في أكثر من مسرحية، كتب ويليام شكسبير (1564-1616) عن ما يعرف بظاهرة (الكون الساكن وغير المسموع). لكن الاحتفالات الأخيرة بالمئوية الرابعة لوفاة هذا الكاتب المسرحي العظيم كانت مسموعة في كل دول العالم، عبر تظاهرات وفعاليات في كبرى عواصم العالم تخليداً لأعماله وكتاباته. وفي خضم كل الاحتفالات قد يتساءل البعض: بعد أربعة قرون من وفاة شكسبير، هل قلنا كل ما يجب أن يقال عن هذا الكاتب المبدع؟
تقلّد عبقري ستراتفورد أبون آفون أدواراً كثيرة في حياته، وقد وصف بخزّان الكاثوليكية وبالبروتستانتي الراديكالي والرأسمالي المتحمس والماركسي والنسوي والمحرر القانوني وتاجر الحشيش وغيرها- لكن اسمه لم يرتبط بمجال (العلوم) إلا نادراً. ومن المعروف أن ويليام شكسبير قد كتب معظم أعماله في الوقت الذي بدأت تظهر فيه أفكار علمية جديدة حول تركيبة جسم الإنسان والأرض والكون مع بداية تشكّل ملامح الفكر الغربي الجديد. وسعى العلماء والدارسون إلى معرفة مدى اهتمامات شكسبير بالاكتشافات العلمية في حياته: كنوعية المعرفة، وتاريخها، ومدى انعكاسها في كتاباته.
في علم الفلك، على سبيل المثال، تضمنت مسرحياته إشارات إلى الشمس والقمر والنجوم والمذنبات والكسوف والأفلاك السماوية - ولكن تلك الفرضيات سرعان ما جابهت رفضاً شديداً باعتبارها من المدرسة القديمة التي تعكس الأفكار، غير الصحيحة في مجملها، للمفكرين اليونانيين القدامى مثل أرسطو وبطليموس. ورغم أن كوبرنيكوس قد رفع الأرض إلى السماء في كتابه الثوري (1543) أي 21 سنة قبل ميلاد شكسبير- من المفترض أن علم الكونيات الجديد لم يصل إنجلترا إلا بعد عقود من ذلك. وفي كل الأحوال، لم تنل فكرة دوران الكون حول الشمس الاعتراف الفكري إلا بعد اكتشافات منظار غاليليو في 1610. في ذلك الوقت، كان شكسبير على وشك التقاعد في ضاحية وارويكشاير.
ولكن لا يجب التسرع في الحكم على عبقري الأدب الإنكليزي. فقد جذبت نظرية كوبرنيكس أولى أتباعها في بريطانيا، بداية مع الإشارة الإيجابية في كتاب روبرت ريكورد (قلعة المعرفة) (1556). وكان الإنكليزي توماس ديغز أول من شرح تلك النظرية بكل تفاصيلها في كتابه الذي اشتمل على رسم بياني للنظام الشمسي الذي تمتد عبره النجوم إلى الخارج دون حدود- أقرب ما يكون لمشهد كون لا متناهٍ. وكانت لشكسبير أيضاً علاقات كثيرة مع عائلة ديغز -في فترة ما كانوا يعيشون على بعد مئات الياردات فقط من لندن- وكان الابن ليونارد ديغز، من محبي الكاتب المسرحي وساهم في تقديم الأعمال الأولى لشكسبير بأبيات شعرية.
وفي جانب آخر طوّر علماء إنجليز آخرون أفكارهم في زمن شكسبير على غرار توماس هاريوت الذي رصد السماء ليلاً بتلسكوب حتى قبل اكتشاف غاليليو بأشهر، وجون دي، المستشار العلمي للملكة اليزابيث (الذي تم اقتراحه كنموذج لبروسبيرو في مسرحية العاصفة). وفي سنوات 1580 سافر الفيلسوف والناسك الإيطالي جيوردانو برونو إلى إنجلترا لإلقاء المحاضرات حول نظرية نيكولاس كوبرنيكوس. وشمل المنهج الدراسي بمعهد غراشام بلندن، الذي تأسس في 1597، علم الفلك والهندسة والطب. وفي تلك الفترة من التاريخ أيضاً نُشر كتاب فرانسيس بيكون (النهوض بالتعلم) (1605) وتضمن دعوة صريحة إلى توخي الملاحظة والمعرفة التجريبية، في الوقت الذي كان فيه شكسبير بصدد تأليف مسرحية (الملك لير)، علاوة على المقالات النقدية لميشيل دي مونتين، أحد أكثر الكتّاب الفرنسيين تأثيراً في عصر النهضة ورائد المقالة الحديثة في أوروبا باللغة الإنجليزية قبل عامين من ذلك.
