تواجه تحدياً شديد الصعوبة لأداء مراهقة تكبر أمام أعيننا لنراها سيدة مسنة، دون أن تفلت منها زمام الأمور ولو لمرة واحدة، وهو اختبار قاس جداً لأي ممثلة نجحت نيللي كريم في العبور منه بأمان يثير الإعجاب والدهشة، هناك أيضاً انتصار في دور فوزية والدة ذات، وهو تحد في التمثيل لا يقل صعوبة عن بطلي العمل، فانتصار التي نراها في العشرينات من العمر ونراقبها حتى وفاتها وهي في الثمانين من عمرها، تبرع في منحنا عدة أمهات وعدة جدات في وقت واحد، انتصار تجعلنا نصدق بالفعل أن جدة في الستين من العمر تختلف عن جدة في السبعين وعن الثمانين أيضاً، المسألة ليست مكياجاً وملابس ونبرة صوت، انتصار تنطفئ بها الحياة بشكل حقيقي جداً، روحها ومثابرتها واهتمامها ورغبتها في الحديث ورغبتها في الحياة تقل تدريجياً حتى تجلس في النهاية في انتظار الموت، الأم الثكلى التي فقدت زوجها وابنها في حياتها لم تعد تجد للحياة معنى أو طعماً، وانتصار قدمت درساً حقيقياً في تقديم كل ذلك، يقف وراء الأداء المتميز من كافة الممثلين مخرجة من العيار الثقيل اسمها كاملة أبو ذكري تعرف جيداً كيف توجه ممثليها، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة خاصة في أعمالها المتأخرة بعدما زاد ثقل خبرتها، ويكمل خيري بشارة الإخراج مستنداً على قواعد توجيه كاملة أبو ذكري لممثليها الذين لم يتأثر أداؤهم أو يقل مستواه وهو ما كان يعتبر المخاطرة الأخيرة التي نجح المسلسل في تجاوزها بأمان.
مسلسل بنت اسمها ذات عمل فني من العيار الثقيل، هو مخاطرة مجنونة لأنها لا تستند على أي قواعد مضمونة أو واضحة للنجاح الجماهيري بأي شكل من الأشكال، ومع ذلك ينجح المسلسل نجاحاً منقطع النظير، الآن لدى مواليد الألفية الجديدة نافذة فنية/ وثائقية على الحياة الاجتماعية/ السياسية للنصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين في مصر، بأصدق صورة ممكنة وقريبة من الواقع، كما أن نفس النافذة متوفرة اليوم لمن يحاولون فهم الواقع واستشراف المستقبل من خلال الماضي، وهو الأمر الذي يحتاجه الجميع لمعرفة سؤال: لماذا أصبحنا على ما أصبحنا عليه، وكيف حدث ذلك، خذ مثالاً بسيطاً من أحداث المسلسل يشرح كيف تحولت البناية السكنية الجديدة إلى مبنى مليء بالقاذورات رويداً رويداً ببطء شديد، وما الذي فعله سكان البناية في محاولة تنظيفها، وتستطيع القياس على ذلك المثال كل شيء آخر.

ذو صلة