مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

الفن التشكيلي والصناعة

على اختلاف ما كان البدائي يسعى إليه من الفن، إلا أنه كان يشكل نتاج المتخيل التقني، والتطبيقي لتجميل البيئة المحيطة، كأسلوب للرفاه، والتكيف مع المكان، فيزين جسده والبيت، أو الكهف الذي يقيم فيه، والأواني التي يستعملها بألوانها ونقوشها وأشكالها.


الفن ملازماً لحياة الإنسان
وقد بقي الفن ملازماً لحياة الإنسان في كل الحقب التاريخية، وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ كان يعبر عن وعي الإنسان وتحولاته من خلال رسوماته ونقوشه، وفي العصر الحديث فقد تجاوز الفن التشكيلي فكرة التجميل والتزيين إلى المواءمة بين الوظائف الفيزيائية والجمالية والاعتقادية.
وبرز الفن في الحضارة الإنسانية ملتصقاً بالمعتقد، فالإنسان البدائي كان يرمز بالإشارات والزخارف لمتواليات التواصل الكوني مع الوجود، وللتعبير عن معتقداته عبر رمزيات الفن، وكان النحت لا يقف عند تزيين المعابد، بل يمثل قصة الوجود والكون، ورمزيات الإيمان، وبقي الفن حاملاً للسرديات الدينية من خلال رسومات جدران الكنائس وسقوفها في عصر النهضة.
ولم يبتعد الفن الإسلامي باختلاف خصائصه عن الفنون الأخرى في ارتباطه بالتزيينية للعمارة والأبواب والكتب من خلال الخط والزخرفة والتذهيب والتكفيت على الخشب والجلد والحجارة.


بين (شيخ الكار) والغرب
وقد ارتبط الفن الإسلامي باقتصادات العمارة باقتراحات تجلت في بناء المساجد، والقصور والأسبلة، وفي صناعة الكتب، ثم انتقلت إلى الأزياء والأثاث، وأواني البيت ومنها صناعة الخزف الأموي وفن الأرابيسك، والمنمنات، والرسم على جدران قصيّر عمرة في البادية الأردنية، والنحت في قصر الحمراء بالأندلس، والقيشاني والخزف والعاج والفضة والذهب في العمارة التركية.
وكان يقف وراء تلك الصناعة عدد كبير من الفنانين والفنيين الذين كانوا يرتبطون بعجلة الإنتاج، بل إن تلك الصناعات كانت تصنف ضمن التشكيلات الاجتماعية والإنتاجية وفق تراتبية مهنية يقوم على رأسها شيخ الكار (نقيب المهنة)، وله أتباع المهنة أو الفن، إلا أن الاختلالات التي جرت في تطور تلك الاقصادات ببروز الحقبة الصناعية في الغرب واقتصاد السوق والحروب الاستعمار قد فككت إسهام الفنانين والمبدعين ضمن العجلة الإنتاجية.
أما في الغرب فقد ارتبط الفنان والمبدع بعجلة الإنتاج من خلال الطبيعة التي تميز بها نمط الإنتاج الغربي الذي اعتمد على الأفكار، وأسس لها تشريعياً واجتماعياً. فقد قامت الحقبة الصناعية في أوروبا على الموروث الفلسفي والفكري للكتاب والمفكرين وفناني النهضة الذين أسسوا للحقبة الصناعية الحديثة.
وقد أنتج التطور التكنولوجي وثورة الاتصال والمعلومات في القرن العشرين، ما يسمى (اقتصاد المعرفة) الذي يقوم على (سوق الأفكار)، ومنها الفنون التي ارتبط نشاطها بالمناحي الاقتصادية والصناعية، وأنتجت علماً تطبيقياً يرتبط بالتقنية، وهو (الجرافيك ديزاين) الذي غدا ملح الصناعة والاقتصاد والسوق.
وتكمن أهمية الفن في المجتمع الصناعي الغربي والعالمي في الاقتراحات الجمالية التي يقدمها الفنان لأنسنة الأشياء، ونقل المنتج لصورة الإنسان المعاصر بأوجهه المختلفة على أفضل شكل.
وتلجأ المصانع الكبرى، والشركات إلى التميز من خلال التصاميم التي تطلقها كل عام، وتمتاز بالرشاقة والجمال والانسيابية، والقوة والسرعة، وتعتمد في تخيل بدنها على فريق من الفنانين الذين يراعون المزاج العام للمستهلك.


