بعد شهور معدودة من الحراك أو الانتفاضة في سوريا، في ربيع 2011؛ تفجر النزوح بين المدن والأرياف، ومثله اللجوء إلى خارج الحدود، فراراً من العنف الذي جوبه به الحراك وهو يتطور سريعاً من الثورة السلمية إلى العسكرة والأسلمة، وإلى مضاعفة السلطة للقمع والعنف، حتى باتت سوريا في حرب وحشية، وفي زلزال أين منه زلزال الطبيعة؟!
بمثل هذه السرعة تدفقت الروايات منذ 2012 حتى أربت على المئات خلال عقد، وأغلبها صدر في الخارج، ولأسماء جديدة. ولأن ملايين السوريين تناهبتهم أرجاء الأرض، وبخاصة منها لبنان والأردن ومصر وتركيا وبلدان أوروبا؛ فقد بدا التهجير واللجوء شاغلاً أكبر لمدونة روائية كبيرة، كان التحدي الأكبر الذي واجهته هو السؤال القديم الذي لا يفتأ يتجدد في أزمنة الثورات والحروب، عن الكتابة وعن الراهن أو ما يسمى بالتاريخ الجاري/الساخن، حيث تترصد السياسةُ الرواية، وهذا ما أودى سريعاً بالكثير من تلك المدونة الروائية. وهنا أستذكر ما كتبه عبدالقادر داود: (على الكاتب الذي اضطر إلى اللجوء إلى بلد آخر أن يثبت على الدوام أنه كاتب أولاً، وأن ما يقدمه من نتاج فني أدبي هو أدب أولاً، هو فن في النهاية، بعيداً عن التصنيفات والتقسيمات السياسية والحروب والثورات والاستبداد والاضطهاد والقضايا العادلة حتى).
من روايات اللجوء السوري المميزة هي ذي رواية (أوراق برلين - 2021) لنهاد سيريس الذي تطوحت به المنافي إلى أن أقام في ألمانيا. وتتلامح السيرية في الرواية براويها الكاتب القادم من مدينة حلب التي دُمِّر شطرها الشرقي القديم في الصراع بين الفصائل المسلحة والجيش (في حرب لا معنى لها) كما تصف الرواية. وبالعين المدققة واللغة الجديدة على روايات الكاتب، والتي تذكّر بلغة روايات صنع الله إبراهيم؛ يقدم الكاتب للشخصيات الألمانية: أنتونيا وكاتيا وكريستا والعجوز هيلدا وغونتر. وتحضر الحرب العالمية الثانية في برلين، ويحضر من اللاجئين السوريين صبري وقصة تهجيره ولجوئه. كما تصخب الرواية بالفن التشكيلي والموسيقى والمسرح، وبوعي الذات والآخر الألماني، وكل ذلك في إهاب فاتن من التخييل الذاتي الذي شكّل رافعة فنية أساسية للعديد من روايات اللجوء، كما في رواية هيثم حسين (قد لا يبقى أحد.. آجاثا كريستي تعالي أقلْ لك كيف أعيش؟ - 2018). وقد صنف الكاتب روايته (سيرة روائية). وهو من مدينة عامودا في الشمال السوري الكردي، حيث عاشت آجاثا كريستي وزوجها. وعنوان رواية هيثم حسين يتناصّ مع ما كتبت كريستي في مقدمة يومياتها: (تعال قلْ لي كيف تعيش؟). وتشغل رواية حسين أسئلة الهوية واللجوء، فهل اللاجئ (مهاجر؟ هل هو منفي؟ مغترب؟ مقيم لفتره مؤقتة لحين انجلاء الأوضاع في بلاده؟). وكانت مراكب اللجوء قد تقاذفت الكاتب في تركيا التي واجه فيها العنصرية، ومن تركيا إلى مصر إلى... وصولاً إلى لندن. وترسم هذه الرواية بمرارة مسلسل انتظار اللاجئ المرير إلى أن يُبَتَّ في طلب اللجوء، ولمّ الشمل، وكذلك في أساليب اللاجئين في الاحتيال على القانون، ومخاوف اللاجئات، وخطاب الكراهية نحو بلاد اللجوء، حيث يبدو أنها (تكون ميادين حرب جديدة للاجئين. حرب باردة بينهم وبين ذواتهم).
