مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

مراجعات الناشرين.. تحذيرات المحتوى عن الهدف الأخلاقي من الأدب

كان هناك هذا العام بعض الجدل حول إعادة كتابة مقاطع في كتب بعض من الكتّاب مثل روالد دال وإنيد بليتون وإيان فليمنج وأجاثا كريستي بهدف إزالة الأجزاء التي من المحتمل أن تكون مسيئة. تبنى بعض الناشرين أيضاً الإجراء الوقائي المتمثل في إضافة تحذيرات المحتوى وإخلاء المسؤولية إلى كتب بعض الكتّاب مثل إرنست همنغواي وفرجينيا وولف ورايموند تشاندلر وبي. جي. وودهاوس. كان معارضو هذه الممارسات و إخلاء المسؤولية من جميع الانتماءات السياسية يبدو أنهم يفوقون بشكل كبير عدد أولئك الذين يدافعون عن هذه الممارسة. وحقيقة فقد مرّ وقت طويل منذ لاحظت موضوعاً أدبياً يطفو إلى السطح بشكل متكرر في المحادثات مع أولئك الذين هم خارج الثقافة الأدبية، وبينما أنه من المبهج لي كأكاديمي أن أرى الناس يهتمون بالكتب وقيمتها إلا أنه من المحبط أن أرى الكتب تُستغل كوقود للحرب الثقافية.
مالت المنشورات المحافظة إلى تأطير هذه التطورات كدليل على (اليقظة) وهي كلمة ليس لها معنى في هذا السياق. قدم آخرون انتقادات أكثر دقة وأقل حشواً مشيرين إلى أن مثل هذه التدابير تخفق في الأخذ بعين الاعتبار التزامنا في الاهتمام بالتاريخ والحفاظ عليه بدلاً من تجاهله أو محوه، وتم تقديم الحجة فيما يتعلق بقصص الأطفال للدور الفعال للبالغين كمرشدين أدبيين مسؤولين. لقد قيل الكثير حول قضية إعادة كتابة الكتّاب ولا أريد أن أتطرق إليه مرة أخرى، ولكن الأمر يستحق دراسة طبيعة النقاش نفسه وحقيقة تصدره. في عصر يقع فيه الأدب على الهامش الثقافي، لماذا تخترق قصة مثل هذه طريقها إلى وسائل الإعلام الرئيسية؟ ما المخاطر التي استدعت كل هذه المناقشات؟
أسئلة أخلاقية
يبدو أنه تجذب الرواية اهتمام وسائل الإعلام الأدبية بحماس شديد عندما يمكن ربطها بمخاوف أخلاقية. فأولئك الذين يرغبون في تنظيف الكلاسيكيات وخصومهم المحافظون متورطون في معركة أخلاقية تشجع على تطبيق نفس المعايير الأخلاقية على الكتب التي قد تنطبق على المسؤولين المنتخبين أو رجال الدين. يُظهر تصفح أي برنامج معاصر لمهرجان الكتّاب المعاصرين أننا نصارع من أجل التحدث عن الكتب بأي مصطلحات أخرى. وإذا كانت مع ذلك ترتقي المناقشات حول الكتب بسهولة إلى مستوى النقاش العام عندما ينطوي على جدل أخلاقي بسيط، فإننا ندمج الأدب بشكل لا رجعة فيه في كتلة ثقافية مُسلعة والذي يبدو أنها تتزايد في مجتمعنا.
هناك سؤالان يحفّزان هذا الجدل الأخير، ينطوي السؤال الأول منها على عدم اليقين بشأن ما يشكّل الرقابة الأدبية، فهل إعادة كتابة جملة لاستئصال مصطلح مسيء هو شكل من أشكال التخريب أم أنه أمر لا يختلف عن (أو على الأقل يماثل) الترجمة؟ أما السؤال الثاني فهو عبارة عن سؤال نوقش كثيراً وغالباً ما تتم إعادة صياغته مراراً وتكراراً ومألوف داخل الدراسات الأدبية وخارجها وهو: هل هناك علاقة ضرورية بين القيمة الأدبية لعمل وقيمته الأخلاقية؟ عندما نقرأ كتاباً هل نتوقع قدراً من التوجيه الأخلاقي حول كيفية عيشنا أو عدم عيشنا؟ هذه أسئلة تستحق المناقشة ولكنها بالطبع ليست الأسئلة الوحيدة، فالأدب يعد استثنائياً في هذه المسائل إلى حد ما لأنه لا يمكن اختزاله في مثل هذه الأسئلة.
تنشأ المناقشات الأخلاقية بسهولة لأنها تميل إلى تشجيع إصدار أحكام نهائية وهي مرضية ومتوافقة مع عالم يتسم بمزيد من التسليع. ويتمتع على وجه الخصوص الحكم الأخلاقي بالقدرة على منح تأييد نهائي أو إدانة، مما يعني أنه يمكن للشخص تجنب ما وصفه كيتس بـ(القدرة السلبية) أي: (أن تكون في حالة من عدم اليقين والغموض والشكوك من دون السعي المزعج وراء الحقيقة والمنطق). يمكن اعتبار القدرة على التعامل مع عدم الوضوح كعلامة على النضج، ويمكن وصف الرغبة في اليقين في عالم من الحدود الأخلاقية المرسومة بشكل لا لبس فيه من ذلك الموجود في الكثير من أدب الشباب بأنها خيال طفولي مطمئن.
