مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

مع اللذة

موضوع الأخلاق والسعادة واللذة والمنفعة من الموضوعات الحساسة المهمة في حياتنا، إذ بها تنضبط كثير من الظواهر في مجتمعاتنا، بل وفي الكون الجامع لنا، في هذه المساهمة نحاول أن نقف عند جزئية مهمة جداً وهي قضية اللذة التي يبحث عنها الجميع، منهم من يرغب في تحقيقها لذاته، ومنهم من يرى أن الجميع ينبغي أن يحصل عليها. فكيف قارب الباحث وليم ليلى هذا الموضوع من الناحية الفلسفية؟
يرى مذهب اللذة الأخلاقي أن اللذة هي الصفة الأخلاقية الوحيدة التي لها قيمة وتتصف بالخير. كما يرى أن الفعل الخيّر والفعل الصائب هما اللذان يؤديان بنا إلى اللذة، وأن الفعل الذي تنتج عنه لذات أكبر أفضل من ذلك الذي تنجم عنه لذات أقل.
إن مذهب اللذة في نظر وليم ليلى هو مذهب في الأخلاق يخبرنا عن كيف يجب على الإنسان أن يفعل، وما الذي يجب عليه أن يطلبه أو يرغبه، وبهذه الطريقة يختلف هذا المذهب عن مذهب اللذة السيكولوجي وهو مذهب نفسي يرى أن الإنسان يفعل دائماً الأفعال التي تؤدي إلى لذته، وأنه يرغب في تحقيق تلك اللذة. ويرى أنصار مذهب اللذة السيكولوجي أن الإنسان يرغب دائماً في تحقيق اللذة ولكن ليس بالضرورة أعظم لذة ممكنة.
وهناك نوعان من مذهب اللذة الأخلاقي:
أ‌- مذهب اللذة الأناني الذي يرى أن على الفرد أن يبحث عن أقصى قدر من اللذة لنفسه وأن يبعد عنه الألم ما أمكن.
ب‌- مذهب اللذة العام هو ما يعرف بمذهب المنفعة الذي يستهدف تحقيق اللذة لا للفرد وإنما لأكبر عدد من الناس.
ويتوقف هنا وليم ليلى بتبسيط هذين المذهبين:
مذهب اللذة الأخلاقي الأناني
هذه النظرية ترى أن الفعل يكون صائباً إذا ما حقق لفاعله أكبر قدر من اللذة، ولا أهمية هنا لتوابع الفعل الأخرى، مثل ما قد يحدثه من ألم بالنسبة للآخرين. ويتبع ذلك تحديد واجب كل إنسان في تحقيق أقصى قدر من اللذة لنفسه في هذه الحياة، وأن يكون ذلك الواجب هو الواجب الوحيد.
ويذكر وليم ليلى أن القورينائيين اليونانيين القدامى يرون أن الإنسان يطلب اللذة في كل لحظة تمر عليه دون اعتبار للنتائج المقبلة، أما الأبيقوريون فلقد كانوا يدعون للاهتمام بالنتائج المقبلة، بالإضافة إلى نتائج اللحظات الراهنة حتى يستطيع الإنسان أن يحصل على أكبر قدر من اللذة في حياته، ولكنهم كانوا يطالبون بالعيش في حياة هادئة لا انفعال فيها.
الواقع إذاً هو أن تعاليم مذهب اللذة الأناني لا تتفق مع فطرتنا وطبيعتنا خصوصاً إذا كنا في مجال الأخلاق، فلا يوجد عاقل بين الناس يتصور أن واجبه الأخلاقي في البحث عن لذاته. وهنا يؤكد وليم ليلى على أن هناك نقداً يجب أن نوجهه لذلك المذهب، وهو أن الإنسان لا يبحث عن لذته أو منفعته الفردية غير عابئ مطلقاً بملذات أو منفعة الآخرين، فهو لا بد من الوجهة الأخلاقية أن يعي أن تحقيقه للذاته أو منفعته يجب ألا تسبب الآلام لغيره من الأفراد، وأن سعادته يجب ألا تقضي على سعادة الآخرين.
مذهب المنفعة
أكد بعض الكتاب الأخلاقيين في القرن الثامن عشر بما فيهم بتلر وشافتسري على طبيعة الإحسان، وعلى البحث عن خير الآخرين، وعن مكانة ذلك كله في الحياة الأخلاقية. وقرر هاتشسون أن الغاية الموضوعية للسلوك الخير هي تحقيق (أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس) وهي عبارة أصبحت عنواناً بارزاً للمذهب النفعي الذي كان من أعلامه في بداية القرن التاسع عشر بنتام، وجيمس بل، وابنه ستيوارت مل.
