من يُطالع صفحات من تراث حضارتنا، يكتشف أن أكثر علماء أمتنا من سلفنا الصالح كانوا رجالاً بحق، لأن حياتهم كلها كانت علماً وعملاً، دون كسلٍ أو توانٍ، فصنعوا بالتالي المجد والحضارة والازدهار لأمتهم، لأنهم عملوا وأخلصوا النية، لرفع راية دينهم فدانت لهم الدنيا وفتحت لهم أبواب المجد على مصراعيها.
وأكبر دليل على عناية سلفنا الصالح بالوقت وعدم تضييعه، وحرصهم على الاستفادة منه لأقصى درجة حتى لو لحظة واحدة، أنَّ أكبر أئمة العلم والعمل في الإسلام، الذين سارت بذكرهم الركبان، وخلَّدتهم أعمالهم العلمية ومؤلفاتهم الأدبية؛ لم ينتسبوا إلى آبائهم، أو أجدادهم أو قبائلهم، بل نسبوا أنفسهم إلى الحرف والصناعات التي كانوا يتعيَّشون منها، ولم يجدوا حرجاً في أن يتسموا بها، بل كانت شرفاً لهم. إذ، لانزال نقرأ إلى الآن أسماء، مثل: البزار والزجاج والخواص والقفال والخراز والجصاص والخياط والصبان والماوردي.. وغيرهم من أعلام الإسلام الأفذاذ، الذين كتبوا أسماءهم بعلمهم وعملهم على وجه الزمن بأحرف من نور، فخلَّد الله ذكرهم.
لذا، أدعوك لنتعرَّف معاً على بعض هؤلاء، لنجعلهم قدوة لنا، ونطرح عن أنفسنا الكسل، ونقي أمتنا ويلات الفراغ، فنكتب أسماءنا، بعلمنا وعملنا على وجه الزمن بأحرف من نور، فيُخلِّد الله ذكرنا مثلهم.
الماوردي
الماوردي، ولد بالبصرة سنة 364هـ/ 974م من أسرة اشتغل أفرادها بصناعة وبيع ماء الورد، واشتهرت به، وأثريت منه. لذا، سُمي بـ(الماوردي)، واشتهر بهذا الاسم، لعمله في بيع ماء الورد مع أسرته.
وهو الإمام العلامة، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري، الشافعي، صاحب التصانيف الكثيرة النافعة، من أكبر فقهاء الشافعية، وتتميز كتاباته بأسلوب واضح بليغ ينتقي ألفاظه ومعانيه. وكان أخلاقياً في سيرته ومعاملاته بين الناس، وعمِّر طويلاً، فقد عاش ستاً وثمانين سنة، وكما سكن ببغداد فقد توفي فيها يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول من سنة 450هـ، ودفن في اليوم التالي، بمقبرة باب حرب.
وقيل: إنه لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، حيث جمعها في مكان ما في بيته، فلما دنت وفاته، قال لمن يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها من تصنيفي، وأنا لم أظهرها لأني لم أجد نية خالصة، فإذا حضرني الموت، ووقعت في النزع منه، فضع يدك في يدي، فإن أنا قبضت على يدك وعصرتها، فاعلم أنَّه لم يقبل مني شيء منها، فخذ هذه الكتب، وألقها في نهر دجلة، ولكن إن بسطت يدي، فاعلم أنها قبلت. فقال هذا الرجل: فلما احتضر وضعت يدي في يده، فبسطها، فأظهرت كتبه، لتقرأها الدنيا.
وقد أثنى عليه الأئمة والعلماء وأصحاب التاريخ، فيقول فيه مثلاً الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله: إن الماوردي، اتَّصف بصفات جعلته في الذروة بين رجال العلم عبر التاريخ الإسلامي هي: ذاكرة واعية، وبديهة حاضرة، وعقل مستقيم، واتزان في القول والعمل، والحلم وضبط النفس، والتواضع وإبعاد النفس عن الغرور.
وكان الماوردي حيياً شديد الحياء، وفيه وقار وهيبة، مع شدة الإخلاص.
رحم الله العلامة خالد الذكر، الماوردي، صانع وبائع ماء الورد.
