لا غرابة في أن تخطف وجدان رحالة الغرب الآتين للاستزادة من علوم بلاد الشرق، فمدينة (شبام حضرموت) واحدة من أقدم تجمعات قصور الطين العجيبة في العالم، ومن أهم لوحات مدن الشرق المعمارية الطينية الجديرة بأن يطلقوا عليها مسميات عابرة للجغرافيا والتاريخ، كان أشهرها (منهاتن الصحراء)، الذي أطلقته الرحالة البريطانية (فريا مادلين ستارك) (1893-1993م) في ثلاثينات القرن الماضي.
ويخطئ من يعتقد أن هذا اللقب يجترُّ شَبهاً مُشْتركاً بين حي منهاتن وسط مدينة نيويورك حالياً، أو حتى بزمن الرحالة (ستارك) -التي زارت المشرق العربي في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين- فماذا تقصد (ستارك) بمنهاتن الصحراء؟ مكاناً وزمناً، شكلاً ومضموناً؟ وما أوجه الشبه المقصود به، بين شبام ومنهاتن؟ هذا ما ستجيب عنه هذه المادة من وجهة نظر ستارك. لكن قبل ذلك تقتضي الضرورة الموضوعية، الوقوف على مشهد المدينة الصباحي، الذي يتثاءب على جدران منازلها الطينية منذ عصور ما قبل الميلاد.. إلى التفاصيل.
في الصباح الباكر يطل قرص الشمس البرتقالي، فتتجلى مدينة شبام حضرموت -أمام أعين الواصلين إليها من جهة الشرق -لابسة بريق الذهب الخالص، المتوهج تحت تأثير فيزياء مسارح الضوء على قطرات الطل والطين والبياض الجيري. وكعادتها المتسقة مع دورة الأرض الكروية، تخرج مدينة (شبام حضرموت) كل صباح من شغاف ندى الليل طرية رغم تقادم العصور، إنها المدينة التي اختطها الملك (شبام بن حضرموت بن سبأ بن وائل)، ما بين القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد، حسب مراجع التاريخ، ومنذ ذلك الحين، يتثاءب الصبح على جدران منازلها الشاهقة، متخذاً من رئة الطين متنفساً لحياة البشر والحجر والشجر، ومن أسرار الصلصال ثقاباً يشعل يوماً جديداً يعيشه مشهد تلك القصور المرصوصة بإتقان، في (أكثر بقاع شبه الجزيرة العربية، سعادة ونشاطاً) حَسْب وصف الرحالة الألماني (هانز هولفريتز) في كتابه (اليمن من الباب الخلفي) والذي زار حضرموت في 1943م.
منهاتن الصحراء
وبالعودة إلى خفايا وأسرار لقب (منهاتن الصحراء) الذي يوحي من الدلالة الأولى بشبه البناء الرأسي بين شبام ومنهاتن، فإن وشائج أخرى بين المكانين لا يدركها إلا من يمعن النظر في العمل الفني التجسيدي للمخطط المعماري لمنطقة منهاتن في عام 1660م المتمثل في اللوحة النادرة والأصيلة التي تعكس تصوراً -بناه الرسام الأمريكي جون ولكوت آدمز (7 نوفمبر 1874- 24 يونيو 1923م)- متخيلاً من واقع المراجع التاريخية ملامح النواة الأولى للتجمع الحضري لمدينة نيويورك، قبل نحو 363 عاماً، أي في 1660م.
كما أن المتتبع للتفاصيل المدونة في هذه اللوحة سيدرك أن الرحالة البريطانية (ستارك) -التي ألفت أكثر من عشرة كتب عن رحلاتها إلى بلدان الشرق الملفعة بالأساطير- كانت على إلمام كامل بتفاصيل وسحر هذه اللوحة الخالدة لنيويورك يوم كانت مستعمرة هولندية، وكان يُطلق عليها حينها -حسب بيانات اللوحة- (نيو أمستردام) نسبة إلى أمستردام عاصمة هولندا، وتعني أمستردام الجديدة، إبان الاحتلال الهولندي لأمريكا.
والملاحظ أن اللوحة التاريخية التي نعيد قراءتها اليوم تفصح بصريح البيان البصري عن زمن صحراوي سواحلي لمنطقة منهاتن أقدم مقاطعات مدينة نيويورك الحضرية، في صورة مقربة لمشهد شبام حضرموت، كما يتضح من خلال هذه اللوحة العتيقة أن تجمع منهاتن كان -حينها- محاطاً بالأسوار الطينية لتبدو على شَبَهٍ كبير بمدن الشرق، كشبام حضرموت، وفيما تغير الاسم الجامع لمنطقة منهاتن وما حولها، من نيوأمستردام إلى نيويورك، شهدت أيضاً مدينة شبام حضرموت عبر فترات التاريخ تحولات في الاسم، فعُرَفتْ بـ(بجم، الصفراء، العالية، البلاد، مدينة حضرموت، الزرافة، الدافئة) ومنذ 12 قرناً عرفت بـ(شبام حضرموت).
تاريخ شبام الإسلامي
يشير الهمداني -توفي عام 334هـ- في كتابه (صفة جزيرة العرب)، إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل في مطلع العهد الإسلامي الصحابي الجليل زياد بن لبيد الأنصاري -رضي الله عنه- والياً على حضرموت، فاتخذ من مدينتي شبام وتريم، مقراً له، وفي عام 129 هجرية اتخذ عبدالله بن يحيى الكندي من شبام حضرموت عاصمة لدولته القائمة على الدعوة الإباضية، ومنذ بداية القرن السادس الهجري انتشرت المساجد، حيث كان بها 30 مسجداً.
