في الماضي كان تخطيط المدن يتركز على تخطيط مبانٍ وتوفير خدمات وإنشاء طرق، تراعي وتعمل فقط لمصلحة المركبة (السيارة).
لكن ومنذ نهاية التسعينات وبداية الألفية الثانية، وتفاقم ظاهرة التلوث البيئي والضوضائي الذي لحق بالمدن بسبب الثورة الصناعية، والاهتمام الزائد بالمركبة (السيارة) على حساب الإنسان، فقد خلق فوضى التلوث والضوضاء والاختناقات المرورية والتوتر والقلق، وظهرت مبادرات تدعو لصناعة مدن إبداعية تحترم البيئة وتوفر الراحة والرفاهية للإنسان.
ومن هنا جاءت مبادرة (أنسنة المدن Human Cities-) أو (المدن الإيكولوجية) التي تهتم بالإنسان في المقام الأول، ثم بالمحافظة على ذاكرة المكان وهويته الثقافية. وتسعى لتوفير أماكن عامة تجلب الراحة النفسية والبصرية للإنسان، وتحث المواطنين على المشي وركوب الدراجة وتدعوهم للتقليل من استخدام السيارة لخفض استهلاك وقود السيارات، الذي يؤثر سلباً على البيئة والاقتصاد والصحة.
هذه المبادرة لاقت رواجاً ونجاحاً في أمريكا وأوروبا، ففي باريس مثلاً، تحولت أحياء بأكملها إلى أحياء صديقة للبيئة، تم فيها تقليص أو إلغاء الشوارع المخصصة للسيارات واستبدالها بممرات مزينة بالأشجار والورود للمشاة وراكبي الدراجات الهوائية، تراعي الرفاهية البصرية والتذكير باحترام الطبيعة والبيئة. ونجد في هذه الأحياء أماكن مخصصة لفرز وتدوير النفايات، وملاعب وحدائق ومساحات خضراء للترفيه وإقامة الاحتفالات والمهرجانات، وأماكن للعب الأطفال، ومراكز لتأهيل سكان الحي وتوعيتهم بضرورة احترام البيئة.
ففي العاصمة الفرنسية وغيرها من العواصم الأوروبية، أخذت الحكومات تراعي الإنسان بدل المركبة، وأصبحت تعيد رسم خرائط المدن لكي تصبح صديقة للبيئة، وذلك من خلال فرض سرعة القيادة حيث لا تتجاوز الثلاثين كيلومتراً في الساعة داخل المدينة، للحد من تلوث الجو بثاني أكسيد الكربون الذي تنفثه عوادم السيارات. كما لجأت لحيل بديلة تدعو للتخلي عن السيارات، وذلك بإعادة تأهيل خطوط (الترام)، وفتح خطوط جديدة تصل لأماكن بعيدة وذلك لحث المواطنين لاستقلال المركبات العامة الأقل ضرراً بالبيئة بفضل عملها بالكهرباء. وقد أعلنت بلدية باريس، أنه بحلول عام 2024، سيتم منع السيارات المسببة للتلوث التي تعمل بالديزل أو البنزين من الحركة داخل العاصمة الفرنسية، وذلك في مبادرة لتحويل جميع المركبات إلى مركبات كهربائية.
وفي العالم العربي، هناك دول بدأت تتجه نحو الاستفادة من التجربة الغربية لأنسنة المدن، مثل السعودية والإمارات ومصر والأردن، لكن ما تزال هناك تحديات وصعوبات أمام مدن وعواصم عربية للحاق بهذا الركب، وذلك لاجتماع عدة عقبات اقتصادية وثقافية واجتماعية وبيئية.
وبالرغم من أن العوامل الاقتصادية هي أهم العقبات التي تقف أمام أنسنة المدن العربية، إلا أن هناك عوامل أخرى منها:
- عقبات ثقافية واجتماعية وسلوكية تتسبب في نشر التلوث: مثل عادات رمي المخلفات في الشوارع، وحرق النفايات في الأحياء، والاستخفاف بفكرة فرز النفايات لتسهيل تدويرها، وعدم الاهتمام بترشيد الكهرباء والمياه من أجل الحفاظ على الطاقة.
- عقبات بيئية لا تشجع على الاستغناء عن السيارة والحد من انتشار التلوث والضوضاء: مثل شدة حرارة الجو، ومواسم الأمطار السنوية التي غالباً ما تصيب الطرق الموجودة بالخراب بسبب عدم مراعاة التخطيط الصحيح للبنى التحتية للمدينة.
بالنسبة لعوامل ثقافة المجتمعات وسلوكياتهم السلبية تجاه بيئتهم، يمكن معالجتها عبر برامج توعية للمواطنين بضرورة الاهتمام بالبيئة المحيطة بهم من أجل صحتهم، حتى يكفوا عن رمي النفايات على جانبي الطريق ويشاركوا في عملية فرزها ووضعها في المكان المخصص من أجل تسهيل عملية تدويرها واستخراج طاقة منها بدل أن تتحول لمصدر تلوث ولعدو للبيئة والإنسان، وتشجيعهم على الاهتمام بالأشجار والورود وعدم قطعها وغيرها من النصائح مما يحافظ على الصورة الجميلة للمكان.
وفي حالة عدم الاستجابة للتوعية، والإصرار على ممارسة السلوكيات السلبية، يمكن سن قوانين تفرض عقوبات لمن يقوم بانتهاكات ضد البيئة.
أما فيما يخص العوامل الاقتصادية (لأنسنة المدن) فستظل من أكبر العوائق لكونها تدخل ضمن إطار عمل الحكومات، ولا يمكن للمواطن أن يتجاوزها بمفرده لكي يحقق حلمه بالعيش داخل (مدينة إيكولوجية) صديقة للإنسان. فمن أجل إعادة تأهيل الشوارع المخربة بمياه أمطار الخريف، وتهيئة طرق وممرات مريحة للمشاة وراكبي الدراجات الهوائية لحثهم على التخلي عن السيارة، قد يلزم الأمر ميزانية مالية ضخمة، قد تتفرع لتصل لضرورة إعادة هيكلة خرائط البنية التحتية للمدينة بأكملها. ذلك أنه في أغلب المدن العربية، لم تراعَ هذه المعايير منذ البداية، بسبب ندرة الأمطار وقصر مواسم الخريف.
وإلى أن يتحقق ذلك، سيظل العيش داخل (مدنٍ إيكولوجية) مجرد حلمٍ جميل وبعيد، ولن يبقى أمام المواطن خيار آخر للهرب من الطين والغبار وحرارة الجو، غير استخدام السيارة، لأنه سيصم أذنه لا محالة من الشعارات والمبادرات صديقة البيئة، لأن البيئة تمثل له ألد الأعداء، ولن يكترث لو نشرت سيارته التلوث من عادمها، والضوضاء من بوقها وخربت الانسجام البيئي، بينما هو يكافح ليصل إلى عمله في الوقت المناسب.