قد تكون هناك أسباب وجيهة لإزالة اللغة المسيئة من نص ولكن يجب أن نكون مشككين في الدافع لتلميع الأدب ليناسب الحس المعاصر ولجعل الكتابة مستساغة للذوق الحالي وغير مسيئة. إن معاملة الكتب كأشياء يمكن تعديلها لتتناسب مع مزاج العصر ينطوي على مخاطر دفعها إلى سلع محضة وفقاً لرغبات السوق. فإن الرغبة في الحفاظ على قبول دال على سبيل المثال هي نتيجة لرغبة الشركة في تحقيق الربح من العلامة التجارية لـ(روالد دال). فقد سبق واقترح كاتب الأطفال فيليب بولمان أنه بدلاً من مراجعة دال فمن الأفضل التوقف عن طباعة كتبه، ولكن هذا أمر مستحيل لأن تركة دال ببساطة قيمتها عالية جداً. ومن مصلحة شركة روالد دال القصصية التي اشترتها نتفليكس في عام 2021 في جعل دال يحظى بقبول على نطاق واسع قدر الإمكان. وهكذا الجهد للتخلص من هذه الأمور وصقل صورته بحيث يجب أن تكون العلامات التجارية سلسة وغير مسيئة ولا إنسانية.
لن يدافع أي شخص عاقل عن شخصية دال فقد كان معلناً لتمييزه ضد اليهود، وفي السبعينات اضطرته ضغوط من منظمة الدفاع عن الحقوق المدنية NAACP إلى تغيير أومبا لومباس في تشارلي ومصنع الشوكولاته والذين تم تصويرهم في الأصل على أنهم أقزام تم إحضارهم من أفريقيا للعمل في مصنع الشوكولاته دون أجر. قد تُنفِّرك هذه الحقائق إلى حد أنك لن تتمكن من قراءة دال مرة أخرى - أو ربما تفضل تقييم كتبه بناءً على مضمونها الخاص والابتعاد عن معتقدات المؤلف، كلا الردين ممكن ومفهوم، ولكن لا يمكن إعادة تقييم النصوص أو جعلها أخلاقية تماماً عن طريق التلاعب ببضع جمل أو استبدالها ببدائل ركيكة.
لطالما تأثر الأدب بسوق الكتاب وتطور تاريخياً من خلال أنظمة الرعاية وحقوق التأليف والنشر وناشري الرقابة والمجلات المحابية، ولكن اختزال المؤلف إلى مجرد علامة تجارية يعني طمس ما يجعل الأدب فئة ذات معنى. ويميز الفن نفسه عن التجارة من خلال مقاومة هذه التشكيلات الرأسمالية وبالتالي عدم توافقه مع الأخلاق الاختزالية.
يتضح هذا عندما ننظر في كيفية معاملتنا للكتب بشكل مختلف عن العناصر الأخرى القابلة للشراء، فعند شراء مكنسة كهربائية لا تقوم بشفط الغبار من سجادتك، يجب أن تكون قادراً على إعادتها، لأن المكانس الكهربائية تهدف إلى أداء وظيفة محددة بوضوح ولا لبس فيها. ولكن إذا اشتريت كتاباً لا يعمل كما كنت تتوقع، فمن الغريب أن تحاول إعادته إلى متجر الكتب والقول بأنك وجدت السرد معقداً أو كانت الشخصيات أكثر قسوة مما أردت أو كنت تعتقد أنك كنت تقرأ قصة بوليسية ولكنها تحولت في منتصفها إلى تراجيديا انتقامية.
إن القيمة التي تقدمها القراءة تعتمد في الواقع على عدم معرفتنا بكيفية تطور تجربة الكتاب حتى نقرأه، وتتجلى القيمة في فعل القراءة. حتى عند إعادة القراءة فإننا نجد متعة في ملاحظة الأنماط أو جوانب من العمل لم تظهر خلال قراءتنا السابقة، فنحن لا نعرف أبداً بالضبط ما نحن بصدده. يمكن أن يكون أفضل الأدب شائكاً وغامضاً وصعباً وقاسياً وغريباً وغير متوقع ومزعجاً وغير سار، فليست مهمة الكتاب تسهيل حياة قارئه. قد يعني قراءة كتاب جيد المرور بيوم سيئ، يوم تشعر فيه بالخوف والحزن والاضطراب. ومن النادر (إن لم يكن من غير المعروف) أن ندفع مقابل تجارب غير سارة لا تعلمنا شيئاً، ولكن الأدب ليس ملزماً بأن يكون مفيداً ولسنا مضطرين لتعلم أي شيء منه، ولا حاجة لإنتاج أي شيء إلا ردة فعل القارئ، والبديل هو أننا ندفع ليتم تخديرنا.
رد الفعل المعقول؟
