مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

عالـم الرموز وسيكو لوجيتها

تعيش الإنسانية وسط عالم من الرموز التي تعبر عن ثقافاتها وترتبط بماضيها وحاضرها وتتحكم في مصيرها، وتثريها بمعانيها، ودلالاتها المتباينة، مما وضعها دائماً في قلب الحدث، وبؤرة الاهتمام. أماطت اللثام عن أسرار الحياة، وقادت الإنسان وحفزته ودفعته إلى آفاق جديدة بعد شحذ قدراته الإبداعية. ولأنها غزيرة بكل ما تمثله، وما تلعبه من وظائف سوسيولوجية وسيكولوجية؛ أحيطت بصعوبات خاصة في تحديد ماهيتها وألغازها، وصولاً لدلالاتها، لأنها لا توجد منفردة أو نقية خالصة، بل تختلط بغيرها، فتختلف صورها، وتتداخل مفاهيمها، وتتغير تفسيراتها. توظف الرموز في شتى حقول المعرفة، مثل: تاريخ الحضارات- الأديان- اللسانيات- الأنثروبولوجيا الثقافية- النقد الفني- علم النفس- الاجتماع- الطب، بالإضافة إلى: الإعلان، والإعلام، وتقنيات الدعاية السياسية.. وغيرها.


تعريف المصطلح
(الرمز) عصي على التحديد الدقيق، لا يخضع للتعريف الجامع المانع، فطبيعته تنسف الرؤى وتخترق الأطر المعتادة ليعاد صياغتها الإبداعية، ويوحد جزئياتها في رؤية واحدة، وهو بقدر ما يوضح يخفي! وبقدر ما يسفر في تحجبه، يتحجب في سفوره. تتشكل الرموز بدقة ويتوسل فيها بانحسار جزء من أسرارها، والإبقاء على معظمها في انتظار التحليل الشفري. أقرب معانيها ما أورده ابن منظور في (لسان العرب): (الرمز تصويت خفي باللسان كالهمس، ويكون تحريك الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ من غير إبانة بصوت، إشارة بالشفتين، وقيل: الرمز إشارة وإيماء بالعينين والحاجبين والشفتين والفم. والرموز في اللغة كل ما أشرت إليه مما يبان بلفظ بأي شيء أشرت إليه بيد أو بعين، ورمز يرمز رمزاً. وفي القرآن الكريم ورد في قصة زكريا -عليه السلام- بسورة آل عمران، الآية 41: (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ).
ورمزته المرأة بعينيها ترمزه رمزاً: غمزته. وجارية رمازة: غمازة، وقيل: الرمازة الفاجرة مشتق من ذلك أيضاً، ويقال للجارية الغمازة بعينيها: رمازة أي ترمز بفيها وتغمز بعينيها. ويرى د.بهاء الدين محمد مزيد أن (الرمز هو كل علامة أي كل كلمة أو صورة، لون أو حركة، صوت أو إيماءة، وغيرها مما يتجاوز دلالته معناه السطحي القريب إلى العميق البعيد، وما لا حصر له من الدلالات والمعاني التي ترتبط بسياقها النصي وبمنتج العلامة أو منتجيها (مؤلف النص)، ومستقبليها (القارئ أو المتلقي)، قد لا يتطابق تأويل المتلقي مع ما أراد منتج النص، على أن كل معنى محتمل يليق به أن يكون معنى مقصوداً ما دام ينسجم مع الدلالات الكبرى للنص)، باعتبار (الترميز شحن لتلك العلامات بالإيحاءات النفسية والثقافية والسياسية من خلال توظيفها في سياق يستدعي تلك الإيحاءات ويبررها). (كتاب الرموز، الهيئة المصرية لقصور الثقافة، 2012م، ص12). إن (كل علامة رمز، أو مهيأة للترميز، قد تبقى على ما هي عليه في المعجم أو في نظامها العلاماتي الأساسي، وقد تتسع دلالاتها فتتحول إلى رمز). (د.فؤاد مخوخ: الرمز أساس الوجود، مجلة الإمارات الثقافية، العدد 29، يناير 2015م، ص23). فالرمز باب من أبواب المجاز في البلاغة العربية، يندرج تحت مبحث البيان الذي يشتمل التشبيه والمجاز والكناية. وهناك الكثير من الرموز، مثل: الرموز الأدبية- الفنية- البصرية- العلمية- البريدية- التشكيلية- المرورية- الإلكترونية- الدينية.. وغيرها، مما يحتمل تأليف كتب موسوعية، فقد دونت في كل رمز كبير كتب كاملة. وهناك صور ملتبسة تختلط بالصورة الرمزية أو الرمز، فتمسخه، أهمها: الأيقونة، والأمثولة، والعلامة، وللأخيرة أنواع، مثل: الشعار- الصفة- المجاز الصوري- الاستعارة- الأمارة- المثل- الحكمة. فإذا كانت العلامة مثلاً (اصطلاح اعتباطي يترك الدال والمدلول غريبين أحدهما عن الآخر)؛ فإن الرمز يفترض تجانسهما، وهو يتميز بكونه يقتضي الانتقال إلى مستويات دلالة عميقة. (قارن: د.فؤاد مخوخ: ص24).  الرمز لا يكتفي بالظاهري تفسيراً لمكوناته، وما تشير إليه، مما يستوجب تفكيك بنيته. يتسم أيضاً بالديناميكية لأنه يشحن بالخيالي والإبداعي، وبهذا فإن (الرموز الجبرية والرياضية والعلمية ليست سوى علامات تعتني فيها معاهد توحيد المقاييس بالجدوى الاصطلاحية عناية فائقة. ولا وجود لعلم صحيح يعبر عن ذاته بالرموز بالمعنى الدقيق للكلمة). (جان شوفالييه وألان قيربرانت: معجم الرموز، (باريس 1990)، ترجمة/ فيصل سعد، الرباط، مؤمنون بلا حدود للدراسات، 2016م، ص9). تتجاوز (الرموز) كثيراً (العلامات)، لتخطيها الدلالة، والتأويل المسبق، فهي محملة بالانفعالات والفعاليات، وتتوسل بالبنى الثقافية.


