ظل هذا النص لمحمود درويش عالقاً في ذاكرتي، قرأته مراراً، واستمعت إليه بصوت درويش نفسه بكل مافيه من ألق وعنفوان، وفي كل مرة أقول: ثمة سر عميق يتوارى خلفه.
حاولت أن أقف على حدود اقتباس هذا النص عند المتلقين في (تويتر) بكافة مستوياتهم، فوجدت أنهم واقفون أمام المعنى السطحي لهذا النص، حيث يستحضرونه في مواقف معنية بالخيبة والخذلان واجهوها في حياتهم، فهم يعاتبون من يقصدون بهذا العنوان (تنسى كأنك لم تكن...).
هذا هو النسيان بمفهومه التقليدي العاطفي، كما نراه مثلاً في نص فاروق جويدة المعروف (في عينيك عنواني):
قالت: حبيبي.. سوف تنساني
وتنسى أنني يوماً
وهبتك نبض وجداني
................
لكن قراءة نص درويش قراءة شعرية مستبطنة تقول: لا.. ليس هذا المعنى السطحي الذي يحمل معنى التذمر العاطفي المكرور هو المقصود، ولا يمكن أن تكون هذه هي رؤية درويش أيضاً، فهو لا يفكر في ذاته بهذا الشكل، ولا يكرر المعاني المعروفة. بل إنه قال عن النسيان في أحد نصوصه:
أغنية مكررة هو النسيان
كما أن أشعاره الأخيرة تحوي تلميحات إلى حالة من الاستلاب والبحث عن الذات، والانسحاب عن العالم يعيشها درويش. كانتشائه من حالة أن يكون الإنسان وحيداً في المقهى بعيداً منعزلاً، حيث:
(لا أحد يحملق في حضورك أو غيابك)
ومن ثم لا معنى لأن نقول إن درويش يتذمر الآن من النسيان، وهو الذي يرى نشوة في العزلة، ولكن المتلقي معذور في هذا الفهم، المتلقي العادي، وليس الذكي المنتج، فعتبات النص توحي بهذا المعنى، في عنوانه: تنسى كأنك لم تكن، وبدايته:
تنسى كأنك لم تكن
تنسى كمصرع طائر
ككنيسة مهجورة تنسى
كحب عابر
وكوردة في الليل...تنسى
إننا إزاء انثيال عاطفي متدفق، يؤكده تكرار الفعل تنسى، وهذه الصور التي صيغت في بناء درامي، حتى يتخيل الإنسان المنسي الذي تتماس مشاعره مع هذه التجربة، أنه الطائر والوردة والحب العابر....
مايثير المتلقي وذاكرته الملأى بالخيبة والخذلان، فيحفظ هذا المقطع وينسى بقية النص، أو ربما يقرأ بقية النص لكن هذا المقطع هو ما يرسخ في ذهنه.
إن هذه المقدمة هي الشَرَك الذي يضعه الشاعر أمام المتلقي، ويدفعه للوقوع في هذا الشرك خلفيته الثقافية والمعرفية، فضلاً عن انجذابه العاطفي. فالقراءة (تفاعل بين موضوع النص والوعي الفردي للذات القارئة). كما أن (للقارئ مرجعياته التي تمكنه من تشكيل المعنى الأدبي للنص).
إلا أن الشاعر يبدأ في المقطع الثاني بالتعمق في مفهوم النسيان، فهو يتوجه إلى قارئ آخر مختلف تماماً: القارئ الذكي المنتج.
أنا للطريق.. هناك من سبقت خطاه خطاي
من أملى رؤاه على رؤاي
هناك من نثر الكلام على سجيته ليدخل في الحكاية
أو يضيء لمن سيأتي بعده
أثراً غنائياً وحدسا
تنسى كأنك لم تكن
شخصاً ولا نصاً وتُنسى
إن التأمل في هذا المقطع يجسد حقلاً دلالياً موحياً، فالمفردات، كلام، نص، غناء، رؤى.... كلها علامات تضيء النص من جديد وتفجر المعنى وتقود المتلقي المنتج إلى جهة أخرى. فنحن هنا أمام نص من نصوص كثيرة لدرويش، كان معنياً فيها بالحديث عن الإبداع، عن تشكل النص الشعري.
فنحن نقرأ تفاصيل العلاقة بين الأجيال الشعرية، فهناك من سبقه وأثر في رؤيته الشعرية: من سبقت خطاه خطاي، من أملى رؤاه على رؤاي....
ثم يبدأ درويش في الدخول إلى تجربته الشعرية هو نفسه أمام هذا الشعر الحافل بتجارب سابقة ومكتنزة:
أمشي على هدي البصيرة، ربما
أعطي الحكاية سيرة شخصية، فالمفردات
تسوسني وأسوسها. أنا شكلها
وهي التجلّي الحر. لكن قيل ما سأقول.
يسبقني غدٌ ماضٍ. أنا مَلِك الصدى.
لا عرش لي إلا الهوامش. والطريق
هو الطريقة. ربما نسيَ الأوائل وصف
شيء ما، أُحرّك فيه ذاكرة وحسّا
إن درويش الشاعر العظيم يضع نفسه في أقصى درجات سلم الشعر ليقول إن المفردات تسوسه، وإنه ملك الصدى، وألا عرش له إلا الهوامش، إنه الشاعر المحاصر بإبداع سبقه، ومحاولته ألا يسجن في إطاره. حتى إنه بالكاد يقتنص مانسيه الأوائل: ربما نسي الأوائل وصف شيء ما......... ما يجعلنا هنا نستحضر المقولة التراثية: (ماترك الأول للآخر شيئاً).
يبدو درويش الشاعر المتفرد، متطهراً من نرجسية الفنان، ولنلحظ تكرار ربما وترددها في النص، التي تشي بمحاولات خجولة للإضافة للشعر. هذا ما يقوله درويش الذي أضحى مدرسة شعرية لوحده. فربما كان هذا الهاجس من ألا يقول شيئاً جديداً هو ما خلق الدهشة في شعره.
وما مر به درويش، سيمر به غيره من الأجيال اللاحقة له:
أنا للطريق... هناك من تمشي خطاه
على خطاي، ومن سيتبعني إلى رؤيايَ.
من سيقول شعراً في مديح حدائق المنفى،
أمام البيت، حراً من عبارة أمس،
حراً من كناياتي ومن لغتي، فأشهد
أنني حيّ
وحرّ
حين أُنسى
إن هذا المقطع الختامي لهو مسك الختام، هو منارة الطريق، هو مصباح النص، يأتي ليكسر أفق توقع المتلقي تماماً.
إنه الآن يستشرف جيلاً قادماً بعده، متأثراً بدرويش ورؤاه وخطاه الشعرية وتجربته في المنفى، إلا أنه يستشرف المستقبل إذ يأمل أن يتحرر هذا الجيل الشاعر بعده من كناياته ومن لغته وأن يقود طريقه بنفسه.
حين يصل هذا الجيل الشاعر إلى: أن يكون درويش ملهمه، دون أن يقع في فخ تقليده وتكراره، فإن هذا هو النسيان الذي يؤمله.
فأشهد أنني حيٌ وحرٌ حين أُنسى
هذا هو درويش الذي يكتب بكل بساطة، لكنه يدهشنا بعمقه، ومغايرته للمكرور والسائد، إنه درويش نسيج وحده.