ولعل من أسباب قبول مذهب المنفعة قبولاً واسعاً، أنه استبدل اللذة بالمنفعة، ولم يبحث فيما يحقق سعادة الفرد الأنانية، وإنما سعادة أكبر قدر من الناس، وأنه حاول تقديم نوع من الإصلاح الاجتماعي تستصوبه الجماعات والناس.
وتوقف هنا وليم ليلى مع نموذجين هما: نظرية جون استيوارت مل، وهنري سيدجويك.
- جون استيوارت مل
يمكن تلخيص وصف (مل) لمذهب المنفعة في العبارات الخمس التالية:
- اللذة هي موضوع الرغبة الوحيد لدى الناس.
- الدليل على أن الشيء يكون مرغوباً فيه، هو سعي الناس ورغبتهم تحقيقه فعلاً.
- سعادة الفرد أو لذته خير له، ومن ثم فاللذة العامة أو السعادة الكلية هي خير الجميع.
- الأشياء الأخرى التي يرغبها الناس ليست إلا مجرد وسائل تعيننا على بلوغ السعادة.
- إذا تم تفضيل لذة من لذتين بمعرفة الأكفاء من الناس، فنستطيع أن نبرر ذلك بقولنا إن تلك اللذة المفضلة تفوق اللذة الأخرى من حيث الكيف.
ويعلق وليم ليلى بالقول إنه حيث يستخدم المذهب النفعي عبارة (سعادة أكبر عدد من الناس) فإنه يقدم اعتباراً آخر غير الذي ذكره مذهب اللذة الصارم: إنه يقرر أن علينا أن نستهدف ليس تحقيق السعادة وحسب وإنما توزيعاً عادلاً أيضاً. فمن الخطأ أن نحقق سعادة فرد أو فردين مهما كانت كمية السعادة التي سيحصلان عليها، ومن الأفضل توزيع -مهما ضأل من السعادة- على جميع الناس بصورة عادلة.
وعن القول (إن اللذة هي الشيء الوحيد المرغوب أو الصالح) يرى وليم ليلى أن النقد الرئيس الموجه لمذهب المنفعة ولمذهب اللذة بكل صورة هو أننا لا نقبل أن تكون اللذة هي موضوع رغبتنا الوحيد، وأنه هو وحده الشيء الصالح أو الخير، فنحن ندرك إدراكاً مباشراً وجود أشياء أخرى تتصف بالصلاح أو بالخير عدا اللذة.
نظرية سيدجويك
لقد اهتم سيدجويك وهو من أعظم المفكرين الإنجليز الذين نادوا بالمذهب النفعي في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر في كتابه (مناهج علم الأخلاق) بثلاث نظريات أخلاقية في المذهب الحدسي، ومذهب اللذة الأخلاقي الأناني، ومذهب المنفعة.
ونوع المذهب الحدسي الذي فحصه سيدجويك فحصاً متعمقاً هو ما نطلق عليه بالمذهب الحدسي العام أو الدجماطيقي الذي يرى أننا ندرك بعض القواعد الأخلاقية إدراكاً مباشراً بالحدس أو بالبديهة. ولقد ذهب سيدجويك إلى أن هذه القواعد هي التي اعتنقها النفعيون في عصر التنوير، الذين ذهبوا إلى أن الحدس ما دام يقدم لنا إرشاداً وتوجيهاً أو دليلاً واضحاً، فنوع الفعل المتصل به بالتأكيد هو ما يسبب أعظم قدر من السعادة لكل البشر.
ولقد رأى سيدجويك أن لكل نظرية (حدوساً) من هذا النوع، فمذهب اللذة الأخلاقي يقوم على البديهة القائلة بأن من الواجب علي أن أبحث أعظم لذة ممكنة لنفسي مهما كانت نوعية النتائج الأخرى لأفعالي. ولقد ذكر سيدجويك نفسه مبادئ بديهية يدركها العقل العملي إدراكاً مباشراً منها مبدأ الإحسان القائل بأن من واجبنا أن نسعى إلى الخير بصفة عامة ولا نسعى إلى جزء معين منه، وأن ننظر إلى صالح الآخرين قبل النظر في صالحنا، ومنها مبدأ المساواة القائل بأن خير فرد ما يتساوى مع خير الآخرين، وأنه لا يوجد خير فردي أهم من خير أي فرد آخر.
انطلاقاً مما سبق، نؤكد على أنه يجب الاهتمام اليوم قبل الغد بموضوع المسائل الأخلاقية، خصوصاً في ظل تشييء الإنسان وجعله مجرد رقم مادي وتجريده من إنسانيته وهو ما يفتح الباب وربما تم فتحه لتفكيك هذا المخلوق الذي حمل أمانة الاستخلاف في الأرض. يجب أن نعيد للإنسان مكانته ودوره حتى لا تكثر الفوضى، فالأنانية التي فرضتها العولمة جعلت الفرد يفكر في ذاته ومصلحته دون مراعاة للآخر الذي يعد شريكاً له في هذا الكون الجامع.

ذو صلة