البنية الإبداعية
ينطوي الرمز في الأصل على معنيي الفصل والوصل، ويشهد تاريخه بأنه شيء يمكن أن يكتسب قيمته الرمزية سواء أكان طبيعياً (أحجار- معادن- نباتات- حيوانات- كواكب- أنهار- بحار- محيطات- جبال- نيران، وغيرها) أم مجرداً (شكل هندسي- رقم- إيقاع، وما سواها)، غير مقتصر على كائنات وأشياء واقعية فقط، بل يعني (نزعة- اتجاه- حلم، وغيرها) (قارن: جان شوفالييه، ص13).
يعبر الرمز في التحليل النفسي بطريقة غير مباشرة/مجازية يصعب تفكيكها، فهو العلاقة التي تجمع بين المحتوى الظاهر والمعنى الخفي لسلوك/ فكرة/ قول، وبمجرد إقرارنا بوجود معنيين يحل أحدهما محل الآخر بأن يحجبه أو يعبر عنه في ذات الوقت، يمكننا أن ننعت هذه العلاقة بالرمزية التي تتميز بتلازم العناصر الظاهرة والخفية للرمز، وهو عند يونج ليس مجازاً أو علامة بل صورة خالصة تحدد طبيعة العقل (الوعي واللاوعي) وتحيل على معنى يصعب إدراكه أو استخلاصه يعاود الظهور في شكل مستعار لصورة رمزية تعبر عن اتجاه نفسي أو نزعة طبيعية أو غيرهما. (قارن: معجم الرموز: ص14).
تبنى الرموز على ترسيمات وجدانية-وظيفية تحرك النفس. ويرى تزفيتان تودوروف أن الرمز تكثف فيه المعاني والدلالات لتثريه، وتفيض بمحتواه ومضامينه التعبيرية، بشكل يخضعه لمبدأ تعدد الأبعاد وتنوع الأوجه بكيفية لا متناهية. (قارن: د.فؤاد مخوخ، ص24).
يكتسب أي موضوع قيمته الرمزية من خلال، تحويله إلى رمز يشتمل الظاهري الملموس، والخفي المجرد، من المفاهيم، وهو يتضمن معنى سرياً، أو لغزاً، لكنه دوماً يحتوي جزءاً دالاً مثقلاً بالملموس، ملتبساً بالتعبيرات اللغوية والقيم التشكيلية المتدفقة والمتضافرة في اكتشاف السر، ليشبه بذلك بلورة تعكس الضوء بكيفية تختلف وفقاً للوجه الذي يستقبله.


