يعتبر الفنان صلاح طاهر عميد الحركة التجريدية في فن التصوير في مصر. وسبق أن قال أحد النقاد إنه حين يتأمل لوحات صلاح طاهر، فإن أعماله تذكره بالموسيقى. والموسيقى هي أكثر الفنون تجريدية، بل هى التجريد بعينه، إنه بنيان متميز عن الواقع، رغم أنه يعبر عن هذا الواقع. الموسيقى خلق يستمد مقوماته من ذاته، إنك إزاء فقرة من سيمفونية أوكونشيرتو لا تقول: الله، هذا صوت الرعد، أو هذه زقزقة العصافير، أو هذه نبضات قلب، أو هذه طلقات رصاص، أجاد المؤلف في تصويرها أو نقلها إلى أنغامه. رغم أنه من المقرر أن كل الأنغام في الموسيقى كعمل فني لها أصل في الطبيعة ومقابل.
عندما تمتع الموسيقى أذنيك بسوناتة أوسيمفونية أو كونشيرتو فإنه لا يحكي لك واقعة حدثت، ولا يصف لك قسمات شخص أو نظراته، ولا يعلق لك على موقف بطولي أو غير بطولي؛ إنما هو يستخدم الأدوات والعناصر التي بين يديه ليبني لك عملاً فنياً يستمد قوته وجماله من قوانينه الداخلية. وإذا كنت أنت باعتبارك مستمعاً يشرد فكرك وعواطفك وأنت غارق في روعة العمل إلى خيالات تخوض فيها أو ذكريات تستعيدها أو تأملات، فهذه عمليتك الذاتية أنت، يندر إزاء مقطوعة موسيقية واحدة أن تتحد خيالات أو عواطف أو ذكريات أو تأملات مستمعين اثنين.
هذا الذي يقال عن الموسيقى يصدق على لوحات صلاح طاهر، مع فارق واحد مستمد من طبيعة الأداة الفنية ذاتها، فإن اللوحة أداة إستاتيكية، بينما الموسيقى أداة ديناميكية. الموسيقى امتداد للروح في الزمن، واللوحة تثبيت للروح في إطار. الموسيقى امتداد واللوحة مكان. يجب إذن لنتقبل لوحات صلاح طاهر، وبالمثل كل نتاج الاتجاه التجريدي؛ أن نقصي عن اهتمامنا الرغبة في البحث عن التطابق أو التشابه بين العمل الفني المعروض وبين الواقع، أو على الأقل يجب ألا تلح علينا هذه الرغبة إلحاحاً مطرداً حتى تحرمنا متعة التذوق الفني؛ ذلك أن تلك الرغبة الملحة يمكن أن تنتهي فتضحي سجناً تحوطنا أسواره، تضحي نظرة قاصرة تمنعنا من أن نرى أبعد من أنوفنا. إن عالم الإنسان الحديث قد اتسعت دائرته كثيراً، وما عاد الوجود عنده يقف عند حد السطوح والظواهر الخارجية، ما عاد عالمه إذا ما نظر إلى ما تحت قدميه قاصراً عند التربة التي يدوس عليها، طالما أن حصيلته من المعلومات أو التخمينات قد أصبحت تعرف الجيولوجيا وطبقات الأرض حتى مركزها. وإذا ما شخص إلى أعلى ما عاد نظره يقف عند السحب، فإن النظارات المكبرة والصواريخ قد حملت عقله أو خياله إلى الأقمار والنجوم والشموس. وإذا سرح بخياله قليلاً في هذا الفضاء الرحيب تلاشت من أمامه مؤقتاً كل أهمية كان يعقدها على الرؤيا الملموسة للوجود. ما عادت أناملنا تكفي لتوصلنا إلى المعرفة الكلية أو حتى شبه الكلية؛ بل إن الحواس كلها ما عادت تكفى، بل -وهذا أخطر ما في الأمر- ما عاد العقل يكفي. لقد أصبح الإنسان الحديث في حاجة إلى أمكنة إضافية لاستيعاب الوجود، أو إن شئنا التواضع لاستيعاب جزء أكبر من الوجود، ولهذا قفزت إلى ألسنتنا وأقلامنا مصطلحات مثل اللامعقول واللاحدود و اللاإمكانية واللازمانية.. وهذه المصطلحات إنما هي دلالات على احتياجات إنسانية جديدة قوامها اتساع أفق المعرفة. ومع تيار هذا الاتساع في المعرفة تسير محاولات في الفن