مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

تسارع إيقاع الحياة الزمن بين هروب متخيل وحقيقة مستقرة

صارت عبارة (الوقت لم يعد يكفي لإنجاز أعمالنا)؛ تتردد على كل الألسن. وتتزاحم الأسئلة المستفسرة عن ضياع (بركة الزمن) بلا إجابات واضحة، أو مقنعة. وما يدعو للحيرة حقاً أن الساعة ما زالت تدور بدقة متناهية: الدقائق تتبعها الثواني، وتتتابع أيام الأسبوع من السبت إلى الجمعة، كما هي بلا نقصان، والعام يبدأ في يناير وينتهي في ديسمبر. بل هي سنة الله في الكون لم تتغير، لا الشمس أدركت القمر، ولا الليل سبق النهار، فماذا حدث؟ فالوقت يمر بسرعة كبيرة، وكل شيء حولنا يجري بسرعة فائقة، في ظل وجود تكنولوجيا حديثة، أذهلتنا بتطوراتها المتلاحقة، وأرهقتنا بمتابعة ما تحمله لنا في أحشائها من معلومات وفيرة، وتجارب جديدة كثيرة ومثيرة، نتعرض لها باستمرار، حتى بات من العسير علينا، التركيز على أي شيء لفترة طويلة من الزمن. كما أن برنامج حياتنا الحديثة أصبح أكثر ازدحاماً، إذ لدينا المزيد من المسؤوليات والالتزامات، تحتاج منا لغير قليل من الوقت، خصماً على فترات الاسترخاء والاستمتاع بالحياة، مما يؤدي إلى الشعور بالضغط والتوتر، وربما الاكتئاب، ونكرر بلا ملل قولتنا: (لم يعد الزمن يكفي).
إن استمتاعنا بأي شيء، صغر أم كبر، يشغلنا قطعاً عن مراقبة الزمن، فتتسرب منا لحظاته من دون أن نشعر بها. فاضطراب الشعور بالوقت، وكأنه يمر بسرعة أكبر، يعود لتركيزنا على ما في أيدينا بدافع الاستمتاع، فيتوقف التفكير في حاضر تمضي لحظاته متسارعة، أو مستقبل آتٍ يجب أن نتهيأ لاستقباله. وفي المقابل، فإن ما نقوم به من عمل رتيب غير ممتع، يبدو الوقت فيه، وكأنه يمر ببطء شديد، لتركيزنا على اغتنام اللحظة الماتعة، ولعدم شعورنا بالرضا عما نقوم به من عمل. فالحياة السريعة يصاحب إيقاعها المتوتر بعض الرهق، غير أن ما نتخيله فيها من مغامرة وإثارة، نطمح أن يحقق لنا من المتعة، ما ينسينا هذا الرهق، وأن يمر الوقت بلا ملل. ونتذكر جيداً أننا عندما كنا أطفالاً، كانت جداولنا تخلو من أي التزامات حياتية جادة، عندها كان كل شيء أبطأ، وأكثر هدوءاً، وكانت الأيام تمتد طويلة، ونجد فيها متسعاً للاكتشاف واللهو؛ لكن، اختلفت اليوم الأشياء، وإيقاع الحياة زادت سرعته، ولا مساحة فيه للراحة، لأن كل شيء يمر بسرعة كبيرة، مما يشعرنا بضيق الزمن، مع تزاحم مطالب الحياة ورهقها، وهذا يجعل من الصعب علينا الاستمتاع بها، والتركيز على المهام اليومية فيها.
ولأننا نستعذب الشعر، الذي يرتاد خياله الثريا بلا عمدٍ، نصغي إليه ليقول لنا:
إن الليالي للأنام مناهل
تطوى وتنشر دونها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة
وطوالهن مع السرور قصار
ومما لا شك فيه، أن للتكنولوجيا الحديثة صلة وثيقة بتسارع الزمن الذي بتنا نشكو منه، فالسفر إلى أي مكان في العالم لم تعد تكملة إجراءاته تكلفنا اليوم سوى دقائق معدودات، لإنجاز كل المهام المتعلقة به. والتجول في أسواق العالم لشراء ما نحتاجه، يتم بضغطة على زر الجوال، من أي مكان، وفي أي زمان، من دون أن نتحرك خطوة واحدة. كما أن الوصول إلى أي معلومة، في أي علم من العلوم، أو عن أي شيء آخر؛ لا يحتاج منا لأكثر من ثوانٍ قليلة. وكذا التواصل مع من نريد، في أي بقعة في العالم؛ لم يعد يكلف شيئاً من الجهد، أو الوقت؛ ولذلك بات من العسير علينا التركيز على أي شيء لفترة طويلة من الزمن، فلم تعد لنا كثير أوقاتٍ نخصصها للأنشطة، رياضية كانت أو ثقافية، أو غيرهما من الاهتمامات. وبات الابتعاد عن التكنولوجيا وأدواتها عصياً علينا، إذ فقدنا اليقظة والتركيز، ولم تعد بعض أهدافنا واقعية، وغير قابلة للتحقيق. فالحياة السريعة، رغم أنها مملوءة بالمغامرة والإثارة، إلا أنها صارت مرهقة، لافتقدانا التوازن فيها بين النشاط الذهني والراحة البدنية، لتباعد مسافاتهما.