القفَّال
وها هو العلَّامة الفقيه، الذي أطلقوا عليه اسم: (القفال)، لأنه كان يعمل الأقفال ويصنعها في ابتداء أمره. وورد عنه في طبقات الشافعية أنه برع في صناعتها حتى صنع قفلاً بآلاته ومفتاحه وزن أربع حبات من مسبحته، فلما كان ابن ثلاثين سنة أحسَّ من نفسه ذكاءً، فأقبل على الفقه فاشتغل به على الشيخ أبي زيد وغيره، وصار إماماً يقتدى به فيه، وتفقه عليه خلق من أهل خراسان، وسمع الحديث وحدث وأملى، إنه عبدالله بن أحمد بن عبد الله المروزي الإمام الجليل أبو بكر (القفال الصغير)، شيخ طريقة خراسان.
وقال عنه الحافظ أبو بكر السمعاني: أبو بكر القفال وحيد زمانه، فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً، وله في المذهب من الآثار ما ليس لغيره من أهل عصره، وطريقته المهذبة في مذهب الشافعي، التي حملها عنه أصحابه أمتن طريقة وأكثرها تحقيقاً، توفي بمرو في جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وأربعمئة وعمره تسعون سنة.
قال عنه السبكي في طبقات الشافعية: (...أحد أئمة الدنيا... كان القفال المروزي هذا، من أعظم محاسن خراسان، إماماً كبيراً، وبحراً عميقاً، غوّاصاً على المعاني الدقيقة، نقيّ القريحة، ثاقب الفهم، عظيم المحلّ، كبير الشأن، دقيق النظر، عديم النظير).
علماً بأن هذا الفقيه (القفال)، هو الثاني بين ثلاثة إئمة اشتهروا بنفس الاسم ونفس الصنعة، ففقيهنا هو (القفال الصغير)، أما القفال الكبير فهو الأول وأقدمهم (291 - 365هـ)، وهو محمد بن علي الشاشي القفال. أما الثالث فهو القفال المستظهري 429 - 507هـ، هو محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر، القفال، المعروف بالمستظهري.
الجصَّاص
وها هو الإمام أبو بكر (الجصاص) الذي استمد اسمه من مهنته في صنع الجصّ وهو من منتجات الجبس، فهو: أبوبكر أحمد بن على الرازى الجصاص.
ولد الإمام أبو بكر (الجصاص)، في مدينة الري، والتي ينسب لها بالرازى. وكانت سنة ولادته سنة خمس وثلاثمئة 305هـ. وقد مكث بها حتى سن العشرين حيث رحل إلى بغداد، فحاز على مكانة علمية سامقة بين علماء الأمة عموماً وعلماء الحنفية خصوصاً. وقد انتهت إليه رياسة المذهب الحنفي ببغداد.
مات الكرخي وهو بنيسابور في يوم الأحد سابع ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة 370هـ. عن خمس وستين سنة.
الحُصري
وها هو صاحب أجمل صوت رتَّل قرآن ربي ترتيلاً، بصوته الذي حباه له رب العالمين من فردوسه الأعلى، إنه الشيخ محمود خليل الحُصري، صاحب الحنجرة الملائكية، سُمِّي بـ(الحصري)، نسبة إلى مهنة الأب المكافح، الذي كان يصنع الحصير، ثم يبيعها للناس، بعد أن يجدلها بيديه، وكانت مشاركات طفله (الحُصري) عديدة في عمله، فيصنعها معه منذ الصغر وحتى شبابه، ويبيعها في صحبته، إلى جانب سعيه لحفظ القرآن الكريم.
وُلد فضيلة الشيخ القارئ، محمود خليل الحُصري، في غرة ذي الحجة سنة 1335هـ وهو يوافق 17/ 9/ 1917م، بقرية صغيرة بضواحي شبرا النملة مركز طنطا بمحافظة الغربية، بمصر. وقد كان ترتيب الحُصري الأول دائماً، فهو:
1 - أول أقرانه، وقد نال هذا الترتيب الأول على جميع المتقدمين لامتحان الإذاعة 1944م.
2 - أول من ابتُعث لزيارة المسلمين في الهند وباكستان، وقراءة القرآن الكريم في المؤتمر الإسلامي الأول بالهند 1960.
3 - أول من سجَّل القرآن الكريم في العالم، برواية حفص عن عاصم 1961.
4 - أول من شغل منصباً باسم (شيخ عموم المقارئ المصرية)، من قرَّاء القرآن الكريم، في السادس من أكتوبر سنة 1961م، إذ كان قبل ذلك مفتشاً للمقارئ سنة 1957م، ثمَّ وكيلاً لمشيخة القرَّاء.
