يزخر التراث العربي اللامادي بتنوع خصب، حيث تجسده أشكال كثيرة من الممارسات الاجتماعية، من بينها الأمثال الشعبية سواء باللغة العربية الفصحى أو العامية. والأمثال المتداولة هي نتيجة لبنية اجتماعية وتمثل ثقافي لفئة معينة، تخرج للواقع من خلال مواقف وقصص إنسانية، محملة بمعان وعبر، يضرب لها المثل، وينتشر بين الناس حتى يغدو متداولاً، وقد يعيش هذا المثل مدة زمنية طويلة جداً ينقل عبر الأجيال، حسب دقة تصويره للمغزى المراد، لذلك فإننا اليوم مازلنا نستعمل أمثالاً لها امتداد متجذر في التاريخ. والأمثال هي إحدى الرموز الثقافية التي تساهم في التعريف والانتماء التراثي لحضارة معينة، حيث تشهد جل الحضارات بروز هذا الرمز الثقافي -المثل- منذ القديم وحتى في عصرنا الحالي، حتى أنه قد تتشابه بعض أمثال حضارات مختلفة.
وقد اهتم العرب بالأمثال ذات المعنى العميق، المكرر في المواقف الاجتماعية المتشابهة، ونظراً لأهمية الأمثال والوظائف الجمالية والتواصلية والحجاجية التي تحققها فقد تم جمعها وتدوينها، قصد الحفاظ عليها من التلاشي. وما ينطبق على اللغة العربية الفصحى ينطبق على أمثال اللهجات العامية، حيث تخزن بطريقة غير مباشرة في الأشعار والزجل والأهازيج والأغاني الشعبية، خصوصاً إذا ارتبطت بسياق تاريخي خاص، فنجد مثلاً بعض الأمثال التي عبر من خلالها المغاربة عن آرائهم ومواقفهم في زمن الاستعمار، مازالت تحتفظ بنكهة خاصة باعتبارها تذكيراً لمقاومة الشعب وإصراره. لكن هل إنسان اليوم مازال قادراً على إبداع الأمثال كما هو الحال في الماضي؟ وهل مازالت الأمثال تتداول بالطريقة نفسها في القديم؟ وهل يتم الاهتمام بالأمثال كما يهتم بغيرها من الآثار الحضارية وبوصفها تراثاً لا مادياً سواء منطوقاً أو مكتوباً؟
لا يمكن تحديد تاريخ نشأة الأمثال، فقد رافقت الإنسان منذ القدم، وبسبب شعبيتها واكتسابها لبصمة جماعية فهي في الغالب مجهولة القائل، وعادة ما يتم الاعتماد على الأمثال للاستشهاد والحجاج والفصل في المواقف، كما أنها تعكس تفكير الشعب وتمثلاته الأخلاقية والدينية والاجتماعية السلوكية. وتؤدي وظيفة تربوية حيث تعد خلاصة لتجربة إنسانية تهدف إلى التهذيب والإرشاد. ونظراً لأهمية الأمثال اهتم العرب بتدوين أمثالهم منذ عصر التدوين، ولعل أشهر الكتب التي جمعت الأمثال (مجمع الأمثال) للميداني، فقد أشار في كتابه (وسميت الكتاب مجمع الأمثال لاحتوائه على عظيم ما ورد منها، وهو ستة آلاف ونيف، والله أعلم بما بقي منها، فإن أنفاس الناس لا يأتي عليها الحصر، ولا تنفذ حتى ينفذ العصر) وللأمثال دور مهم في تفسير الواقع الاجتماعي والحياة الثقافية حيث تلخص قصصاً طويلة في جمل قصيرة، وتظهر عدة قيم وتبرر سلوكيات اجتماعية، ولعل ورود الأمثال في القرآن الكريم فيه دلالة واضحة على أهميتها، وعلى قدرتها في تبليغ المعنى المراد واستخلاص العبرة.
