مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

أحمد سوسة.. المشترك بين العراق والجزيرة العربية

وددت استهلال موضوعنا عن كتاب خبير الري أحمد سوسة، الموسوم بـ(تاريخ حضارة وادي الرافدين) ونظريته بالعلاقة مع الجزيرة العربية، بتأكيد اسم العراق التاريخي، وبهذا تأكيد الرد على المتعصبين من الفرس، الذين لم يروا وجوداً في محيط بلادهم، التي سميت بإيران (1936)، إلا يكون من لغتهم وتحت ظلهم، وهنا لا فرق بين من تتوج بالتاج أو اعتمر بالعمامة، فالتعصب والهدف واحد، كأنهم متناسون أن ما يعرف اليوم بإيران لم يكن قبل ثمانين عاماً، لا دولة واحدة ولا اسماً.

كانت أول تخرصاتهم القومية فرسنة اسم العراق، وأقول: اشتقت المعاجم العربية تسمية العراق من عروق الشجر، أو لأنه يقع على شاطئي دجلة والفرات، وقيل: من إيراك، كان ذلك قبل أن تكشف آثار العراق القديمة، ويظهر اسم أوروك أو الوركاء العاصمة الشهيرة في ملحمة جلجامش، جنوب العراق، ولا أظن أن السيطرة الساسانية أو الفرثية، وكل من نطق بالفارسية، قد أدرك الوركاء وجلجامش. أما من تأثر بكتاب فرس قدما، من حتى العرب، فهؤلاء لم يدركوا الاستكشافات الأثرية في زمانهم.
لذا شكك المؤرخ الجغرافي البريطاني كي لسترنغ (ت: 1933)، ونبه إلى إشكالية استخدام تسمية (العراق)، قال: (كيف جرى استعمال هذا الاسم في العهود السالفة، فأمر يعتريه الشك، فلعله يمثل اسماً قديماً ضاع الآن، أو أنه أريد به في الأصل عن هذا المعنى. وكان العرب يسمون السهل الرسوبي بأرض السواد، واتسع مدلول كلمة السواد حتى صارت هي العراق، لفظتين مترادفتين في الغالب) (بلدان الخلافة الشرقية).
وجد الباحثون هذا الاسم القديم منحوتاً من اسم أوروك أو الوركاء، مدينة جلجامش، وهذا ما ذهب إليه البحاثة الآثاري طه باقر (ت: 1984): (وإنه -أي العراق- مشتق من كلمة تعني المستوطن، ولفظها أوروك أو أنوك، وهي الكلمة التي سميت بها المدينة الشهيرة الوركاء.. وفي العهد الكشي، في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وجاء فيها اسم إقليم على هيئة إيريقا، الذي صار الأصل العربي لبلاد بابل أو لكلمة العراق)، (الآلوسي، اسم العراق)، وسالم الآلوسي بحاثة معروف، رد في كتابه (اسم العراق) على محاولات تجاهله. على أي حال، لماذا يحار بأصل اسم العراق، والأرض كان اسمها (أوروك)، أو(إيريقا)، وليس هناك مانع من تبدل: الهمزة إلى عين، والقاف إلى كاف؟! كان ذلك توضيحاً لمن لا يعلم أن وادي الرافدين هو (العراق).
حضارة وادي الرافدين
ناقش الخبير في حضارة الري العراقي أحمد سوسة (ت: 1982) نظريات عن أصل الحضارة العراقية القديمة، السومرية بالتحديد، لمختصين عراقيين وأجانب، في كتابه الذي بين أيدينا، (تاريخ حضارة وادي الرافدين في ضوء مشاريع الري الزراعية والمكتشفات الآثارية والمصادر التاريخية) (بغداد: دار الحرية 1983). رجح فيه ما خالف الكثيرين من الخبراء الأوروبيين في مجال تاريخ الحضارات القديمة، من أن تاريخ حضارة بلاد الرافدين لم يبدأ بسومر، والعبارة الأخيرة جاءت معكوس لعنوان خبير السومريات، الروسي الأصل الأمريكي المواطنة، صموئيل نوح كريمر (ت: 1990)، صاحب الكتاب (التاريخ يبدأ بسومر)، وكتاب (ألواح سومر) وغيرها من الكتب في شأن الحضارة العراقية القديمة.
سعى أحمد سوسة في كتابه إلى تأكيد الأصل السامي للحضارة السومرية، لكنه لم يجعل السومريين من أصل (سامي)، إنما قدموا من منطقة مجاورة، لهم لغتهم الخاصة من الفئة الآرية، واعتبر تقسيم الشعوب على أساس ساميين وحاميين وآريين الأفضل حتى الآن، وهو ما استعمله المستشرق النمساوي (اشتينشنيدر) بين (1860-1873)، وقصة ذلك معروفة.
حسب العلامة سوسة، استوطن السومريون جنوب العراق، بعد أن وجدوا قبلهم حضارة العبيد السامية، والقادمة من الجزيرة العربية، إثر النزوح إلى الشمال بسبب الجفاف الذي حل بالجزيرة. نزح أهلها بحضارتهم إلى الشمال، حيث بلاد الشام، ومن هناك نزلوا إلى جنوب العراق، فتشكل، حسب أحمد سوسة عن آخرين، ما عرف بالعصر السومري- السامي. لكونه مختصاً بالري وحضارته، نراه قد جعل مقولة (البرخت كوتزه) مستهلاً لكتابه، والتي نصها: (إن تاريخ السومريين والبابليين القدماء، لا يمكن أن نفهم كما يجب ما لم يزدد وضوحاً نظام الري، كما كان عليه في تلك الأزمان). لهذا اعتبر سوسة الجزيرة العربية قد شكلت حضارة قديمة لوجود الأنهار، في زمن ما، ثم نقل أهلها معارفهم وخبراتهم بتنظيم الري إلى ماء العراق.
