بعد يوم واحد فقط من الافتتاح الرسمي لمسجد نور سلطان الكبير في قلب مدينة (نور سلطان) عاصمة كازاخستان، تحول هذا المسجد الرائع بقبته الزرقاء السماوية ومآذنه الأربع الشاهقة إلى قبلة محببة لسكان المدينة وزوارها. إنه صرح معماري وديني فريد يدعو للفخر، ليس على الصعيد المحلي فحسب بل على الصعيد العالمي أيضاً، وبخاصة أنه أصبح أكبر مسجد في آسيا الوسطى، وواحد من بين أكبر عشرة مساجد في العالم من حيث القدرة الاستيعابية لأعداد المصلين.
أفواج كبيرة من الشباب والشابات، الرجال والنساء، الأطفال والكبار اندفعوا في صبيحة هذا اليوم لمشاهدة وزيارة المسجد والتجول في باحاته وحدائقه، والتمتع بالسكينة والصفاء الروحي في ردهاته وقاعته الرئيسة الضخمة التي تتسع لأكثر من 30 ألف مصلٍّ. البعض تجمع حول نوافير المياه الباردة في الساحة الخارجية الكبيرة وهو يبحث عن بعض البرودة التي تقيه قليلاً من حرارة الصيف، والبعض الآخر افترش العشب أو جلس في الظل للاستمتاع بمشهد المسجد من الخارج.
في الداخل، أمضى الزوار وقتهم في الصلاة والتجول في جنبات المكان متطلعين بعيون ملؤها الدهشة إلى كل تفصيل من تفاصيل المسجد، بما في ذلك الجدران، والأسقف، والقبة الكبيرة، والثريا الضخمة، والسجادة اليدوية التي تعد الأكبر حجماً في العالم. على مقربة من محراب المسجد جلس رجل دين في مقتبل العمر يرتل بصوت هادئ وعذب، وبلغة عربية متقنة ما تسنى له من القرآن الكريم، وحوله تجمع عدد من الضيوف يستمعون بخشوع وسكينة إلى كلمات الرحمن وهي تجوب فضاء المسجد.
في الواقع، يمكن القول إن اهتمام السكان المحليين بمختلف طوائفهم وأديانهم بالمسجد لم يكن وليد اللحظة بل بدأ منذ فترة طويلة جداً، ربما منذ بداية ظهور أول مئذنة له كما تقول إحدى الجهات المنفذة للمشروع. إذ تابع سكان المدينة عن كثب تطور عملية البناء يوماً بعد آخر، وهم ينتظرون بفارغ الصبر الانتهاء من هذا الصرح الرائع الذي يمكن أن يوصف بالتحفة المعمارية الاستثنائية.
تحفة معمارية استثنائية
بدأت أعمال البناء في مسجد نور سلطان الكبير في عام 2019، واستمرت دون توقف رغم الظروف القاسية والاستثنائية التي شهدها العالم خلال الأعوام الثلاثة الماضية بسبب جائحة كورونا. أما تصميم المسجد فكان ثمرة عمل مشترك جمع العديد من الأشخاص والمعنيين، وفي طليعتهم الرئيس الأول لجمهورية كازاخستان (نور سلطان نزارباييف) الذي وضع حجر الأساس للمسجد قبل يوم واحد فقط من استقالته من منصبه كرئيس للبلاد، وكان حاضراً في حفل الافتتاح في منتصف شهر أغسطس/ آب من عام 2022.
كما شارك في التصميم والدراسات الخاصة بالبناء خبراء ومصممون ومهندسون معماريون من تركيا والدول العربية وإيطاليا وألمانيا وأجزاء أخرى من العالم، الأمر الذي جعل من هذا المسجد عملاً استثنائياً وتحفة معمارية تجمع في مفرداتها بين التجربة الإبداعية والجمالية للعمارة الكازاخستانية من جهة والعمارة الإسلامية في مناطق واسعة من العالم من جهة أخرى.