لقد كان لأطفال ما قبل التقنية الحديثة متسع من الوقت، يكفيهم لممارسة كل الأنشطة، وكانت لديهم مساحة من الوقت، تعينهم على قضاء واجباتهم المدرسية، وتمنحهم فائضاً من الوقت، يلهون فيه ويمرحون، ويخلدون فيه إلى النوم باكراً. أما أطفال اليوم، فليس لديهم نفس القدر من الوقت لممارسة هواياتهم وألعابهم، فنجدهم على الدوام مشغولين بالمدرسة، وبالواجبات المنزلية، وما تبقى من وقت، يدخلون فيه إلى أجهزتهم المحمولة، للتجوال في عالم افتراضي، يفقدون فيه الكثير من الأشياء الجيدة في الحياة. لذلك، فإنهم لا يتمتعون بنفس القدر من الاسترخاء والسعادة، ولا وقت لديهم لاستكشاف العالم الحقيقي من حولهم، لأنهم جاؤوا إلى الدنيا في زمانٍ لم نقدر الوقت فيه حق قدره، فلم يعد نهار المعاش ينتهي عند غروب الشمس، ولم يعد ليل اللباس يبدأ عندها، ولا هو مقدر أن يكون فقط للنوم والخلود للراحة.
بيد أنه يوجد بيننا من يختلفون معنا في أن الوقت قد تزايدت سرعته، وهؤلاء يرون أن الوقت هو ذاته، لم ولن يتغير. ويذهب أنصار هذا الرأي، إلى أن ما تغير هو تطور أساليب الحياة، وزيادة وسائل المتعة والاتصال، وتعدد المشاغل حتى بات الناس، في زماننا هذا لا يشعرون بالزمن وهو يمضي. ومن هؤلاء، نقف مع الباحث في مجال علم النفس، الدكتور فاضل الخفاجي الذي يرى بأن الشعور بقصر الوقت هو شعور واهم، أو كاذب؛ ويرجع سبب ما يشعر به الناس من قصر الوقت إلى كثرة مشاغلهم الحياتية، فالوقت لم يعد قصيراً، كما يتوهم البعض، ولم يتغير منذ أن وجدت الخليقة؛ غير إن سرعة لهث الإنسان وراء مشاغله الحياتية، وحرصه على الظفر بأكبر مساحة، من ملذاتها ومنجزاتها وبريقها؛ جعل وقته مزدحماً، فلم يعد هناك وقت فراغ، يشعر معه المرء بمتعة الأشياء من حوله. ويشاركه الرأي الألماني هارتمت روزا، أستاذ علم الاجتماع، إذ يرى بأن المجال فيه سعة، للتأمل في مفهوم التسارع، وانعكاساته على حياة الإنسان في هذا العصر الذي يلهث فيه الأفراد وراء حياة قد سرقت منهم، نتيجة لتداخل ثلاثة مستويات من التسارع: تسارع تقني، وتسارع تغيير اجتماعي، وتسارع في وتيرة الحياة. فالإطار الفكري الذي قدمه الدكتور روزا يمكن أن يكون معيناً لشرح وفهم التغييرات الاجتماعية في الدول غير الغربية التي تعيش مع حضارة الغرب.
ومن وجهة نظر علماء الفيزياء فإن الزمن هو بعد أساسي للكون، إنه لا يتغير ولا يتوقف، ولكن يمكن تجربته بشكلٍ مختلف، اعتماداً على سرعتنا، وموقعنا في الفضاء، وعلى سبيل المثال، إذا تحركنا بسرعة عالية، فإن الزمن سيمر ببطءٍ شديد، بالمقارنة مع الأشخاص الذين يتحركون ببطء. ولعلماء النفس وجهة نظر مختلفة، فالزمن عند هؤلاء هو بناء اجتماعي، والإنسان هو من يوجد مفهوم الزمن من خلال التجارب والتوقعات، فعلى سبيل المثال، إذا كنا ننتظر شيئاً ما، فإن الزمن يبدو كأنه يمر ببطءٍ شديد، وإذا كنا نقوم بشيء ممتع، فإن الزمن يبدو وكأنه يمضي بسرعةٍ أكبر.

ذو صلة