مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

القَسَمُ عند المصريين وعند خلفاء بني العبّاس والمؤرخ المصري العبّادي وأبو العبّاس السفّاح

ربما لا يوجد شعب على وجه الأرض عبر عن حبه للحياة وتقديسه للعمر مثلما عبر المصريون عن ذلك، فالحياة عندهم (جنة عشها وتهنى)، والدنيا (يا سلام عليها وعلى حلاوتها)، والعمر (حنعيشه مرة مش مرتين.. ليه نضيعه هجر وخصام وحنا نقدر نخلق الدنيا الجميلة). فلا شيء أغلى عندهم، ولا أقدس من العُمر، ولذا تجدهم يَحلفون ويُقْسِمون به على طريقتهم الشهيرة: (وِحْياتي/ وِحْياتك).
قد يتبادر إلى الذهن -أو لعله قد تبادر فعلاً- أن هذا القَسَم قسمٌ مصري خالص، محدث جديد، لا صلة له بماضٍ بعيد، وإن كانت له جذور سابقة فستكون قريبة العهد على أي حال؛ لكن الأمر ليس كذلك، فالعرب منذ الأزل كانوا يُقسمون بحياتهم، فيقولون: لعَمْري، ويُقسمون بحياة من يخاطبونه، فيقولون: لَعَمْرُك. والأولى أكثر استخداماً.
و(العَمْر والعُمُر والعُمْر: الحياة، فإذا أقسموا فقالوا: لَعَمْرُك فتحوا لا غير، وسُمّي الرجل عَمْراً تفاؤلاً أن يبقى) (لسان العرب لابن منظور).
وأقسم الله عز وجل بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (لَعَمْرُك إنهم لفي سكرتهم يعمهون)، قال ابن عباس: لَعَمْرُك أي وَحَياتُك. قال: وما أقسم الله تعالى بحياة نبي غيره. قال ابن القيم: (والعَمْرُ والعُمْرُ واحد، إلا أنهم خصّوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف لكثرة دوران الحلف على ألسنتهم).
وورد عن النبي والصحابة استعمالهم لفظ هذا القسم (لعمري) في أكثر من موضع، والشواهد كثيرة، وهي من الشهرة ما يجعل أمر سردها حشواً لا داعي له.
أما عن استعمال القسم (وَحَياتي/ وَحَياتُك) لفظاً ومعنى، فيظهر لنا من النصوص التي حملتها كتب التراث؛ أنه كان في بواكير العصر العباسي.
كان الخلفاء العباسيون يضعون من أمامهم في حرج بالغ إذا حلّفوه بحياتهم، فلا شيء أكثر امتهاناً للخليفة من أن تكذب عليه أو تخفي الحقيقة عنه بعد أن حلّفك بحياته. وقصة هارون الرشيد مع جعفر البرمكي فيها بيان ذلك، وفيما يروى أنها كانت سبباً مباشراً لقيام الرشيد بقتل جعفر، ولنكبة البرامكة بشكل عام. ذلك أن الرشيد أمَر جعفر بحبس يحيى بن عبدالله بن الحسن (أول المعارضين العلويين في عهد الرشيد)، فحبسه. ثم دعا جعفر يحيى ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره، فأجابه، ثم كلّمه بكلام جعله يرق له، فأطلقه من حبسه. وجاءت عيون الرشيد بالخبر إليه، فسكت ولم يبدِ اهتماماً بالأمر. حتى جاءه جعفر، فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه، إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال الرشيد: ما فعل يحيى بن عبدالله؟ قال: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال. قال: (بحیاتی!) فأحجم جعفر -وكان من أدق الخلق ذهناً، وأصحهم فكراً- وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا (وحَياتُك) يا سيدي، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده. قال: نِعم ما فعلت، ما عدوت ما كان في نفسي. فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن وجهه، ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك! فكان من أمره ما كان. (الطبري، تاريخ الرسل والملوك).