في صناعة السيارات
وفي شركات السيارات والطائرات والقطارات والماكينات، ومنها شركة مارسيدس الألمانية، يقوم الفنانون برسم «سكتش»، ثم يتم تحويل ذلك إلى منحوتة مصغرة، ثم بالحجم الطبيعي بالإكسسوارات الكاملة والأواني قبل أن يتم الشروع في إنتاج السيارة، وهي تستغرق عملاً ووقتاً وجهوداً ومالاً، لا تقل عن عمليات الصناعة نفسها، ويعمل في تحويلها من المتخيل إلى الصورة عدد من الفنانين والمبدعين الذين يرتبطون بمنظومة الإنتاج الصناعي.
وتعمد الكثير من الشركات على مصممين وفنانين عالميين، ومنها شركات الطيران الكبرى التي تخصص جوائز للفنانين والمصممين على الابتكارات.
إن من المهم الالتفات إلى أن الفنون تنشط وتتطور ضمن عاملي الرفاه، والتحول التقني والفكري، ولا يقصد بالتقنية في وجود الصناعات الكبرى، فحسب، بل إن الانتقال من شكل إلى آخر في الصناعة يمثل انتقالاً في تقنيات الفن، وتؤثر فيه، فالانتقال من الطابون إلى المخبز (الفرن)، هو انتقال فني بالأساس، وانتقال في النمط الحياتي الذي يحتاج إلى المتخيل الفني والجمالي والرفاهي لذلك النوع من الحياة.
وفي الوقت فإن تلك التحولات الاجتماعية تؤثر في النزعات الفنية وأساليبها التعبيرية، وبشكل أكثر اتساعاً، فإن النظرية النسبية، لآنشتين كانت من أكثر الظواهر التي أثرت في الفن، بتناولها لأبعاد الحركة، والفراغ والكتلة والضوء، كما أثرت النزعة المستقبلية للفن في التيارات الفكرية الاجتماعية والعلمية.
إن الارتباط بين الفن والصناعة هو شرط جدلي، وليس تابعي، وقد بقي الفن التشكيلي العربي في إطار النمط الإنتاجي الخدمي الذي لا يرتقي إلى الشراكة الحقيقية مع الإنتاج، ويكمن في ظلال العملية الإنتاجية التي بقيت في إطار الصناعات التحويلية التي تعكس نمط الإنتاج في البلدان العربية.
وبقي الفنان يخضع (لطلبات) بعض الصناعات التحويلية، ومنها صناعة الأقمشة، المجوهرات، الأثاث، وتزيين جدران الفنادق والمؤسسات، بمعنى أن الفائض المالي/ الرفاه هو دافع النشاط الفني، وليس الضرورة الصناعية التصميمية المنافسة لمتطلبات السوق لتجويد المنتج الصناعي والتعبير عن روح العصر وثقافة الإنسان.
وكما يقال: فإن الإنسان يصنع المكان، والمكان يصنع ثقافة الإنسان وملامحه، وكذلك فإن الشرط الفكري واتجاهاته الإنتاجية ونمط حياته هي التي تحدد قوى الإنتاج واتجاهاته، وهي التي حولت الفن العربي إلى نمط (خدمي)، (تزييني)، في إطار المحدودية الصناعية التحويلية، وفي إطار المجتمع الاستهلاكي.


النمطية الثقافية والفنان العربي
وبقيت الثورة التقنية في تأثيرها على الفنان العربي في حدود النمطية الثقافية التي انتجها المجتمع الاستهلاكي، فعلى صعيد التقسيم الفني، بقي الرسم الديجتال في حقل التصنيف التقني أو الحرفي، ومع ازدياد أعداد خريجي الأكاديميات التي تدرس الجرافيك، إلا أن عملهم الفني ظل رهين التصميم الإعلاني التجاري وليس الصناعي، وأفادت مصانع الأقمشة والأثاث من المكنكة التكنولوجية للوسط الفني، لكن بقيت مساهمتها محدودة في الاشتغال الفني باستثناء تجارب (الأنستوليشن)، و(الميديا أرت)، إلا أن مثل هذه الفنون التي نشأت في الغرب لم تجد لها أصداء، وبقيت مجرد تجارب عابرة.
وبالنسبة للفنان التشكيلي العربي فقد بقي خارج النسيج الصناعي والتجاري، بخلاف الفنان الغربي الذي يشكل عقل الإنتاج، وجوهر المجتمع الصناعي، وظل الفنان على هامش القطاع الخدمي، خارج السوق التي لا تعترف حتى الآن باقتصاديات الفن، ومساهمته في عجلة الإنتاج الوطني.
وكما كانت المناخات العلمية وسيلة لبروز عدد من العلماء العرب، والكشف عن إبداعهم، فإن الشرط الصناعي الغربي مهد لبروز عدد من الفنانين العرب الذين وظفوا إبداعاتهم الجمالية في الصناعة العربية، ومن أمثلة ذلك كريم حبيب، والمعمارية زها حديد، وأسماء كثيرة من الفنانين الذين لم يجدوا في القطاع الصناعي العربي التحويلي فرصة لإبداعهم.

ذو صلة