الوظائف السوسيوسيكولوجية
تلعب الرموز بكل أبعادها وتعقيداتها الكثير من الأدوار، ويمكننا القول إنها تقوم بعدة وظائف كشفية، وتحويلية، واجتماعية، يعبر الكشفي منها عن معاني التحدي والمغامرة عبر الزمان والمكان، استيعاباً لعلاقات لا تستطيع القدرات العقلية والمنهجية وحدها تحديدها، حيث يكون أحد طرفيها معلوماً بينما الثاني مجهول يتطلب البحث، والاستكشاف. لا ينخرط الرمز في التطور الإنساني ولا يغني المعارف والحس الإستاطيقي فحسب، بل يلعب دوراً تحويلياً للطاقة النفسية اللاشعورية، من أعراضها السلبية العصبية والنفسية إلى طاقة إيجابية وسلوكيات واعية، وهو ينبهنا خلال أحلامنا إلى احتياجاتنا المكبوتة في اللاشعور انتظاراً للتحقيق متى نضج الإنسان بشكل كاف ومتى اكتملت عناصر تنفيذ الفكرة. أما الوظيفة الاجتماعية للرمز فتمنح للإنسان هويته، وانتماءه، وما يمثل ثقافته، وما يحيا روحياً به، حيث تسهم الرموز في تنشئته الاجتماعية واتصاله ببيئته وتواصله المحلي والعالمي وتكوينه النفسي والأخلاقي، وتحقيق ذاته. إضافة إلى أنها تصدر عن نفسية جماعية موحدة، وتنتشر عالمياً، لتؤثر بقوة دون أن تمر عبر بوابات اللغات واللهجات. لذا تؤخذ دائماً في الاعتبار لأنها تتكامل بثقافتنا ورؤيتنا، لكنها تظل موضوعاً شائكاً، لتعدد وتداخل دلالاتها، وتنوع سياقاتها، وتأويلاتها، بما ينتج مفاهيم ودلائل جديدة تتأسس على علاقة الإنسان بعالمه وتفاعله معه، وتوسع فهمه لذاته عبر فهمه للآخر، بما يشمله ذلك من توسيع الآفاق الإنسانية عامة، إذ تسمح باستكناه الأعماق النفسية للإنسان عبر محاولة معرفة ما تيسر من الألغاز والأسرار، تحقيقاً لتفسيرها وفهمها وتأويلها للقضاء على الغرابة في الثقافات والفنون والآداب، إضافة للغرابة المتزايدة في الحياة، وعبور الفجوات التي ترتب عليها الشعور بالعجيب والغريب، والتي تحول كثيراً بين الإنسان وفهمه لذاته من ناحية، وبين الإنسان وفهمه للعالم من ناحية أخرى.
ختاماً: هل ينجح البحث في الرموز أن يلقي الأضواء على جوهر الغرابة المعاصرة، أو يميط اللثام عن تجلياتها التي لا تتوقف؟

ذو صلة