قبل الدخول إلى الكتاب نذكر شيئاً عن مؤلفه. ولد الدكتور أحمد سوسة (1900) بمدينة الحلة، الملاصقة لأطلال حضارة بابل، لأسرة يهودية عراقية، وبعد حين (1939) أشهر إسلامه وكان اسمه السابق نسيم سوسة. أكمل (1924) الدراسة الثانوية في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم أخذ شهادة البكالوريوس (1928) من كلية (كولورادو) الأمريكية في الهندسة المدنية، وشهادة الدكتوراه من جامعة جونس هويكنس (1930). منح جائزة (ويديل) من جامعة واشنطن (1929) كصاحب أفضل مقال لدعم السلم العالمي، وهي جائزة سنوية.
يعد أقدم أو أول مهندس عراقي يتخرج من الجامعات الغربية. عاد إلى العراق ليعمل مهندساً في دائرة الري، ثم نائباً لرئيس الهيئة الفنية الخاصة بدراسة مشاريع الري الكبرى العراقية، فمديراً عاماً للمساحة، ومديراً عاماً في ديوان وزارة الزراعة. بعد تأسيس (مجلس الإعمار) (1951) عين مساعداً للشؤون الفنية فيه. كان عضواً في مجلس المجمع العلمي العراقي منذ تأسيسه (1946). ترأس البعثتين العراقيتين الموفدتين إلى المملكة العربية السعودية لدراسة مشاريع الري والإشراف عليها.
ربت مؤلفاته على الخمسين كتاباً، في الري والهندسة والزراعة والجغرافيا والحضارات القديمة، إلى جانب البحوث والمقالات الكثيرة في تلك الشؤون. غير أن من أهم كتبه كان (فيضانات بغداد في التاريخ) (ثلاثة أجزاء 1963 - 1966)، وكتاب (الري والحضارة في وادي الرافدين)، والكتاب الذي بين أيدينا. رشح إلى نيل جائزة (الفارابي) (1977)، التي يمنحها الاتحاد السوفيتي، كما منح جائزة الجامعة العربية لأحسن كتاب صدر (1974 - 1975)، ووسام (الكفاءة الفكرية) (1970 - 1976) من قبل المملكة المغربية على كتابه (الشريف الإدريسي في الجغرافيا العربية) (جزءان)، كما منحته دولة الكويت جائزة (1963) على الجزء الأول من كتابه (فيضانات بغداد) السابق الذكر.
مباحث الكتاب
الري والحضارة في وادي الرافدين، فجر الحياة الزراعية في وادي الرافدين، أدوار حضارة وادي الرافدين القديمة (عصور ما قبل التاريخ)، الطوفان وملحمة جلجامش في حضارة وادي الرافدين، الساميون العرب في حضارة وادي الرافدين، السومريون والساميون في حضارة وادي الرافدين (حضارة سامية- سومرية)، حضارة وادي الرافدين بين الساميين والسومريين، الأكديون في حضارة وادي الرافدين (الدولة الأكدية السامية)، البابليون الأوائل في حضارة وادي الرافدين، الآشوريون في حضارة وادي الرافدين، الكلدانيون الساميون في حضارة وادي الرافدين، الفرس والإغريق والرومان في تاريخ وادي الرافدين، العصر العربي الإسلامي في حضارة وادي الرافدين، علم الري والهندسة عند العرب، التحريات في مناطق الري القديمة.
يتضمن كل عنوان من هذه العناوين فصولاً، تطول وتقصر، حسب متطلبات البحث والتنقيب، لكن يبقى هدف الخبير أحمد سوسة مشدوداً إلى فكرة أو نظرية العلاقة بين الحضارة السامية العربية بالجزيرة والحضارة العراقية، التي نشأت قبل السومريين بجنوب العراق، ثم اختلط السومريون بها من بوابة الجوار مع الأكديين الساميين، ويبقى الماء هو العامل الأول في هذه النشأة، وهذا الارتباط بين الحضارتين، لتتكون منها حضارة واحدة، هي السامية- السومرية، معتبراً: الأكديين والبابليين والكلدانيين والآشوريين أقوام سامية، ولم يشذ عن ذلك من أقوام الحضارات بوادي الرافدين، من شماله إلى جنوبه، سوى السوريون فهم من العنصر الآري، لهذا لم يجد سوسة تقسيماً للشعوب أفضل من التقسيم السامي والحامي والآري، على أساس أن شعوب الأرض كلهم أبناء نوح صاحب السفينة في الطوفان العظيم، الطوفان الذي لم يبق على حياة، إلا من ركب السفينة فنجا، التي أمر الله نوح بصناعتها، حسب نص القصة التوراتية، وقد تحدث سوسة في كتابه عن هذا الطوفان ونسخته من الحضارة العراقية القديمة، والتي جاءت تفاصيلها في ملحمة جلجامش، بما يتطابق مع قصة نوح. هذا والشعوب حسب نظرية التقسيم البشري المذكورة سلفاً، جاءوا من أولاد نوح الثلاثة: سام وحام ويافث.
المقدمة صاغت الهدف
يسبق أحمد سوسة مقدمة كتابه، التي هي عبارة عن خطة الطريق إلى ما يريد قوله في شأن الشراكة الحضارية بين وادي الرافدين والجزيرة العربية، برسمة (الشعار السامي)، المعروف بالإناء الفوار، أو الكأس الفوارة، الموجود بوضوح في ما عرف من لقى أثرية بجنوب العراق، والذي يرمز إلى منابع الرافدين، دجلة والفرات، وليس المقصود المنابع المعروفة، وإنما الأسطورة التي صاغها القدماء عن تلك المنابع، وجعلوا لها إلهاً خاصاً وهو إله الماء (آنكي)، ينبع الماء من الكأس الذي بيده، ويسيل من أعضاء جسمه. يتكون الشعار من فرعين يسكبان الماء، وكل واحد منهما يتألف من ثلاثة فروع، وهذه الفروع الستة هي السر الذي قامت عليها الحضارة، فهي حضارة الماء، وتقدمها في تنظيم الري، المنقول، حسب سوسة، مع الساميين الذين نزحوا من الجزيرة العربية بفعل انحسار الماء.