مثل محاولات صلاح طاهر، ربما كانت المتعة الكبرى التي يجنيها المتأمل للوحات صلاح طاهر هو الاقتناع بأن الإنسان في حاجة دائمة إلى أن يجدد نظرته إلى الوجود، وألا يترك نفسه فريسة لنظرة قاصرة وضيقة للوجود، هي النظرة اليومية الفاترة الجامدة لما حولنا، لو نظر أي واحد منا إلى شريحة تحت المجهر، أو إذا ذهب إلى مرصد ليتطلع من خلال منظاره إلى السماء في ليلة صافية، أو حتى إذا صعد إلى البرج؛ لتحطمت صورته التقليدية عن الوجود، ولاستطاع أن يهيئ مزاجه لتقبل أعمال صلاح طاهر، وهي أعمال ليس بالهين أمرها رغم ما قد يبدو منها في الوهلة الأولى. لنقف عند قضية أشمل في التعبير الفني تثيرها لوحات صلاح طاهر والحركة التجريدية بصفة عامة؛ مأساة الإنسان! إنه يريد أن يخلق ويبتدع، أن يأتي بشيء ليس له مثيل سابق؛ ولهذا فإن الفنان الحديث لا يحترم كثيراً من يقلد الطبيعة أو يحاكيها، فما عاد يأبه بذلك الذي يشحذ كل همته لينقل على قماشته أو ورقته موجودات الطبيعة كما هي وبكل حذافيرها. يقول ألبير كامي: (إن مأساة الفنان أنه يتأرجح بين التاريخ والأبدية، إنه يريد أن يصنع عملاً يكتب له الخلود من خلال ما حوله أو ما قبله). وهكذا الفنان التجريدي يريد أن يتعدى الواقع بحذافيره، يريد أن يخلص رؤاه من كل ما يمت إلى الواقع بصلة. ولكن الأمر صعب، بل مستحيل. إنه مثل أسطورة سيزيف الذي كلما وصل بالصخرة إلى أعلى الجبل انحدرت به إلى السفح. المصور الذي هو قبل كل شيء عين مرهفة ما أن يصل بتجريداته إلى القمة حتى يصرخ فيه الواقع من خلال لوحاته ذاتها: أنا كل ما كان وكل ما هو كائن وكل ما سيكون. فالمصور التجريدي الذي تتحرك يده في شكل دائري أو خط أفقي أو تضع فرشاته لوناً أحمر، قد نسأله بحق لماذا تتحرك يدك في هذه اللحظة بالذات في شكل دائري أو في خط أفقي؟ ولماذا تضع فرشاتك هذا اللون الأحمر بالذات؟ لماذا لم تخط يدك بدلاً من الدائرة مربعاً أو بدلاً من الخط الأفقي خطاً متموجاً متعرجاً؟ ولماذا اخترت الأحمر ولم تختر الأزرق مثلاً؟ وهذه الأسئلة قد يضجر منها المصور التجريدي، وقد لا يستطيع الإجابة أو ينفر منها، أو قد يجيب عنها إجابة غير حاسمة، لكن الشيء الذي يمكن أن يؤكده بعض النقد- وربما على غير رأي الفنان التجريدي وهواه: أن المصور مهما أراد أن يتحرر من العالم الخارجي فإنه لن يستطيع أن يتحرر من عالمه الداخلي، من ذاته، من عواطفه وانفعالاته وعقله الباطن. ولهذا عندما يقذف على لوحاته بألوانه وخطوطه عن تدبر أو غير تدبر فهناك قانون أساسي محدث على مقتضاه الخلق التجريدي. ولهذا عادت إلى لوحات صلاح طاهر شذرات من العالم الخارجي مكتواة بنار العالم الداخلي منصهرة، مهضومة على نحو خاص، مبنية ومجمعة بوحي من بصيرة داخلية مرهفة، بصيرة يمكن وصفها بأنها صارمة وفي الوقت ذاته رقيقة، تماماً مثل مزاج بتهوفن الذي يشجينا ويعذبنا، يبكينا ويدفع الابتسامة على شفاهنا، في الوقت ذاته.
ويشبه بعض النقاد تطور صلاح طاهر بالارتفاع في شكل حلزوني، فهو عندما يعود إلى التشخيصية فإنه لا يعود إليها كما كان يمارسها أولاً؛ وإنما إلى مستوى أرقى وأكثر تطوراً.
وتبقى الموسيقى والنغم والشاعرية عند تحقيقها على أسس جمالية تشكيلية؛ هي علامة برسم صلاح طاهر.