إذن، ما هو رد الفعل المعقول تجاه الكتاب المسيء؟ وما الآليات المتبعة التي يتم تحديد الإساءة فيها والتجاوز الأخلاقي؟
هناك معايير اجتماعية يتم التوصل إليها بشكل أو بآخر بالإجماع ولا يعارضها سوى القليل. وهناك بالتأكيد أمثلة على كتب تستلزم التنقيح الحكيم إذا كان من المفترض استمرار نشرها، فعلى سبيل المثال إن العودة إلى العنوان الأصلي لمسرحية أجاثا كريستي (وبعد ذلك لم يبقَ أحد) ستجعل الكتاب غير قابل للبيع (و يمكن القول على عكس ذلك بأن إخفاء اختيار المؤلف من أجل إطالة عمر الكتاب قد يخدع القراء بطريقة غير منصفة). ليس هناك حرج بمحاولة تجنب الإساءة في معظم الأحيان، فعند تدريس نص قد يجده الطلاب شائكاً يسعدني لحظتها أن أقدم تحذيراً عن المحتوى. فمن غير الواضح بالنسبة لي أن إجبار الطالب على مواجهة مواد مريعة أو ربما مواد يجدها مؤلمة شخصياً هو بالضرورة مفيد أو تعليمي.
يتطلب في الواقع أي تفاعل اجتماعي منا مراعاة ما يجب قوله وهناك الكثير من الملاحظات التي نمتنع عن إطلاقها خوفاً من أن تكون مؤذية، ولكن ومع هذا الجدل الحالي يجب إيلاء اهتمام لكيفية ولماذا يتم اتخاذ القرارات حول ما يعتبر مواد غير مقبولة.
يمكن للقارئ وفي ظروف عادية عندما يجد كتاباً مزعجاً بأن يضع ذلك الكتاب جانباً أو لا يختاره من البداية، قد يأخذ المؤلف أيضاً في الاعتبار مثل هذه العواقب عند كتابة كتاب. ولكن إذا كانت السلطة الأخلاقية لاتخاذ هذه القرارات نيابة عن الجمهور تنبع من ضرورة الحفاظ على خاصية تجارية قابلة للتسويق مثل جيمس بوند أو ويلي وونكا فإن الأدب يتدهور، وفي حين أنه قد يكون من مصلحة الفن ترك جمهوره في حالة من الاضطراب، إلا أنه لن يكون من مصلحة رأس المال أبداً إزعاج المستهلك المحتمل.
الدفاع عن الأدب كلياً على أسس أخلاقية يعني التنازل عن أراضٍ مهمة، ويمكن للأدب بالطبع أن يجعلك شخصاً أفضل أو شخصاً أسوأ ومن المرجح ألا يفعل أياً منهما، ويمكن للقارئ بالتأكيد أن يجد كتاباً مسيئاً أخلاقياً أو مفيداً أخلاقياً، و لكن قد يكون هذا خيطاً واحداً فقط في مصفوفة معقدة من ردود الفعل.
أي حجة تعامل الأدب كأساس علاجي أو محسّن للذات أو محسّن للمجتمع، تخاطر باختزال الأدب في تطوير الذات - وهو النوع الأدبي الذي يَعِد بتحسين شخصية القارئ. إن التعامل مع الأدب كأداة لتحسين وتطوير الذات يعني إيجاد قواسم مشتركة مع الحجج سيئة النية لأولئك الذين يبررون أخلاقياتهم المتعصبة من خلال الإشارة إلى الإنجازات الثقافية للحضارة الغربية.
المنظور المشترك هو أن قيمة الكتب تعتمد على القراء الذين تنتجهم، وأن القراءة على نطاق واسع وعميق أمر رائع يمكن أن يجعلنا على دراية بمجموعة واسعة من وجوه الوجود، ولكن لا يوجد كتاب يديننا أو يخلصنا. هذا لأن الكتب لا توجد بدون قراء، وكل قارئ هو متغير ولا يمكن التنبؤ به. على الرغم من أنه من المغري أن نعتقد أن تقدير الجمال لشخص هو إشارة موثوقة إلى شخصيته الأخلاقية إلا أن هذه السمات مرتبطة ارتباطاً ضعيفاً فقط.
إذن إذا لم يكن الأمر على أسس أخلاقية كيف يمكننا الدفاع عن الأدب؟ يمكننا تشبيهه بالمحادثة فمن الممكن أن تكون المحادثة ملهمة أخلاقياً أو مميتة، أو لا تكون جيدة ولا سيئة. ومن المؤكد أن المحادثات مسؤولة عن بعض أسوأ الفظائع التي شهدها التاريخ، جنباً إلى جنب مع أعظم إنجازاته، ومن الواضح أننا لا نستطيع التوقف عن إجراء المحادثات سواء أردنا ذلك أم لا.
لذلك تشبه القراءة المحادثة فهي تبادل مستمر بين القارئ والكاتب، وهو تبادل سيواصل التغير مع مرور الوقت، منعشاً لنا ويملؤنا بالحيوية من أجل الأدب ذاته.


https://theconversation.com/friday-essay-what-do-publishers-revisions-and-content-warnings-say-about-the-moral-purpose-of-literature-209864

 

ذو صلة