على أن هذه الكأس، التي تفور منها المياه، إبداع (سامي) بالأساس، ابتدعه النازحون إلى وادي الرافدين، وقد أفقدهم الجفاف الماء بالجزيرة، التي كانت مروية خضراء، حتى ربطوا حياتهم، بعد النزوح، بدجلة والفرات وفروعهما. بينما يعتبر سوسة نهر الفرات هو أصل الحضارة، لأسباب تتعلق بسهولة السكن على ضفافه، وتسخيرها في الزراعة. لا يضطر إلى جعل هذه الكأس شعاراً إلا من فقد البيئة المائية، ليدخل الماء في الأساطير، والتي كانت تشكل الديانة في وقتها، حيث مظاهر الطبيعة، فلكل مظهر منها إله خاص، يشرف على مجموعة من الآلهة، وكان الاعتقاد السامي السومري أن النهرين كانا ينبعان من عين واحدة، والتي مثلوها بهذه بالكأس التي عرفت بالإناء الفوار، مثلما تقدم. كان للماء إله خاص، عرف بـ(آنكي) في اللغة السومرية وبـ(أيا) في اللغة السامية، ويظهر في الختم إله الماء يحمل بيده الكأس الفوار، منبع دجلة والفرات.
أصل الحضارة السامي
رد أحمد سوسة، في مقدمة كتابه، على الخبراء الغربيين، بعد أن ربط جلهم بداية أو أصل تاريخ حضارة وادي الرافدين بالسومريين، إغفالاً لحضارات ظهرت قبلهم، وصاحب الكتاب يسأل: كيف لأصحاب لغة أجنبية (يقصد السومرية الجديدة على المنطقة وحضارتها حضارة العبيد الأولى)، ينزحون إلى المنطقة من خارجها، ويشكلون بداية التاريخ، بينما تغفل حضارة العبيد، السابقة على السومريين وبالمنطقة نفسها؟! فحسب سوسة، بالاستناد إلى آراء خبراء آخرين، كانت حضارة سامية، لغتها غير السومرية، وذلك قبل (أن يكون السومريون نزحوا إلى العراق). يعتبر المؤلف سوسة أن هذا الرأي كان مقصوداً، من قبل الغربيين، لأغراض تغييب التاريخ وقدرات هذا الشعب السامي، وبالتالي العربي، على صناعة حضارة.
حصل ذلك، حسب سوسة (بزعامة الفنيين البريطانيين.. وذلك لإقصاء السامية من تاريخ وادي الرافدين، والحيلولة دون إرجاع تاريخ حضارة العالم إلى الأصل السامي العربي، هذا في حين أن السومريين لم يظهروا على مسرح الأحداث إلا في وقت متأخر، يرجع إلى العصور التاريخية، فقد سبقهم الساميون في استيطان وادي الرافدين، قبل آلاف السنين، في أزمان ما قبل التاريخ) (سوسة، تاريخ حضارة وادي الرافدين 1 ص 15).
كان هذا جوهر ما طرحه أحمد سوسة في كتابه (تاريخ حضارة وادي الرافدين)، ويعود في كل فصل من فصول كتابه الأربعة عشر، ضمن جزئي الكتاب، مؤكداً على نفي تلك الأفكار. صحيح أن العاطفة واضحة، بل وطاغية في أسلوب الخبير أحمد سوسة، لكن لم يكن ذلك كلاماً وتنظيراً فقط، إنما اعتمد المصادر والمقابلات بين الآراء، أي لم يفارقه البحث العلمي في ما ذهب إليه. غير أن البحث في مجال تاريخ الحضارات القديمة، لا يعطي نتائج قطعية مطلقة، بقدر ما هي آراء تخضع للجدل، وتعتمد على ما يظهر من تحت طبقات أتربة تلك المدن، التي غارت في أعماق الأرض. فمن جانبه، لم ينس الخبير أحمد سوسة الإشادة بأولئك الغربيين، الذين يختلف معهم، في دورهم بإظهار معالم تلك الحضارات، فلولا بعثات التنقيب الغربية، لظل خبرها مخفياً تحت الأرض، ولم يعرف الإنسان الذي يعيش عليها، الذي يعد حفيداً لصناعها، شيئاً عنها.
كانت هناك غاية، حسب ما يذهب إليه المؤلف، أن يعتبر السومريين آريين، بدلالة لغتهم المختلفة عن المنطقة، وهم الذين أسسوا حضارة وادي الرافدين، بعد طمس الوجود السامي، وذلك بتجاهل التسلسل الزمني في تاريخ الحضارة العراقية القديمة، وقد تبع الباحثون العرب هذا التصور، لتكون نظرية الأصل الآري للحضارة هو الحقيقة. يقول سوسة: (هذه هي العقدة الأساسية في تاريخ وادي الرافدين، لم تزل مستعصية دون حل. هذا في حين أن كل الدلائل تدل على حضارة وادي الرافدين، شمالها وجنوبها، حضارة سامية عربية، ازدهرت في عصور ما قبل التاريخ، مصدرها البشري جزيرة العرب، حيث أقدم حضارة بشرية في الشرق، بل في العالم، دامت نحو 100 ألف سنة) (1 ص 16)، التي عرفت بالدورة الجليدية الرابعة والأخيرة. بهذا الطرح، اعتبر سوسة نفسه مخالفاً (للتقليد المتبع الذي يجعل السومريين في المقدمة، باعتبارها أقدم حضارة في وادي الرافدين) (1 ص 20).
لكن، كيف انتقلت الحضارة السامية من الجزيرة العربية إلى وادي الرفدين، في العصور الغابرة؟! تم ذلك عبر شمال الوادي المذكور، وهذا ما يؤكده التشابه بين الآثار السورية والعراقية، أي وجود وحدة حضارية بين سورية والعراق، يتبين ذلك من الآثار المكتشفة بالبلدين، فاقترح نظرياً اسم (الحضارة الرافدية السورية)، وبالتالي، حسب سوسة وحدة (الحضارة الرافدية العراقية والسورية) (المصدر نفسه). عندما يذكر سورية يقصد بلاد الشام كافة، بما فيه لبنان وفلسطين والأردن، فكل هذه البقاع والشعوب يعود تاريخها الحضاري إلى أصل واحد.