ولا يقتصر حلف الخلفاء بحياتهم في الأمور الجادة فقط، بل نجده في هزلهم وأسمارهم. يروي ابن طيفور (ت 280هـ): أن إبراهيم بن المهدي دخل يوماً على المأمون، فتأمل المأمون جثته، فقال يا إبراهيم: عشقت قط؟ قال يا أمير المؤمنين: أُجلّك عن الجواب في هذا. قال: (بحياتي) أصدقني. قال: (وحَياتُك) ما خلوت من عشقٍ قط. قال له: كذبت وحَياتُك يا أبا إسحاق:
وجه الذي يعشق معروف
لأنه أصفر منحوف
ليس كمن تلقاه ذا جثة
كأنه للذبح معلوف
ويبدو لي أن تحليف الخليفة الناس بحياته إنما يخص به المقربين منه، يستجلي من ورائه صدق ولائهم، وثبات إخلاصهم، ويبتغي به إجلالهم لمقام حياته. وفيه أيضاً بيان مودة الخليفة لمن يحلّفه بحياته، وإشعاره بأنه محل الثقة، وأنه لا يشك بحبه وإخلاصه له. فلا يُطلب من أي أحد كان، فهو للخاصة دون العامة. ونجد أن عيسى بن موسى (ولي عهد المنصور) طلب من رجلٍ لا تربطه به علاقة وثيقة أن يحلف له بالطلاق كي يصدّقه.
على أن أهم نصٍ عثرتُ عليه في هذا الصدد، هو نص فريد يُعيد طرح تساؤلات أثارها بعض المؤرخين حول شخصية تاريخية لم يُثار الجدل حولها إلا في زمن متأخر؛ أتحدث عن الخليفة العباسي الأول أبو العباس السفاح!
يتفرّد ابن حزم في كتابه (جمهرة أنساب العرب) بهذا النص، فيقول: (وقد ذُكر أن أم سلمة المخزومية، امرأة أبي العباس السفاح، قالت له: يا أمير المؤمنين، لأي شيءٍ استعرض ابنُ أخيك أهلَ الموصل بالسيف؟ فقال لها: وحَياتُكِ ما أدري! ولم يكن عنده من إنكار الأمر إلا هذا).
إن صحت هذه الرواية فهي تُبين لنا أمرين:
الأمر الأول أن الحلف بـ(وحياتك) قد شاع في وقت أبكر مما كنا نعتقد، فأبو العباس السفاح عاش حياته في الثلث الأخير من عصر بني أمية، ما خلا سني خلافته الأربع، فثقافته نشأت وتكونت وتبلورت في أواخر العصر الأموي. كما تبين الرواية مدى حب الخليفة لزوجته ومكانتها الرفيعة عنده. وهذا الأمر معلوم تنضح به الروايات التاريخية ما تقدم منها وما تأخر، وتقدم لنا قصة حب لاهبة بين الخليفة أبي العباس وزوجته الوحيدة أم سلمة المخزومية.
وقصة زواجهما طريفة، فقد كانت أم سلمة زوجةً لمسلمة بن هشام بن عبدالملك، وكان منكبّاً على شرب الخمر لا يفارقها، فشكته إلى كبير بني أمية، العباس بن الوليد بن عبدالملك، وكتبت له كتاباً تقول فيه: (إن مسلمة ما يُفيق من الشراب ولا يهتم بشيء مما فيه إخوته ولا بموت أبيه)، فذهب إلى مسلمة وأنّبه على إهماله وإسرافه في شرب الخمر، فعلم مسلمة أن زوجته شكته، فطلقها. فخرجت بأموالها وخدمها وحشمها إلى فلسطين وسكنت فيها. وفي يوم من الأيام كانت جالسة تشرف على المارة، إذ مر بها أبو العباس السفاح، وكان جميلاً وسيماً، فحلي في عينيها، فسألت عنه وعرفت نسبه وأنه عزَب، فأرسلت جاريتها إليه ومعها سبعمئة دينار تعرض عليه الزواج من سيدتها، فأجابها أبو العباس بلطف واعتذر لإملاقه، وأنه لا يملك من المال شيئاً، ولو كان عنده لم يتوانَ لحظة. فدفعت المال إليه -كما أوصتها سيدتها- ليصلح به شأنه. فأخذ المال وذهب إلى أخي أم سلمة فخطبها إليه، وتزوجها على صداق خمسمئة دينار، وأهدى إليها مئتي دينار، وحظيت عنده، وحلف لها ألا يتزوج عليها ولا يتسرّى، ووفّى لها بذلك، وغلبت عليه غلبة شديدة، وملكت أمره وقلبه، حتى ما كان يقطع أمراً إلا بمشورتها واستئمارها. وهي أم سلمة بنت يعقوب بن سلمة بن عبدالله بن الوليد بن المغيرة، من ذرية عبدالله بن الوليد أخي خالد بن الوليد. (البلاذري، المسعودي، مصطفى جواد: سيدات البلاط العباسي).