إلى التخييل الذاتي تنتسب أيضاً رواية مها حسن (عمتِ صباحاً أيتها الحرب - 2017)، حيث تحضر الكاتبة باسمها كشخصية روائية، تقاذفتها المهاجر مثل بقية أسرتها المعارضة، ما عدا أحدهم المقرب من النظام. فإلى فنلندا هاجرت أماني، وإلى تركيا فالسويد هاجر حسام الذي اكتشف ما عدّه أكذوبة أمان السويد وعدالتها. ومع حسام تنثال حكايات الثورة السلمية 2011، فالتحول السريع إلى العسكرة والأسلمة، مما اضطر حسام إلى الهجرة إلى تركيا فاليونان فالسويد. وحسام يكابد سؤال الهوية وهو الكردي السوري، بينما تعلن أخته الكاتبة المهاجرة إلى فرنسا أنها تنتمي إلى الرواية.
في السويد أيضاً يقوم فضاء اللجوء في رواية منهل السراج (صُراح - 2018). وهذه اللاجئة التي حملت الرواية اسمها، كاتبة، كما كتبت الكاتبة الفلسطينية بديعة زيدان (تتوق للتخلص من عسر كتابة يلازمها منذ زلزال سورية). وصُراح، بعد عقد من اللجوء وعيشها الهانئ؛ لا تفتأ تجتر الماضي الذي فقدت فيه أخاً في مدينتها حماة أثناء أحداث 1982، وأخاً بعد 2011. وهي تعري العنصرية في السويد، وترى أن العيش في الغرب يعني الصقيع. وكما هي روحها في سوريا، هم اللاجئون السوريون الذين امتلأت بهم السويد، ومنهم كشخصيات روائية: جبران وابنه المتوحد وسارة اللاجئة الموالية.
بالعودة إلى ألمانيا تتألق رواية سوسن جميل حسن (خانات الريح - 2018). وفيها يحتشد المهاجرون السوريون: (أفراد هائمون وبحار لا تنتهي إلا بموت محكم، أجسادهم منفوخة طافية تنهشها الأسماك المفترسة، وتدفعها الريح، وأرواحهم تشكل غيمة مترعة بالبكاء). ومن هذا الحشد تتمحور الرواية حول نوارة ورفيدة ووافي الذين يفرون من الرقة واللاذقية وإدلب إلى تركيا فالبحر فإلى برلين، حيث يضرب السرطان رأس وافي، فترسل الرواية مغامرتها الكبرى بزراعة رأس العالم الألماني غونتر في جسد وافي، بينما جسد غونتر عليل. وعبر ذلك يتقلب السؤال على وجوهه عن الذات والآخر. وفي برلين تنتسج العلائق بين رفيدة ومارتن الألماني، وبين وافي ونوارة، وفوق المهجر أو المنفى تحوّم قصص اللاجئين، من الملتحي وزوجته -سوف يقبض على خلية إرهابية في بلجيكا والملتحي عضو فيها- إلى خليل الذي انقذف من تركيا إلى اليونان فالجزائر فتونس فليبيا.. والمهاجرون، كما كتبت الرواية، لا يحملون أغراضاً، بل يحملون أوطاناً في حقائبهم، بينما لم يكونوا في موطنهم غير أرقام للموت.
في برلين أيضاً يحطّ اللاجئ الذي يروي رواية إبراهيم اليوسف (جمهورية الكلب - 2020)، والذي يلتقي في حديقة الكلاب، بعد ممارسته رياضة المشي، مع الأرملة الألمانية بيانكا وكلبها. وهذا اللاجئ مشبوح بين الماضي في مدينة القامشلي، والحاضر في برلين، بالأحرى بين أخيولات الذكريات وبين الواقع الذي تبدو فيه علاقة اللاجئ الرواي بالكلب مفتاح العلاقة مع بيانكا، ومفتاح الاندماج في مجتمع اللجوء. ولن يملّ اللاجئ من المقارنة بين حال الكلاب في ألمانيا وفي سوريا، بينما يعدد من مقومات الاندماج: اللغة أولاً، حيث جيل الأبناء أقدر، بينما جيل الآباء مسكون بالحنين وحلم العودة. وينتقد اللاجئ دورات اللغة التي تجمع الكبار والصغار اللاجئين. وقد أرجف الراويَ اكتشافُه أن بيانكا حفيدة أحد المقربين من هتلر. أما بيانكا فقد وجدته غريباً لاجئاً، وعلى الأرجح من سوريا، فأشفقت عليه ووقفت معه، وأحبته فتزوجا.
تُفرد روزا ياسين حسن في روايتها (بحثاً عن كرة الصوف.. ثلاثة أيام في المنفى - 2022) مقاماً أكبر للمثلية في شخصيتي سرمد ومصطفى اللذين يفران إلى هامبورغ. وكان للمثلية نصيب وافر أيضاً في رواية (أوراق برلين). وتصخب رواية روزا بالشخصيات السورية، خصوصاً من اللاجئين الذين يتوزعهم التعصب الديني والانتماءات الإثنية والطائفية، وأغلبهم من الشباب الذين نجوا من الاعتقال والموت، ومنهم من يعملون ويعملن في جمع المساعدات وإرسالها إلى المخيمات: هديل وصديقها ميلاد والصديقة الألمانية، وبالمقابل: العنصريون الألمان. وتواصل الكاتبة في هذه الرواية مغامرتها الفنية التي عُرفت بها رواياتها السابقة.