أوضح المؤلف سبب هجرة الساميين من الجزيرة العربية إلى شمالها، وهذا ما أشار إليه بالمرحلة الأولى: (كانت الجزيرة تتمتع بمناخٍ تتوافر فيه كل مستلزمات الحياة، بخلاف ما نشاهده اليوم من انتشار الصحاري والرمال فيها من كل صوب، فكانت أوديتها الجافة حالياً أنهراً تغذي عصب الحياة المزدهرة، وقد عاشت شبه الجزيرة العربية أكثر من مئة ألف سنة على هذه الحال في العصر الجليدي الرابع، حتى حل دور الجفاف قبل نحو 15 ألف سنة، فهاجر أهل الجزيرة يتحرون عن بلد ذي نهر، يأوون إليه، فأقرب موئل لهم كان نهر الفرات، فلجأوا إليه). (1 ص 21).
عندما نزح الساميون، من الجزيرة، كانوا على حضارة زراعية وفنية ودينية، وكل ما يتعلق بالحضارة النهرية، فحملوها معهم إلى مضاربهم الجديدة في غرب وشمال الفرات، فكان الامتزاج بين الساميين والسومريين، بعد أن نزح الأخيرون من شرق وادي الرافدين، حيث عيلام، وعاشوا مختلطين، فظهر الساميون الأكديون على البقعة الجغرافية نفسها، حيث المناطق التي تختزن في باطنها الآثار، التي بهرت العالم بقدمها وتقدمها في تنظيم الري والشرائع، والثقافة.
الغربية والشرقية
ميز المؤلف بين الوجود السامي غرب وشمال الفرات وجنوبه، بما عبر عنه بالسامية الغربية والسامية الشرقية، فما أظهرته الآثار بسورية، أو بلاد الشام عموماً عرف بالسامية الغربية، وما ظهر بالعراق عرف بالسامية الشرقية، لكن الاثنين قد وردا من مكان واحد هو الجزيرة العربية، وكانت المحطة الأولى الشام، حيث أعالي الفرات، والثانية العراق حيث أسافله. حصل ذلك بحدود تسعة آلاف سنة قبل الميلاد، حسب ما ظهر من مكتشفات العام 1974 بسورية، وأول مستوطنة سامية، بعد النزوح من الجزيرة، كانت بقرية (المريبط)، والاختلاف عما ظهر في الجنوب، وما عرف بالسامية الشرقية، الأكدية الجنوبية، من خلال اللهجة وأسماء الملوك السامية.
يقدر تاريخ انتقال الساميين، من الشام إلى العراق، بعد الاستقرار وتشييد حضارة، أساسها ما نقلوه من حضارتهم السابقة بالجزيرة، بحدود الخمسة آلاف إلى الثلاثة آلاف وخمسمئة قبل الميلاد، وهذه هي المرحلة الثالثة في نزوح واستقرار الساميين بالشام ثم بالعراق. استعان سوسة بتوثيق ذلك على كتاب (تاريخ الشرق الأدنى القديم) لخبير الحضارات القديمة مورتكات.
بعد الانتقال إلى جنوب العراق تظهر الحضارات الآتية: حضارة (العبيد وأريدو)، لتستمر من خمسة آلاف إلى ثلاثة آلاف وثمانمئة قبل الميلاد. حضارة (الوركاء) لتستمر من نهاية حضارة العبيد إلى ثلاثة آلاف ومئتي سنة قبل الميلاد. حضارة (جمدة نصر) من نهاية الوركاء إلى ثلاثة آلاف قبل الميلاد. حضارة عصر الملك (مسيلم السامي) من نهاية جمدة نصر إلى نهاية عصر ما قبل التاريخ. كذلك يأتي باسم الملك (ايلولم)، أحد الملوك السومريين، وهو اسم (سامي) كدليل على الوجود السامي إلى جانب الوجود السومري، واختلاطهما أو تجاورهما بالمنطقة.
التاريخ يبدأ بالساميين
إذا كان الخبراء الغربيون، وأبرزهم خبير السومريات صموئيل نوح كريمر، اعتبر (التاريخ يبدأ بسومر)، وهو عنوان كتاب له، فأحمد سوسة، ومعه آخرون، اعتبر التاريخ يبدأ بحضارة العبيد السامية، فهي كانت الأقدم بالمكان، حيث اعتبرها أهم مرحلة في تاريخ العراق القديم، بل أقدم حضارة عراقية رافيدينية، وجدت في أنحاء العراق، وليس بجنوبه فقط، ووجودها بأعالي الفرات حيث سورية، وما سماه المؤلف بسورية السامية، وكذلك بمناطق الخليج العربي، ومنطقة شرق الجزيرة العربية، وما عبر عنه المؤلف بالسامية العربية، على أن التي بالشام السامية الفينيقية والكنعانية، فكل من مظان واحد، هو السامية، التي تقابل الآرية، والتي نسب إليها السومريون، واعتبروا وجودهم بداية التاريخ.
يكفي المؤلف أن يكون اسم (مسيلم) سامياً، دليلاً على سامية ما ذكره عن حضارة (جمدة نصر)، الملك مسيلم الذي حكم بكيش في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، على اعتبار أن عصر هذا الحاكم كان له دور بالانتقال من السومريين إلى الساميين، في ما يخص حضارة (جمدة نصر والوركاء)، المارا الذكر، وهذا ما سمي بعصر (فجر التاريخ) (1 ص 25).
يقول أحمد سوسة ملخصاً قناعاته في تاريخ الحضارة بالمنطقة: (نحن نعتبر أن تاريخ وادي الرافدين، يبدأ منذ ظهور أقدم استيطان حضاري على نهر الفرات في سورية، في الألف التاسعة قبل الميلاد، وهذا يتفق مع أول هجرة للساميين من جزيرة العرب، بعد الدورة الجليدية الرابعة. أما تاريخ العراق الحقيقي، فيبدأ منذ بداية حضارتي العبيد وأريدو اللتين تمثلان أقدم استيطان حضاري في جنوبي العراق، وهو يرجع إلى سنة 5000 ق. م، ويتفق مع هجرة الساميين من سورية إلى العراق) (1 ص 27).