الأمر الثاني، الذي يوضحه هذا النص الفريد هو ضعف شخصية الخليفة -على عكس ما كنا نعتقد نحن أبناء هذا العصر- فعماله يسرحون ويمرحون ويسفكون الدماء من حوله، وهو لا يدري عن شيء! وأين هذا من سيرته التي كنا نرتعد منها حين قرأناها في الصغر؟! أين شخصية الطاغية السفاح المتجبر؟!
هذا الأمر يطرح سؤالاً عاجلاً هو: هل الصورة التي ترسخت في أذهاننا عن هذه الشخصية كانت خاطئة؟ أو ربما كانت غير دقيقة؟
هل كان أبو العباس السفاح سفاحاً حقاً؟
إن أول من أثار هذه القضية هو المؤرخ المصري عبدالحميد العبادي، في مقال له نُشر في مجلة (الثقافة) المصرية، العدد 47، بتاريخ 21 نوفمبر 1939، كان بعنوان (أبو العباس السفاح، هل كان سفاحاً للدماء حقاً؟).
أهم ما جاء في مقاله -الرائد في موضوعه- هو توضيحه بأن المصادر التاريخية القديمة التي يرتقي إسنادها إلى عصر الخليفة أبي العباس نفسه، لا تذكر لفظ السفاح مطلقاً عندما تتكلم عنه، ولا تضيف إليه من حوادث القتل والمُثلة التي تمت في عهده شيئاً، وهي (الأخبار الطوال) لابن قتيبة الدينوري المتوفى عام 282هـ، و(تاريخ الرسل والملوك) للطبري المتوفى عام 310هـ. كما أن الرواية التاريخية القديمة تنسب حوادث قتل الأمويين إلى عمّي الخليفة: عبدالله بن علي والي الشام، وداود بن علي والي الحجاز.
ويشير العبادي إلى أن الروايات المتأخرة والحديثة، التي ظهرت منذ القرن الرابع إلى وقته الذي كتب فيه مقاله؛ خالفت الرواية القديمة. ومثال ذلك ما قام به أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني، حيث عنون فصلاً في كتابه بـ(ذكر من قتل أبو العباس السفاح من بني أمية)، وأدار فصله على قصة شاعر يدعى سديف، زعم فيها أنه دخل على أبي العباس في مجلسه وعنده بنو هاشم وبنو أمية وأنشد شعراً حرض فيه أبا العباس على قتل الأمويين، فأهمدهم، وفرش البسط على أجسامهم، وجلس فوقهم يأكل... إلى آخر القصة. ثم جاء ابن الأثير بعده بزمن طويل، وأورد نفس القصة لكنه نسبها إلى عبدالله بن علي، وتردد في نسبتها إليه، فقال: (وقيل إن سديفاً أنشد هذا الشعر للسفاح ومعه كانت الحادثة وهو الذي قتلهم). بينما الرواية القديمة عند الطبري حول حادثة القتل الجماعية للأمويين، تقول بوضوح إن عبدالله بن علي هو الذي قتلهم بنهر أبي فطرس، وكان عددهم اثنين وسبعين رجلاً.