وعبر التاريخ الاسلامي، تعرضت شبام لكوارث وفيضانات وحروب، كان أكبرها الفيضانات التي تعرضت لها في عام 1533 تهدمت على إثرها المنازل ومعظم المساجد وبقي بعضها، مثل مسجد يوم الجمعة الذي شُيّد عام 904، أو القصر الحكومي الذي بُني عام 1220م، ما يعني أن المشهد الراهن تشكل منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي. غير أن الاستقرار النسبي الذي ساد وادي حضرموت تحت حكم السلطان بدر أبو طويرق الكثيري (977 - 922هـ) شكّل نقطة تحول للمدينة بشراً وحجراً. حيث ضاقت بالبشر فاتجه البناؤون نحو البناء الرأسي للمنازل.
القيم الجمالية والنفعية
من يزور هذه المعجزة القادمة من أغوار التاريخ، سيسري في وجدانه صدى الزمن، مؤكداً أن عشرات القرون قد مرّت من هنا تاركة لذاكرة الأجيال المتعاقبة (سُكَّاناً وزائرين) معلّقة رصينة من الطين، تتطاير دهشة من غبار الأساطير وحكايا حروب وسلام وكوارث وأوبئة وخراب وبناء، جميعها تشي بمعاني التحام الإنسان بالمكان، عبر محطات الزمن، في منطقة تفصل بين تخوم صحراء الربع الخالي شمالاً، وبين مرتفعات جبال وهضاب حضرموت جنوباً.
الأهم، أن الزائر سيدرك أن بناء المنازل الطينية المتعانقة، لم يكن صادراً عن عشوائية أو هشاشة، بل بنيت وفق انتظام مرتبط بالذوق والانسجام الجمالي الصادرين عن ذاكرة معرفية التقت فيها وشائج الصلة والعلاقة التكوينية بين الإنسان والطبيعة والطين، وبين الإنسان ومحيطه الاجتماعي، ومدى استشعاره بالأخطار.
ولم يكن هذا الاكتمال النفعي والجمالي صادراً -كما يتبادر إلى مخيلة الرائي لهذا المعمار الفريد- عن معرفة علمية وهندسية، خاض منتجوها مراحل تعليمية، بل امتلكوا الإبداع بالسليقة، وتوارثوا المهنة جيلاً بعد جيل، فصاروا على معرفة تامة بالمسارات المعيارية البنائية للعمارة، كالمحددات البيئية من المناخ، ونوعية التربة، والمواد المتوفرة، والمحددات الوظيفية، والنفعية، في التقاسيم الداخلية للمبنى، ناهيك عن المحددات الجمالية للشكل الخارجي الماثل كلوحة رمزية تعكس ثقافة الإنسان والمكان وهويتهما.
أسرار البقاء
رغم بساطة مواد البناء المستخدمة في تشييد قصورها، يرجع المعماريون أسباب بقاء مدينة شبام حضرموت حاضرة في قلب الزمن، إلى دوام الإنسان على التعايش معها بألفة مقرونة بقيم العمل، والتمسك بالمكان كسمة حضارية، أكسبت تلك المباني الطينية سمة الاستمرار، ونَفَسَ البقاء، فقد بنيت هذه المنازل الشاهقة من الِّلبْن النيّ -أي غير المحروق، الذي يُحَضَّر من الماء والتُراب، وباستخدام آلات وأدوات تشكيلية تُسمى قوالب خشبية.
وفي العصر الحديث ظهرت القوالب الحديدية، أو اللبن المحروق: (المدَّر) أو بالأحرى الصلصال الذي يجهز وفق عملية خلط نوع خاص من الطين اللازب مع الماء، ثم يُجَفَّف بتعريضه للشمس، ثم يتم حرقه في أفران خاصة وبدرجة حرارة عالية تستمر لأيام.
وتؤكد المراجع أن البنائين عندما كانوا يشرعون في بناء منازل شبام، يضعون طبقة من روث الجمال أو الحمير، في حُفَر الأساس تليها طبقة من الملح المنقول من شبوة، وبعد ذلك توضع كِسَر وأغصان الأشجار. ويبلغ سمك كل طبقة من الطبقات حوالي 5-10 سم، وهي تعد مواد فاصلة بين تربة الأرض، وأحجار الأساس الأولى حتى لا تتأثر بتغيرات التربة عبر الزمن، وبعدها توضع الحجارة المشذَّبة مع خليط طيني ماسك، وبعدها تبدأ عملية البناء باللِّبن (الطوب النِّي)، ويستخدم الرماد أو الطين لربط اللبن أو الطوب أو الحجر ببعضها البعض. فيما يغلف الجزء الخارجي من الجدار بطبقة من الطين اللزج المخلوط بالتبن والرمل.
وتأتي بعد ذلك عملية التجصيص بالجصِّ (مادة جِيريَّة) حيث ترسم بلونه الأبيض الأحزمة والأشرطة، التي تحدد شرفات النوافذ والأبواب والخطوط الفاصلة بين الطوابق ويرتدي الطابق الأعلى لكل منزل بالبياض، أما السقوف فهي تُرفع من أعواد الخشب التي ترص بانتظام ثم تغطى بحصير من سعف النخيل توضع فوقها طبقة سميكة من الطين. أما داخلياً فيتم تغليف الجدران والسقوف بالطين ثم صقلها وتلوينها أو صباغتها بالجير الأبيض وألوان أخرى مستمدة من الطبيعة.