ساق المؤلف دلائل على أن أصل هذه الحضارة هي السامية، وفق ما قدمته المكتشفات الآثارية:
1 - يعود وجود أهم المدن بجنوب العراق، والتي قدمت على أنها سومرية الأصل، قامت فوق قرى سكنية تعود إلى حضارة العبيد، ومن تلك الدلائل الهياكل العظمية، التي ظهرت في مقبرة أريدو، والأخيرة تنتسب إلى حضارة العبيد، وتلك الحضارة كانت سامية. فوجود الملك أيلولم بأريدو، وهي أقدم المدن قبل الطوفان، وهو اسم (سامي)، قد ينطبق على كل المدن الأخرى، التي قامت فوق طبقات حضارة العبيد.
2 - لم يصل السومريون، ولم يظهروا، في عصر حضارة العبيد والوركاء وجمدة نصر، إلا بعد عصر العبيد بنحو ألفي عام، وبهذا ينبغي اعتبار حضارة الوركاء سامية وليست سومرية، وهناك الوركاء قبل التاريخ، غير وركاء بعد التاريخ، وقصد بالسامية الوركاء الأولى.
أصل السومريين
حسب المؤلف أن الغربيين خلقوا العقدة السومرية، عندما سلموا الحضارة إلى جنس آري، إبعاداً للأصل السامي، ويدعو من جانبه، في حينها، إلى عقد مؤتمر دولي لعلماء الآثار، الأجانب والعرب، لحل هذه العقدة، وفق معطيات المكتشفات الحديثة.
أما عن أصل السومريين، وما احتمله العلماء على اختلاف طبقاتهم، فيستخلصها المؤلف بالآتي: اتفق الباحثون أن السومريين جنس غير (سامي)، ولغتهم غريبة أو أجنبية على ما سبقهم من حضارة كانت موجود بالمنطقة، التي نزحوا إليها. لقد ضرب خبراء الحضارة وتاريخها أخماساً بأسداس في أصل السومريين، ومجيئهم إلى جنوب العراق، أو وادي الرافدين. فمن قال إنهم قدموا من شمال الهند، من بين أفغانستان وبلوخستان، جاءوا من هناك سالكين طريق الخليج العربي عبر البحرين، حيث دلمون والآثار السومرية فيها، وفي طريق نزوحهم استقروا حيث عيلام، شرق العراق لفترة من الزمن، ومن هناك وصلوا جنوب العراق.
هناك من احتمل لأن الأصل السومري تحدر مما وراء القوقاز، وآخرون قالوا إنهم جاءوا من آسيا الصغرى، وآخرون احتملوا اندفاعهم في المنطقة من أرض السند، لوجود الجاموس في بيئتهم الجديدة، على أنهم حملوه معهم من هناك، بينما يعتبرهم آخرون أنهم سكان المنطقة الأصليين، وبهذا تكون حضارتهم أصلية بالعراق، غير محمولة من مكان آخر. فالجاموس لم يأت من السند، في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي (ت: 95هـ)، مثلما أشيع ذلك في ما بعد، وبالتالي يكون سكان الأهوار منقطعين عن الوجود السومري، أو أن السومريين أنفسهم أتوا من الهند والسند، إنما الجاموس حيوان أصلي في بيئة الأهوار، وقد دجنه السومريون أنفسهم، وبهذا يبعد الرأي القائل إنهم جاءوا من السند غير صحيح.
ما زال العلماء في حيرة من أمرهم في أصل الحضارة السومرية، لكن الثابت لدى المؤلف أن السومريين قد تعلموا، أو عرفوا، الزراعة بالعراق، وليس بمكان آخر قدموا منه، وأن الحضارة التي نسبت إليهم هي سومرية- سامية، أي تعلموا الزراعة وما كان عليه الساميين قبلهم، ويستند في ذلك إلى علماء سبقوه إلى هذه الفكرة أو النظرية.
استشهد المؤلف بما ذهب إليه الآثاري العراقي طه باقر (ت: 1983)، الذي أشار إلى أن (السومريين لم يكونوا أقدم المستوطنين، في السهل الرسوبي من جنوبي العراق، بل جاوروا أقواماً أخرى، وفي مقدمتهم الساميون، وبخلاف ما ذهب إليه البعض من نسبة الأصل الجبلي الخارجي إلى المهد الذي نزح منه السومريون، لا نجد من المآثر السومرية، وعلى رأس ذلك آدابهم وأساطيرهم، وشعائرهم الدينية، ما يشير إلى أصل غريب من بيئة وادي الرافدين الطبيعية، ولاسيما القسم الرسوبي منه، بل إن طابع حضارتهم المميز مشتق من بيئة نهرية ذات أحراش وقصب ونخيل..) (1 ص 33). والكلام منقول من طه باقر: إن تسمية السومريين نفسها مشتقة من المكان، أو الموضع الجغرافي، لا تحمل مدلولاً قومياً، أي المكان عرف بسومر فعرف هؤلاء المستوطنون فيه بالسومريين، شأنهم شأن الأكديين ونسبتهم إلى أكد، وكذلك البابليون نسبة إلى المكان بابل، والآشوريون نسبة إلى مدينة آشور، وهكذا.
كذلك يأتي أحمد سوسة على اعتراض عالم الآثار البريطاني ستيون لويد، الذي كان يعمل خبيراً لدى دائرة الآثار العراقية، على صموئيل نوح كريمر، في مقال له عن أريدو، الذي نشره في مجلة (سومر) العراقية المختصة بالآثار، في عددها الثاني لعام 1947، فقد استغرب لويد من رأي كريمر، الذي صرح في كتابه (الأساطير السومرية) (1944)، بأن الساميين كانوا يقطنون جنوب وادي الرافدين، عندما نزح السومريون إليها، وكأن كريمر قال ما هو محرم قوله، في ذهن الخبراء البريطانيين عن حضارة المنطقة، بمعنى أن كريمر اعتبر الوجود السامي سابقاً على الوجود السومري، وهذا يعني سقوط الرأي الغربي القائل في أن السومريين بداية التاريخ، وبالتالي أصل تلك الحضارة كان آرياً لا سامياً.