صنف المسجد واحداً من بين أكبر عشرة مساجد في العالم، بسعة إجمالية تبلغ 235 ألف مصلٍّ. وتزيد مساحة الأرض التي بني فوقها المسجد عن عشرة هكتارات، بينما تزيد المساحة الإجمالية للبناء نفسه عن 68 ألف متر مربع. ويبلغ ارتفاع القبة الزرقاء الرئيسة للمسجد حوالي 83 متراً ويزيد قطرها على 62 متراً، كما يتضمن المبنى مجموعة من القباب الجانبية الأصغر حجماً، وأربع مآذن شاهقة يصل ارتفاع كل واحدة منها إلى 130 متراً. وتم تخصيص واحدة من هذه المآذن لتكون بمثابة برج سياحي مخصص للزوار، يتكون من خمسة أجزاء متتالية تمثل أركان الإسلام الخمسة، ويمكن الصعود للجزء الأعلى والاستمتاع بمشهد بانورامي واستثنائي للعاصمة.
في الطابق السفلي من المسجد توجد قاعة احتفالات ضخمة، ومساحة مخصصة لإقامة الشعائر الدينية، ومساحة أخرى مخصصة للأضاحي، وأستوديو للتلفزيون.. وغيرها من المرافق الخدمية. بينما تنتشر في الطابقين الأول والثاني، باستثناء الأماكن المخصصة للصلاة، عدة فصول دراسية وقاعة مؤتمرات ومكتبة وقاعة لحفلات الزفاف وقاعة لحفظ وتجويد القرآن الكريم ومكاتب ومساحات للموظفين ومتاجر ومتحف وغرف فنية. في الواقع، هذا التنوع الكبير للمرافق في الموقع يجعل من المبنى أكثر من مجرد مسجد بل مؤسسة متكاملة تضم كافة المرافق التي يحتاجها المجتمع المسلم في المدينة.
يعتبر باب المدخل الرئيس للمسجد من أعلى الأبواب الخشبية المزخرفة في العالم، وهو مصنوع يدوياً من الخشب الصلب ويبلغ ارتفاعه 12.40 متراً ووزنه 1.5 طناً. تم تزيين هذا الباب والأبواب الداخلية أيضاً بزخارف جميلة تعكس الطراز الإسلامي في كازاخستان. والأمر نفسه ينطبق على الأبواب الزجاجية للمسجد التي يبلغ ارتفاع كل واحد منها نحو 12 متراً ووزنه 1.5 طناً، وهي مصنوعة من الزجاج المزخرف والملون.
أما الجدار الفسيفسائي من جهة القبلة فيبلغ طوله 100 متر وارتفاعه 22.4 متراً، وتم تزيينه بـ25 مليون قطعة ملونة من الكريستال التي تم تثبيتها على قطع الفسيفساء بشكل يدوي. بينما تعتبر ثريا الكريستال الموجودة في القاعة الكبرى من المسجد من أكبر الثريات في العالم، حيث يبلغ قطرها 27 متراً ووزنها 20 طناً، وتم صنعها يدوياً من 1.360.890 قطعة ملونة من الكريستال بأحجام مختلفة. كما تضم القاعة الرئيسة أيضاً أربع ثريات أخرى يبلغ قطر كل واحدة منها 8 أمتار، وهي معلقة في الزوايا الأربع للمسجد. ويبلغ عدد قطع الكريستال المستخدمة بالكامل 3.614.833 قطعة.
ومن أكثر الخصائص الملفتة السجادة الضخمة التي تغطي المساحة الداخلية للمسجد والتي تبلغ مساحتها الإجمالية 16.500 متراً مربعاً ووزنها 4700 غراماً في المتر المربع وسماكتها 15 مليميتراً، مما يجعلها أكبر سجادة مصنوعة يدوياً والأكثر وزناً في العالم. بينما زينت جدران المسجد والقبة من الداخل بنقوش ملونة، وزخارف، وآيات مختارة من القرآن الكريم، وأسماء الله الحسنى، وبعض الأدعية باستخدام الأنماط الكازاخستانية والخط العربي. وقام الخطاط الكازاخستاني (أسيلبيك بايوزاكولي)، خريج جامعة نور مبارك، الذي تلقى دروساً على يد العديد من الخطاطين المشهورين عالمياً، بكتابة كل هذه الآيات على جدران المسجد باللغة العربية.