5 - أول من سجل القرآن الكريم في العالم، برواية ورش عن نافع 1964.
6 - أول مقرئ للقرآن الكريم في مصر ينال جائزة الدولة التقديرية، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في عيد العلم عام 1967م.
7 - أول من سجل القرآن الكريم في العالم، برواية قالون ورواية الدوري عن أبي عمرو البصري 1968.
8 - أول من سجل القرآن المُعلِّم في العالم (طريقة التعليم) 1969.
9 - أول من رتل القرآن الكريم في العالم بطريقة المصحف المفسَّر (مصحف الوعظ) 1975.
10 - أول مقرئ للقرآن الكريم في مصر والعالم، يسجِّل بصوته كتاب الله تعالى ويجمعه بالقراءات ورواياتها المختلفة، فأصبح مدرسة فريدة في التلاوة.
11 - أول من رتل القرآن الكريم في أنحاء العالم الإسلامي في الأمم المتحدة، أثناء زيارته لها، بناء على طلب جميع الوفود العربية والإسلامية بها 1977، ويعتبر أول وآخر قارئ في العالم يقرأ القرآن داخل الأمم المتحدة.
12 - أول من رتل القرآن الكريم في العالم، في قاعة الملوك بالقصر الملكي بلندن، وقاعة هايوارت المطلة على نهر التايمز في لندن 1978، حيث دعاه مجلس الشؤون الإسلامية إلى المدينتين البريطانيتين ليفربول وشيفلد، ليرتِّل أمام الجاليات العربية والإسلامية.
13 - أول قارئ يقرأ القرآن الكريم في العالم بالبيت الأبيض، وقاعة الكونجرس الأمريكي، والتقى بالرئيس الأمريكى الأسبق جيمي كارتر.
14 - أول من أذَّن لصلاة الظهر في الكونجرس الأمريكي، وذلك أثناء زيارة وفد مشيخة الأزهر لأمريكا.
15 - أول من قرأ القرآن في جميع العواصم، سواء الإسلامية، أو غيرها، واستقبله أغلب زعماء العالم.
16 - أول مقرئ في العالم بل الوحيد، الذي حاز على تصريح لقراءة القرآن في الحرمين المكي والمدني.
17 - أول من دعا إلى إنشاء نقابة خاصة بقرَّاء القرآن الكريم، ترعى مصالحهم وتضمن لهم سبل العيش الكريم.
18 - أول من يُحسب له سبق الرِّيادة في قراءة القرآن بالخارج، فيما يتعلَّق بإيفاد البعثات الدينية لتلاوة القرآن في العالم الإسلام، حيث وضع خطَّة لهذا الغرض بعد أول زيارة له بصحبة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إلى الهند وباكستان.
19 - أول من اقترح أن تضم بعثات مصر الدبلوماسية عناصر إسلامية مثقَّفة، تكون مهمَّتها التعريف والتوعية بالإسلام، واكتساب أنصار جدد له.
20 - أول قارئ للقرآن الكريم، ويمكن أن يكون آخرهم أيضاً يؤلف كتباً في القراءات المختلفة، ويعود الفضل في ذلك إلى أستاذه المرحوم الشيخ الصباغ شيخ عموم المقارئ المصرية الأسبق، فهو الذي أوحى إليه بهذه الفكرة.
21 - أول سبب في إسلام العشرات على يديه بمجرَّد تركيزهم معه وسماعهم القرآن الكريم منه، إذ أسلم على يديه عشرات من الناس في أنحاء العالم، وكان لسماعهم القرآن منه الأثر الأكبر والسبب الأول في إسلامهم.
22 - أول مقرئ للقرآن الكريم في مصر يتبرَّع بثلث تركته، لإنفاقها في أعمال الخير والبر وحفظ القرآن الكريم، إلى جانب بنائه مسجداً ومعهداً دينياً ومدرسة لتحفيظ القرآن الكريم بمسقط رأسه في طنطا، ومثلها بمقر إقامته بالعجوزة.
23 - أول من تبوَّأ أعلى المناصب المتَّصلة بالساحة القرآنية، ونال شهرة فائقة لا مثيل لها حتى أصبح أشهر قرَّاء العالم العربي والإسلامي، ونال أرفع الأوسمة العالمية من معظم قارات الدنيا.