ويوضح العبادي بأن المؤرخين المحدثين أخذوا بهاتين الروايتين، فمنهم من أخذ برواية الأصفهاني مثل (فايل الألماني)، و(ميور الإنجليزي)، و(الخضري). ومنهم من أخذ برواية ابن الأثير مثل (جورجي زيدان).
ويختم العبادي مقاله، فيقول: (قد يقال إن أبا العباس كان الخليفة وهو المسؤول الأول عن جرائم عماله، ولكن يُردُّ على ذلك بأن العصر كان عصر زعازع وهزاهز، وأن أبا العباس كان مغلوباً على أمره لعمه عبدالله بن علي بالمغرب، ولأبي مسلم بالمشرق، ولم تصفُ الخلافة والسلطان لأخيه أبي جعفر من بعده إلا بعد أن تخلص من هذين الجبارين. وقد انتقم الله منهما على يديه أشد الانتقام). وهنا إشارة ضمنية -هي الوحيدة في مقال العبادي- إلى ضعف شخصية الخليفة أبي العباس السياسية.
وألحق العبادي مقاله هذا بمقالٍ آخر بعد ثلاثة أسابيع في المجلة نفسها -كتبه رداً على أحمد أمين الذي عقّب على مقاله الأول– تحت عنوان (عبدالله بن علي العباسي هو السفاح، لا أمير المؤمنين أبو العباس). يؤكد فيه العبادي أن السفاح الحقيقي هو والي الشام عبدالله بن علي عم الخليفة، وليس الخليفة نفسه، وأن مكمن الخطأ وقع لتشابه الاسمين، فكلاهما اسمهما عبدالله، مما أوقع الرواة الجدد في اللبس. وزادهم لبساً ورود لفظ (السفاح) في خطبة أبي العباس.
وقد أورد في مقاله عدة نصوص تاريخية يعضد بها رأيه، من أبرزها نص مغمور غير متداول بين المؤرخين المحدثين المختصين بدراسة تلك الفترة، والذين بحثوا أيضاً نفس القضية وكتبوا عنها. هذا النص من كتاب (أخبار مجموعة في قيام دولة بني أمية في الأندلس) لمؤلف أندلسي مجهول من أهل القرن الرابع، جاء فيه: (لما كان من أمر مروان بن محمد رحمه الله ما كان وانصرم أمر بني أمية بالمشرق، وتغلب على ملكهم بنو العباس، وقُتل مروان سنة اثنتين وثلاثين، سير برأسه إلى السفاح، ثم سير برأسه إلى أبي العباس ببغداد (كذا!)). وفيه أيضاً: (فلما اجتمع بنو أمية عند السفاح قعد لهم وأدخلهم على نفسه في سرادق له ليرسلهم بزعمه إلى أمير المؤمنين). وواضح من هذا النص أن المؤلف يفرّق بين شخصيتين مختلفتين، يفرّق بين السفاح وبين الخليفة أبي العباس.
أثار مقال العبادي ردوداً ومناقشات من قبل كل من أحمد أمين ومحمود محمد شاكر، وكان تعقيب الأخير تعقيباً هزيلاً من الناحية التاريخية. وقد رد عليهما العبادي، وأبان في ردوده عن تمكنه من موضوع بحثه، وعن قدرته ومهارته في التحليل والتفسير التاريخي، إضافة إلى أسلوبه البياني الرفيع.
وعموماً، فقد استقر رأي أبرز المؤرخين المحدثين على أن لقب السفاح لم يكن لأبي العباس، وإنما كان لعمه عبدالله بن علي. ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: عبدالعزيز الدوري - واتفق معه برنارد لويس بهذا الشأن - وفاروق عمر، وعبد الحي شعبان، وعبدالمنعم ماجد، وشاكر مصطفى.
لكن لم يعلم أحد من هؤلاء المؤرخين - باستثناء عبدالمنعم ماجد - بأن عبدالحميد العبادي قد سبقهم إلى هذا الرأي وأن له الريادة فيه. ويعود سبب ذلك إلى محدودية انتشار مجلة (الثقافة) المصرية التي كتب فيها مقالاته، وعدم شهرتها في العالم العربي، كما هو حال مجلة (الرسالة).

ذو صلة