غير أن ما كتبه كريمر في طبعة كتابه الأولى، قد شطب في الطبعات اللاحقة، فلم يظهر في طبعة (1961) لكتاب (الأساطير السومرية)، وسرعان ما حاول تبرئة نفسه مما ارتكبه في الطبعة الأولى من كتابه المذكور، وذلك في كتابه (التاريخ يبدأ بسومر)! والذي أصدره العام 1959 بالإنجليزية (History begins at Sumer) وقد ترجم إلى العربية فيما بعد. كأن الكتاب الأخير كان اعتذاراً عن خطأ شنيع، لا يغتفر عند الأوروبيين في هذا المجال. فبعد أن اعتبر كريمر الحضارة السامية سابقة بجنوب العراق، راح مؤكداً أن الأصل هي الحضارة السومرية، وليس هناك وجود للسامية، التي ذكرها في كتابه الأول.
لكن ستيون لويد، الذي اعترض على رأي كريمر الأول، وتبنى الأصل السومري لحضارة وادي الرافدين، تراجع فيما بعد عن رأيه هذا، وخضع، والقول لأحمد سوسة، للحقائق التاريخية، التي فرضتها المكتشفات الجديدة من الآثار بالمنطقة، ولو كان متأخراً، حيث ظهر هذا التراجع عنه ضمن كتابه (آثار وادي الرافدين)، الذي صدر العام 1978، وجاء فيه: (ما يخص الساميين، فيجب أن يقال فيهم إنهم وجدوا (وردت تواجدوا) في سومر في عصر مبكر جداً، بدليل الخصائص اللغوية، والأسماء التقليدية لمدن العراق القديمة، التي وصلتنا من أوائل عهد فجر السلالات). ويعلق سوسة على هذا التغيير في رأي سيتون لويد بالقول: (وإننا نعتقد أن المكتشفات الآثارية الحديثة ستؤدي حتماً بالنتيجة إلى انجلاء حقيقة الأمر، مهما حاول الكتاب الحاقدون على السامية والعروبة إخفاءها أو إهمالها) (1 ص 26 - 27).
لا أدري، إذا ما كانت لدى المؤلف أحمد سوسة، إدانة لمؤامرة من قبل الغربيين على الحضارة السامية، وما أشار إليه بالحقد، لكن تبديل لويد، وهو خبير آثار بريطاني، رأيه كان خضوعاً للمكتشفات الآثارية، قد يفيد بأن الرأي الغربي، في اعتبار الجنس الآري هو صاحب السبق في نشأة أول حضارة إنسانية في العالم، كان اجتهاداً، تناقله الغربيون جيلاً بعد جيل، مثلما قد يكون تراجع كريمر المعاكس، ليس خشية ممن عده متآمراً سامياً، على اعتبار أنه كان يهودياً، إنما هو الآخر حصلت له قناعة في تغيير رأيه، بعد نحو ستة عشر عاماً على ما طرحه لصالح الأصل السامي لحضارة وادي الرافدين.
كذلك يأتي أحمد سوسة، بمن أشار إليهم بالعلماء، أو الخبراء الغربيين المحايدين، ومثالهم خبير الآثار (كارلتون) وكتابه (قصة الإنسان)، فقد أكد أن (أرض سومر كان يسكنها شعب، ذو لغة سامية في أغلب الظن)، وهذا يعني اعترافاً بوجود (سامي) سابق بالمكان الذي نزح إليه السومريون، من حيث نزحوا إلى العراق من خارجه. وبالتأكيد، حسب سوسة، أن وجود اللغة يعني وجود بشر يتكلمونها، وبالتالي هم الساميون، الذين نزحوا من الجزيرة العربية إلى شمال الرافدين، وشكلوا السامية الغربية، ثم هبطوا إلى جنوب العراق، وشكلوا السامية الشرقية، والتي تأثر بها وتعايش معها السومريون، حيث حضارة العبيد وأكد الساميتين.
أيد الآثاري العراقي طه باقر ما ذهب إليه خبير الآثار كارلتون، عندما أشار إلى أن السومريين لم يكونوا أقدم من قطن السهل الجنوبي من جنوب العراق، بل جاوروا أقواماً أخرى، ويأتي الساميون في المقدمة.
عن أصل السومريين، نجد المؤلف يحسم الرأي فيهم، بعد موافقته أن التسمية لم تكن تسمية قوم، وإنما تسمية ثقافة، أنهم قد نزحوا من عيلام البطائحية، ويقصد المناطق الشرقية من العراق، والتي هي ضمن بيئة أهوار جنوب العراق، وهي بيئة مائية معروفة منذ القدم. غير أن عيلام معروفة أنها لم تكن سامية، إنما آرية، حسب تصنيف الأقوام، إلى (سامي وآري)، الذي أخذ به منذ القرن التاسع عشر الميلادي، والذي يعتمده المؤلف، ويجده، حتى هذه الساعة، يحل مشكلة مفاهيمية واصطلاحية، لكن لا يعني ذلك أن عيلام هي أصل السومريين، فيحتمل أنهم قدموا إليها من مكان آخر ونزلوها، قبل نزولهم بجنوب العراق.
لا نشك في أن المؤلف أحمد سوسة، لم يتحدث منفعلاً بالعاطفة، في تأكيد سامية الحضارة الرافدينية، بعد جفاف الجزيرة العربية، وخلوها من الماء، على أنه كان السبب الأول في بناء الحضارة، بل وفي وجود الحياة، وانتقال الساميين بمعارفهم الزراعية الحضارية إلى شمال الجزيرة، حيث الشام ثم الهبوط إلى جنوب العراق، فتعايش السومريون مع الساميين، بجوار حضاري وشعبي، أدى إلى بناء المدن والعمران الحضاري، الذي كشف عن آثاره في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولولا الغربيون طبعاً ما كان هناك وجود إلى هذا الجدل حول تلك الحضارة، لكن ما هو واضح في الكتاب الذي بين أيدينا، أن المؤلف سوسة انطلق من تشكيك، وما يعبر عنه بنظرية المؤامرة، مع أنه لم يتجاوز الأدلة التاريخية، وظل ملتزماً بالمصادر، وقد لا يخلو بعض الغربيين، مما حسبه سوسة تشويه الحقائق، من أجل الانتصار إلى آرية أصل الحضارة.