من الممكن أن شكسبير قد شهد بنفسه أدلة على (علم الفلك الجديد). في نوفمبر من سنة 1572، ظهرت نجمة جديدة مشرقة في كوكبة (ذات الكرسي) التي يفسرها العلم الحديث بالسوبر نوفا، أو انفجار الموت لأحد النجوم الكبيرة، عندما كان شكسبير في الثامنة من عمره- ولكن عائلة ديغز قد شاهدت بدورها ذلك الحدث إلى جانب الفلكي الدنماركي تايكو براهي، ويسمى النجم اليوم باسمه (نجم تايكو).
وأكد الباحث دونالد أولسون من جامعة تكساس الأمريكية أن الأمير هاملت شاهد النجم يشرق (غرب القطب) وأن ذلك كان مستوحى من ذاكرة طفولة شكسبير لنجم (تايكو)- وتعزز في ذهنه بعد الإشارة إليه في سجلات هولينشد في وقت لاحق بعد 15 عاماً. (كان شكسبير قد شاهد السوبرنوفا الأخرى (لنجم كبلر) في 1604). وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفلكي تايكو براهي قد رصد النجوم من جزيرة Hven الدنماركية، على مرمى حجر من قلعة إلينور، الإطار المكاني لمسرحية هملت.
وتعمّق الفلكي بيتر آشر، من جامعة بنسلفانيا، بالبحث أكثر في أبعاد الحدث مؤكداً أنه يمكن قراءة (هملت) كرمز لوجهات النظر العالمية المتنافسة للكون، وبأن وكلوديوس الشرير في المسرحية كان يحيل إلى عالم الفلك القديم كلوديوس بطليموس، في حين تمثل شخصيات Rosencrantz وGuildenstern الفلكي تايكو براهي، أما الأمير هاملت فكان توماس ديغز. ومن المرجح أن في وصف هاملت نفسه (بملك الكون اللانهائي)، إشارة من شكسبير إلى الكون اللانهائي الجديد الذي كان ديغز، صديق شكسبير، قد وصفه من قبل.
لم يكن شكسبير ينوي التقاعد سنة 1610، كان منكباً على تأليف مسرحية (سيمبيلن) التي تضمنت إشارات محيرة لعلم الكونيات الجديد. في هذه المسرحية الغريبة، باعتراف الجميع، ينزل «يوبيتر» (كوكب المشتري) بنفسه من السماء وسط الأشباح الأربعة الراقصة. فهل كانت تلك أقمار جوفيان الأربعة المكتشفة حديثاً للكوكب، والتي وصفها غاليليو في وقت سابق من ذلك العام؟
يجمع عديد العلماء الدارسين لأعمال ويليام شكسبير أن الكاتب المسرحي كان على الأرجح على بيّنة من مشهد الكون الجديد المكتشف حديثاً، ويؤكد جوناثان باتي الباحث بجامعة أكسفورد ذلك بالإشارة إلى المقاطع التي (قد تلمّح لعلم الفلك الشمسي الجديد). ويكتب جيمس شابيرو من جامعة كولومبيا أن شكسبير يعرف أن علم البطالمة (قد فقد مصداقيته بعد ثورة كوبرنيكوس). في الوقت الذي شكك فيه ستيفن غرينبلات بجامعة هارفارد في مسألة المعرفة الفلكية لشكسبير، ولكنه يؤكد أن الكاتب المسرحي كان يتميز (بحساسية علمية) وكان في حالة تأهب غريبة وكان مهتماً بالطبيعية العلمية في زمنه، وانعكس ذلك في الطريقة التي تتصدى بها بعض شخصياته علناً إلى الخرافات السائدة: في مسرحية الملك لير، لا يوافق ادمون الأشخاص الذين يلقون بمصائبهم على السماوات واصفاً إياهم بالمذنبين بحق (حسن جمال العالم). وفي يوليوس قيصر يعلن كاسيوس: (إن الخطأ، عزيزي بروتوس، لا يكمن في نجومنا، ولكن في أنفسنا- نحن منحطون).
كانت أعمال شكسبير، على حد تعبير كارل ساجان العالم والفلكي الأمريكي، (عالماً مسكوناً بالشيطان)- بدأت تحركه آلات وتفسيرات ميكانيكية بشكل متزايد. ويبدو أن شكسبير كان مهووساً بالساعات وآلات قياسات الزمن، كانت شخصياته تتحدث عن الساعات حتى وهي في قلب الغابة. قد تكون مثل تلك الآلات حاضرة في ذهن شكسبير عندما ألّف مسرحية (حكاية الشتاء)، التي يصور في فصلها الأخير (تمثالاً) وهو يكسر الجمود ثم يُبعث من جديد نابضاً بالحياة. في الواقع، قد تعكس تلك المسرحية بدايات تشكل عناصر الخيال العلمي في فكر ويليام شكسبير- ليكون بذلك سابق عصره ومتقدماً حتى على ماري شيلي في روايتها (فرانكنشتاين) بأكثر من 200 سنة.