رمز يبرز الحضور الإسلامي في كازاخستان
من المتوقع أن يصبح مسجد نور سلطان الكبير، الذي يمكن رؤيته من أجزاء كثيرة من المدينة، أحد الرموز الدينية ومناطق الجذب السياحية الرئيسة في مدينة نور سلطان في كازاخستان. كما تم ترشيح هذا المسجد لموسوعة غينيس للأرقام القياسية على أكثر من صعيد، إذ يقدم المسجد رقماً قياسياً عالمياً في حجم الثريا الرئيسة في القاعة الكبرى، بينما يقال إن جدار القبلة هو الأكبر من نوعه بعدد بلورات الكريستال المستخدمة فيه وحجمه الإجمالي، كما يضم المسجد أحد أكبر أبواب المعابد في العالم، وأكبر فناء مسجد مبني في مناطق جغرافية يسود فيها مناخ الشتاء البارد، بالإضافة إلى السجادة المدهشة التي تعد أكبر سجادة مصنوعة يدوياً في العالم.
ولكن الأهم من ذلك، أن المسجد يتجاوز دوره الرئيس كمكان للعبادة وكصرح معماري يثير الإعجاب والدهشة ليصبح رمزاً جديداً يبرز أهمية الحضور الإسلامي في آسيا الوسطى، ويؤكد على الوحدة والصداقة بين المجموعات العرقية المتعددة التي تعيش في كازاخستان. إذ يشكل السكان من العرق الكازاخستاني أكثر من نصف تعداد السكان في البلاد، بينما تشمل المجموعات العرقية الأخرى المهمة كل من الأوزبك، والأويغور والتتار، ويجمع هذا المسجد بين كافة المجموعات العرقية ذات الخلفية الإسلامية دون تمييز.
يزيد عدد سكان كازاخستان عن 19 مليون نسمة، وهي دولة ذات أغلبية مسلمة، حيث يتبع الإسلام أكثر من 72 % من إجمالي سكان البلاد، بينما يتبع أقل من 25 % من السكان الديانة المسيحية بما في ذلك أولئك الذين ينحدرون من أصول روسية وأوكرانية وبيلاروسية. وعلى الرغم من ذلك وفقاً للدستور الحديث الذي وضعته البلاد في عام 1995، تقدم جمهورية كازاخستان نفسها كدولة ديمقراطية وعلمانية وقانونية واجتماعية، تقوم على قيم الإنسان وحياته وحقوقه وحرياته، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو مذهبه.
لكن، على الرغم من أن كازاخستان هي الدولة الوحيدة في آسيا الوسطى التي لا يولي دستورها مكانة خاصة للديانة الإسلامية، إلا أن هذا لم يمنع الرئيس السابق (نور سلطان نزارباييف) من وضع حجر الأساس لأكبر مسجد في آسيا الوسطى، والتوجه نحو العالم الإسلامي والانضمام إلى منظمة التعاون الإسلامي، مقدماً بلاده كجسر يربط بين الشرق والغرب.
وفي كلمته خلال حفل الافتتاح أشار نزار باييف إلى أنه بنى هذا المسجد في سبيل الله تعالى، الذي ساعد البلاد على الاستقرار خلال فترة الاستقلال، وختم بالقول: (إن افتتاح هذا المسجد للعبادة يعد حدثاً مهماً ليس فقط لعاصمتنا وبلدنا، ولكن أيضاً للعالم الإسلامي بأسره). بالنتيجة، يرى الكثير من المتابعين اليوم أن افتتاح هذا المسجد، وهو من بين أكثر من 2300 مسجد موجود في البلاد، يأتي كدلالة على أهمية الحضور الإسلامي العريق في كازاخستان بعد سنين طويلة من الاستقلال واعتماد الدستور الجديد للبلاد.