التأثير السامي في السومريين
كان للأكديين الساميين دور في تطوير الحضارة السومرية، بعد الاستقرار بشمال وادي الرافدين، ثم نزحوا جنوباً حيث جنوب العراق ووسطه، واستقروا بحدود مدينة (لكش)، شمال المنطقة السومرية، على ضفاف نهر الفرات، فحصل التعاون مع السومريين والاختلاط، من دون معارضة، فلم يكونوا غازين تلك المناطق، إنما تم النزوح بشكل هادئ، بحثاً عن مصادر للحياة.
يقدم أحمد سوسة دليلاً على التعاون والاختلاط السلمي بين الأكديين الساميين والسومريين، وشعور الشعبين بأنهما شعب واحد، يواجهان الشر وينعمان بالخير معاً، هو وجود نظام الري المشترك بينهما، مثل الجدول الذي شقه السومريون، ويدعى (أيتورونكال)، بإشراف الأكديين، لما لديهم من خبرة سابقة في مجال تنظيم الري، والذي يعد آنذاك عماد الحضارة البشرية، فعليه تعتمد الزراعة وإقامة المدن، على أن السومريين لم تكن لديهم الخبرة الفنية في هذا المجال، فلو كانت لديهم، قبل وصول الساميين لسبقوا إليها، فقد كانوا سكان الأهوار، وهي منطقة لا تحتاج لتنظيم الري، فقد كانت عبارة عن مسطحات مائية، تملؤها غابات البردي والقصب، وتجتاحها الفيضانات العارمة سنوياً، وما زالت كذلك، إلى حتى الثمانينات من القرن المنصرم، أي قبل التوسع التركي بتشييد السدود حيث منابع النهرين، ومحاولات التجفيف الذي قام بها النظام العراقي السابق، ولوجود الفيضانات لا يستغرب أن قصة الطوفان جاءت من هناك، وكان سابقاً يعتقد أن طوفان تلك المنطقة يكون طوفاناً عالمياً يجتاح الأرض كافة، وهذا ما نبه إليه خبير الري سوسة. إن المناطق اليابسة وحدها تحتاج لتنظيم الري للسقي بتوزيع الماء، وهذه الخبرة لم تكن متوافرة لدى السومريين سكان الأهوار، إلا بعد الاختلاط بالساميين، بعد أن سكنوا إلى جوارهم قريباً من الأهوار (1 ص 423).
يعتقد سوسة، وهو الخبير في الري وحضارته، أن الجدول، المذكور سلفاً، يعد أول جدول مشترك بين الأكديين والسومريين. فلعظمته وحداثة فن شقه من قبل السومريين والأكديين، ادعى الملك (أورنمو)، مؤسس سلالة أور الثالثة (2111-2094 قبل الميلاد)، أنه هو الذي شق (أوتورونكال)، والجدول المذكور كان يخص بزل المياه للتخلص من ملوحة التربة. كان السومريون لوجودهم وسط الأهوار، العائمة على الماء، يجيدون إنشاء السدود باستعمال البردي والقصب، لدرء الفيضانات وتوفير أماكن للسكن، وهما المادة المتوافرة بكثرة في بيئة الأهوار، مع معاملتهما بالتراب، وهذا ما ظل عليه أهل الأهوار حتى وقت تأليف أحمد سوسة لكتابه في بداية الثمانينات، من القرن المنصرم.
يرى سوسة أنه بوجود الأكديين خرج السومريون من عزلتهم وسط الأهوار، واتصلوا بالشعب القادم من أعالي الفرات، الذي قبلها قدم من الجزيرة العربية، بعد تعرضها للجفاف، وظهور الصحاري القاحلة، بدل الأنهر والأراضي الزراعية، وعلى حد عبارة المؤلف: أن نور الحضارة انبلج بالمنطقة بعد اتصال السومريين بالأكديين في جنوب الفرات ووسطه داخل العراق، أدى ذلك الوجود المشترك إلى الاحتكاك بين الشعبين، لتنشأ حضارة مشتركة هي سومرية وأكدية.
حصل هذا الاحتكاك أو الاتصال بين الثقافتين، أو الحضارتين، السومرية والأكدية، أواخر ما اصطلح عليه بالعصر الحجري المعدني، الذي ظهر تقريباً في (3500) قبل الميلاد، وهو حسب المؤلف يعد الطور الثالث من حياة السومريين الزراعية.
يطرح أحمد سوسة، في الكتاب الذي بين أيدينا، السؤال التالي: لماذا أقام السومريون والأكديون الساميون على ضفاف نهر الفرات دون نهر دجلة، وتم استيطانهم هناك؟! فالمدن السومرية والأكدية كافة كانت مشيدة على ضفاف الفرات، في أسفل مجراه، حيث تتشكل دلتا هناك قبل مصبه في البحر. يجيب خبير الري على هذا السؤال، بالقول: (إن الأراضي الزراعية الواقعة بين دجلة والفرات، في جنوب الدلتا المذكورة، تنحدر من الفرات إلى دجلة، لذلك كان طبيعياً سير جداول الري في هذا الاتجاه نفسه، وحصر أعمال الإرواء بنهر الفرات، الذي تأخذ منه الجداول). (1 ص 445).
كذلك لأن الفرات، بخلاف دجلة، يجري بين ضفاف منخفضة، بينما يجري دجلة عبر مناطق جبلية في أعاليه، قبل وبعد دخوله العراق. بهذا كان الفرات جارياً بهدوء وبطء، ممكن السيطرة على مياهه واستغلالها زراعياً، وبالتالي قيام المدن على ضفافه.
إسلامياً حصل انتباه إلى طبيعة الفرات، أو طبيعة الأنهر وسهولة سيطرة الإنسان عليها، هناك من وصف الأنهر، حسب مطاوعتها للإنسان، والسيطرة عليها في مواسم الفيضان العاتية، فحسب ما نقله الفقيه مجد الدين بن الأثير (ت: 606هـ) في كتابه (النهاية في غريب الحديث)، يظهر الفرات مؤمناً لسهولته، بينما دجلة كافراً لصعوبته: (نهران مؤمنان ونهران كافران. أما المؤمنان فالنيل والفرات، وأما الكافران فدجلة ونهر بلخ). ذلك النهر الذي شهدت ضفافه التلاحم السامي السومري، وأول الشعوب السامية التي حلت على ضفاف النهر (المؤمن)، مثلما مر بنا، الأكدي ثم البابلي فالكلداني والآشوري، وكلها، حسب ما نقرأه عند سوسة، شعوب سامية، وبالتالي الأصول الأولى من الجزيرة العربية.