تندر الروايات التي كان فيها اللجوء عربياً. ومن هذه الندرة رواية محمد فتحي المقداد (الطريق إلى الزعتري - 2018)، حيث ينشب المخيم الشهير في شمال الأردن الذي تعصف به الطبيعة الصحراوية، ويضيق بالطوابير التي تتلقى المساعدات الإنسانية. وقد كان مخيم الزعتري أيضاً لحظة حاسمة في رواية شهلا العجيلي (سماء قريبة من بيتنا - 2015)، حيث تعمل الشخصية المحورية الدكتورة جمانة سهيل بدران، ابنة مدينة الرقة، مع منظمة هولندية. وترسل جمانة نفثات، وتقدح شرارات من المخيم الذي يبدو كأنه ساحة حرب بديلة، له صراعات وفساد، فالدول التي تقدم المعونات ربما كان لها يد طولى في صنع اللجوء: تقتل بيد وتقدم الدية بيد. ومن العاملين من يقول شامتاً وحاقداً إن اللاجئين المكدسين في المخيم طلبوا الحرية، لذلك كان المخيم مصيرهم.
وإذا كان اللاجئ ثائراً بطبعه إلى أن يثبت العكس، فثمة في العمل الإنساني في المخيم من يعمل على طمس الآخرين ليبقى اسمه وحده متصدراً.
أما تركيا، فقد كانت غالباً في الروايات معبراً للاجئين المتدافعين إلى أوروبا. وقد صدر في تركيا خلال أقل من عقد خمس وأربعون رواية سورية. ومن غرر الروايات المتعلقة بتركيا روايتا أسماء معيكل (تل الورد - 2019) و(عماتي الثلاث - 2020). ففي الأولى تقاذفت الحرب أسرة المعراوي في القرية التي تحمل الرواية اسمها، حيث اغتصبت الأم كافي، وأُرسل الابن حيان إلى أمستردام بانتظار لمّ الشمل الذي لم يتحقق إلا بعد ما كان حيان قد غدا مسيحياً هولندياً، فرّ من والديه عندما لحقا به، فعادا إلى تركيا، ثم إلى تل الورد المدمرة. وفي روية (عماتي الثلاث) تذهب دميعة إلى الدراسة الجامعية في إسطنبول حيث سيصير اسمها داملا، وهي تبحث في الأرشيف العثماني، وفي منتهى الرواية تختفي بعد العثور على سيارتها على طريق غابات بلغراد شمال إسطنبول. وقد تفوقت الرواية في بناء شخصيات العمات الثلاث اللواتي ربّين دميعة/ داملا، وكذلك في رمزية البحث في التاريخ العثماني واختفاء الباحثة وغموض المستقبل.
وفي هذا السياق تأتي رواية عبدالله مكسور (طريق الآلام - 2015) والتي وسمتها جزافية السيرية -أم حريتها، أم فوضاها؟ ولكن دون أن تنال من حرارتها الكاوية، حيث تتوه الدروب بالراوي من قريته (طيبة الإمام) إلى مورك في الشمال إلى ملتقى اللجوء في الريحانية على الحدود السورية التركية، ومن بعد إلى إسطنبول وجواز السفر المزور ومدينة بدروم على السواحل اليونانية وتجار البشر وتعطل القارب في البحر... وفي سنة صدور (طريق الآلام) صدرت رواية محمود حسن الجاسم (نزوح مريم) التي تبدأ من مدينة الرقة ومن سارة المسيحية التي تخطف داعش زوجها المسلم فتهرب مع ابنتها، وتعتزم الهجرة إلى فرنسا فترميها الدروب في براثن تجار الحروب من بيروت إلى تركيا والاغتصاب والاحتيال لتنتهي في مخيم اللجوء على الحدود.
ربما تتوافر للروايات الثلاث عشرة - التي أومضت فيما تقدم؛ دلالاتٌ كبرى على ما حققت روايات اللجوء السوري في مختلف بلدان الشتات، حيث حضرت السيرية بقوة، ونجت الروايات بدرجات من أفخاخ السياسة، واشتغلت -بألمعية- على أسئلة الهوية، والحفريات الروائية في التاريخ، والتحرر بدرجات أعلى فأعلى من الرقابات، ووعي الذات والعالم.