تحضر الأمثال في زمننا الحاضر حتى لو بشكل قليل مقارنة مع الماضي، وهذا لا يعني أنها فقدت قيمتها ولكن ذلك فرضته التغيرات المجتمعية على المستوى الفكري والثقافي والإنساني عامة، نتيجة الانفتاح والاحتكاك الثقافيين، وما يعرفه عالمنا اليوم من تطور صناعي وتكنولوجي، لكن ذلك لا ينفي أن الأمثال الشعبية مازالت تحتفظ بشعبيتها ومكانتها، خصوصاً إن كانت نمطية ولها القدرة على التأقلم في بيئات مختلفة سواء قديمة أو حديثة، وأبرز مثال على ذلك أنها تردد على المنابر العلمية الإعلامية والسياسية أيضاً، كما نجدها مدونة في المقالات الصحفية كما أورد موقع هسبريس في الأسابيع الماضية مقالاً يتضمن مثلاً شعبياً يوضح من خلاله مشاريع تحلية مياه البحر بآسفي (جغمة من البحر.. ولا جميل الواد)، وبالتالي فلا يمكن الحكم على أن الأمثال الشعبية قد تخلى الإنسان عن استعمالها بصفة نهائية خصوصاً وأن هناك مجموعة من المراكز التي تقوم بحفظ وتثمين هذا التراث، كشبكة الوقاية المجتمعية (أربد) التي عملت على تصحيح المفاهيم الخاطئة للمثل الشعبي، والمعهد الوطني للتراث بتونس، والمعهد الوطني بالشارقة بالإمارات، ومركز التعريب بالمغرب وغيرها من الجهات، لكن هل مازال بمقدور الإنسان ابتداع الأمثال كما كان في الماضي؟
تفرز لنا منصات التواصل والمشاهدة على الإنترنت فئة عريضة من شرائح المجتمع المختلفة، أغلبها تقدم محتويات تتفاوت من الناحية الفكرية، فهناك من يتطرق إلى معالجة بعض الظواهر علمياً وفكرياً بغية نشر الوعي، وهناك من يروج للتفاهة للحصول على الشهرة أو الكسب المادي. الغريب في الأمر هو أن هذه التفاهة التي تعرف نسب مشاهدات عالية سواء على (الفيسبوك أو اليوتيوب أو سناب شات أو التكتوك)، تؤدي إلى تداول عبارات يبتدعها أحدهم فتنتقل من هذه المنصات الافتراضية إلى الحياة الواقعية، ليس هذا فقط وإنما حتى بعض الأغاني الشبابية التي يلتقط منها المستمع عبارة فتنتشر في أفواه الناس، باعتبارها أمثالاً تضرب في مواقف مشابهة لما تم مشاهدته، والأمثلة المتفشية في المجتمع كثيرة كـ(نميلو ومنطيحوش) و(الأرنبات وداكشي) و(اوا ياحميد) (يا أختي كنا جالسين). ما يدفعنا للتساؤل فهل ترقى هذه العبارات التي خلقتها الثقافة البصرية التي تشهد ترويجاً عالمياً إلى المثل؟ خصوصاً أن المثل يضرب للعبرة ويحقق وظائف أخلاقية وتربوية، وإلى أي حد يستطيع الإنسان المعاصر استعمالها؟
وإلى جانب ما يتم الترويج له في منصات التواصل الاجتماعي، فالعالم أصبح قرية صغيرة، وغدت هذه الوسائل والمواقع مجالاً لتبادل الخبرات والثقافات والعلوم، حتى أصبحنا نرى منصات تجمع الحكم والأمثال منشورات تتضمن اقتباسات من كتب وأقوال لبعض العلماء والفلاسفة والأدبيين. هذه الاقتباسات انتقلت من الكتب والمجلات إلى شبكة الإنترنت وشاشات الحواسيب والهواتف الذكية والحياة التواصلية الافتراضية إلى الحياة اليومية المعاشة. إذن فهل حلت هذه الاقتباسات محل الأمثال الشعبية؟
لا يمكن الجزم أن الاقتباسات التي تروج في مواقع التواصل الاجتماعي حلت محل الأمثال، فكما أشرنا سابقاً بأن الأمثال في كثير من الأحيان مازالت تحتفظ بشعبيتها حتى وإن قل استخدامها نظراً للأسباب التي رأيناها، لكن يمكن إرجاع ظاهرة انتشار الاقتباسات إلى التغيير الفكري والثقافي الذي يطال المجتمع ولمواقع التواصل الاجتماعي بصمة خاصة في ذلك، وتفسير إقبال البعض على الاقتباسات بدل الأمثال - من وجهة نظرنا- يعود إلى سببين مختلفين ومتضادين:
أولاً: محاولة الإنسان العربي مقارنة نفسه مع الغير وتقليده في مختلف تفاصيل حياته اليومية، ونمط عيشه وسلوكه وثقافته، لذلك فالتخلي عن الأمثال واستعمال اقتباسات العلماء والحكماء وغيرهم خاصة الغربيين، فهو تجريد من الثقافة الأم، بل أكثر من ذلك فهو انسلاخ من الهوية الأصلية، واتباع التقليد سواء كان بوعي أو دون وعي.
ثانياً: إعادة المجد للعرب وعلمائهم وحكمائهم خصوصاً إذا كان الاقتباس لحكيم عربي، وكان القول يدافع عن مبادئ سمحة تميزت بها الأمة العربية الإسلامية، وتذكيراً بفطنة العرب وقوة ذكائهم. وفي ذلك افتخار بالهوية العربية الإسلامية وإبدائها أمام الآخر، كما أن البعض يستعمل هذه الاقتباسات للتعبير عن مستواهم العلمي وثقافتهم الواسعة.
عموماً فإن الأمثال لا يمكن التخلي عنها لأنها تقوم بإعادة الاعتبار للثقافة الشعبية بوصفها جزءاً لا يتجزأ من الثقافة ورافداً أساسياً من روافد الهوية، فهي تمثل روح الشعب وينعكس فيها الشعور والتفكير وطرائف التعبير، كما تحمل في طياتها صورة عن المجتمع بعاداته وتقاليده ومعتقداته.