أحمد سوسة في السعودية

محمد بن عبدالله السيف: الرياض


استكمالاً للمقالة الضافية والمميّزة التي كتبها الدكتور رشيد الخيون عن (أحمد سوسة.. المُشترك بين العراق والجزيرة العربية)، والتي عرض فيها عرضاً مُستفيضاً لكتاب سوسة (تاريخ حضارة وادي الرافدين)، وهو الكتاب الذي ردَّ فيه سوسة وجادل عدداً من المؤرخين الغربيين حول أصل حضارة وادي الرافدين، وإغفالهم حضارة سبقت حضارة السومريين، وهي حضارة العبيد السامية، التي قدمت إلى بلاد الرافدين من الجزيرة العربية.
أودُّ في هذه المقالة أن أعرض لشيء من علاقة المفكر العراقي اليهودي أحمد سوسة - أسلم عام 1936م، على يد الشيخ محمد الخضر حسين-؛ بالمملكة العربية السعودية، ومدى محبته لها وحرصه على زيارتها والتجوّل في مختلف مناطقها، للاطلاع على أحوالها وأحوال أهلها. فحينما كنتُ أعمل على تأليف كتابي (حمزة غوث سياسي دولتين وإمارة)، الكتاب الذي صدر مؤخراً؛ وجدتُ في الأرشيف الشخصي لحمزة غوث وثائق تتعلق بأحمد سوسة وزيارته إلى السعودية، حينما كان حمزة غوث وزيراً مفوضاً وقنصلاً عاماً في العراق.
يذكر الكاتب سلمان الصفواني، وهو يعرض لعلاقته مع الدكتور أحمد سوسة أنه في عام 1937م زاره سوسة في منزله، وتحدَّثا عن كثير مما يخصُّ الجزيرة العربية وبلادها، وشؤونها الاجتماعية والأدبية والسياسية، وأنه قد أبدى رغبته في القيام بجولة في تلك الأقطار للاطلاع على مجريات الأحوال فيها ودراسة شؤونها. يقول: (وعهد إليّ وقتئذ بمفاتحة المفوضية العربية السعودية في بغداد لما بيني وبين القائم بأعمالها من صلات ودية لتسهيل أمر سفر الدكتور سوسة وصديقه إلى الجزيرة العربية).
وفي تلك الأثناء، صادف أن الملك عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، قد وجَّه وزير ماليته باستدعاء مهندسين مختصين بالزراعة والري من مملكة العراق لدراسة واقع منطقة الخرج، التي كانت تمثّل الحديقة الخلفيّة لمدينة الرياض، بما حباها الله من مميزات، فإضافة إلى قربها من مدينة الرياض، فهي واحة زراعية تسيح فيها العيون، لذلك أولتها الحكومة السعودية أهمية خاصة فيما يتعلق بالزراعة والمياه، وتنظيم سُبل هذين المجالين بما يعود بالنفع العام على البلاد.
صادف هذا الطلب رغبة الدكتور أحمد سوسة، وهو المهندس المختص بشؤون الزراعة والري، في زيارة المملكة العربية السعودية؛ فكان أن كُلّف بهذه المهمة، وقدِم على رأس بعثة زراعية تضمُ اثني عشر مختصاً بالزراعة والريّ. وقد أمضت هذه البعثة ما يقرب من العام، وقدَّمت توصياتها بشأن تصريف المياه وعمل القنوات المائية، وتدريب المزارعين. وقد نشرت صحيفة (أم القرى) تفاصيل عن هذه البعثة. وأشارت في عددها الصادر بتاريخ 12/ 5/ 1358 هــ، 30/ 7/ 1939م إلى مغادرة البعثة إلى بغداد بعد أن قامت بدراسة منطقة الخرج الزراعية وأساليب الري فيها. كما نشرت لاحقاً تقرير البعثة الزراعية، وما حققته من نجاحات في مهمتها التي أُوفدت إليها.
وفي الأرشيف الخاص بحمزة غوث بيان عنوانه: (الموظفون المستخدمون من قبل الحكومة العربية السعودية بواسطة المفوضية السعودية ببغداد للاشتغال في منطقة الخرج في نجد في مشروع ري منطقة الخرج، وذلك بواسطة عقود خاصة لمدة سنة واحدة، اعتباراً من 19 سبتمبر 1939م). وتضمَّن الكشف أسماء الأشخاص واختصاص كل واحد منهم، وراتبه الشهري، وما دُفع له على الحساب. والأسماء هي: محمد راوف الفلاي، وحسن غالي رشيد، والياس بهنام، وعبدالهادي محمود، وأحمد سليم، وراوف بشير، وجي حمو، ومحمد أهيس، وجاسم مصطاف. وكان أعلاهم راتباً، باستثناء رئيس البعثة، محمد راوف الفلاي، ووظيفته ملاحظ فني، 30 ديناراً عراقياً، وأقلهم جاسم مصطاف براتب شهري قدره 9 دنانير عراقية. ويبلغ إجمالي الرواتب الشهرية 142 ديناراً عراقياً.
كما تضمَّن البيان إشارة إلى استخدام سائقي سيارة دراكتور، براتب شهري 5 دنانير، والسائقان هما: الحاج محمود سبتي، وياسين سلمان.
وترد برقية من عبدالله بن حمد النفيسي من الكويت، في 11 رمضان 1358هـ، رداً على برقية بعثها حمزة غوث. يُشير النفيسي فيها إلى طلب حمزة غوث حوالة 150 ديناراً من طرف أحمد سوسة، وأنه حُوِّل له عن طريق عبدالرحمن بن محمد البحر. كما أَرفق النفيسي كشفَ حساب بالأخشاب والجينكو، وذلك حسب تعريف أحمد سوسة. ويختم النفيسي بأنه قد أرسل لحمزة غوث خطاباً وارداً من الملك عبدالعزيز.

ذو صلة