ما الذي يربط السينما بالجغرافيا؟ تعد الجغرافيا علماً مكانياً من الطراز والدرجة الأولى أما السينما فلا يمكن للسيناريست كتابة النص السردي للفيلم الدرامي دون تحديد المكان الذي تدور فيه الأحداث، فكل مشهد في السيناريو لابد أن يحتوي على المكان وإيضاح مكان الحدث بالتفصيل.
يتجاوز المكان فكرة أنه ركن أساسي من رواية القصة ومن المشهد السردي، أو أنه الوعاء الذي يحوي مجريات الحدث، وتبدو علاقة المكان بالقصة علاقة وثيقة ومتشابكة لدرجة أن المشاهد لا يعرف هل المكان هو أرض محايدة للحدث أم أن المكان هو المحفز وأن علاقة الحدث بالمكان علاقة سببية ذات تأثير. يساعد المكان صناع السينما على إيصال المشاعر من خلال الصورة وانعكاساتها والتأثير الذي تساهم في إبرازه عن طريق استثارة الوجدان والذاكرة إضافة إلى الصور النمطية والرموز في ذهنية المتلقي فالغرفة الصغيرة مثلاً قد تكون رمز الفقر والقلق والشعور بالضيق والظروف الخانقة أما الغرفة المتسعة فتملك القدرة على منح المتلقي شعور الوفرة والثراء والمستقبل وربما الفراغ.
للصحراء مكانة خاصة في وجدان العربي هي فضاء متسع ساحر غير منتهٍ، أفق بلا حدود كذلك المشاعر التي تبعثها التكوينات البصرية للصحراء لا يمكن اختزالها في الصور الراسخة في ذاكراتنا الشفهية من خلال الشعر والقصائد أو علاقتنا الخاصة الشاعرية مع الصحراء.
امتداد الصحراء وأبديتها هي ما يجعلها رمزاً للفكرة ونقيضها فهي البداية والنهاية، الميلاد والموت، الخوف والصفاء وربما التأمل، الصحراء هي فضاء البحث عن الذات وبذات الوقت هي الصراع مع الآخر، هي المهرب والنجاة وربما سبب الهلاك، الفقر والثراء.
سحر الصحراء قديم ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ البشرية وهي رمز للمقدس في الأديان فالقدس مثلاً مدينة محاطة بالصحراء (بر الخليل) كذلك مكة، الصحراء هي التيه عند موسى عليه السلام وهي رحلة العزلة والاعتكاف ومقاومة الإغراءات عند عيسى عليه السلام وهي مراتع وذاكرة الطفولة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام. وفضاء سردي غني وثري بالمغامرات مثل حكايات الشعراء وألف ليلة وليلة أعظم منتج أدبي في تاريخ البشرية، فكان الشرق رمز السحر والغرائبية والغموض مما أثار في نفوس الرحالة الغربيين الرغبة في اكتشاف المجهول وخوض المغامرات خصوصاً أن الصحراء مساحة لا يمكنك التنبؤ بما يخفيه أفقها أو باطنها فهناك دائماً موعد مع المجهول الذي من الممكن أن يكون باباً للدهشة كمشهد الواحات فكما يقول الفرنسي أنطوان دو سانت: «ما يجعل الصحراء جميلة هو أنها تخفي واحة ما في مكان ما» أو التيه وضياع البوصلة بين الكثبان الرملية والجبال. أيضاً الصحراء رغم محدودية العناصر التي تحتويها إلا أنها قادرة على خلق صور بصرية مذهلة متنوعة ومتغيرة بتغير الوقت والمناخ فالصحراء في يوم شديد الحرارة تختلف عنها في يوم مطير وهي في النهار مختلفة عنها تحت ضوء النجوم والقمر، ناهيك عن السراب الذي يضفي على كثبان الرمال غلالة تزيدها جمالاً وتزيدنا عطشاً وتوقاً للارتواء، هذا السراب الذي يمكن توظيفه في معاني الخيبة والانتظار والعطش والوهم ضمن السرد السينمائي.
لا يمكن الحديث عن الصحراء العربية والسينما دون أن تستحضر الذاكرة فيلم لورنس العرب الذي يتناول حياة توماس لورنس صاحب أعمدة الحكمة السبعة وقام بإخراجه المخرج ديفيد لين عام ١٩٦٢، ومن بطولة عمر الشريف وأنتوني كوين والذي تم تصوير أجزاء كبيرة منه في صحراء وادي رم التي صور فيها أيضاً المخرج ريدلي سكوت فيلم المريخي.
لكن المناظر الأكثر سحراً وجاذبية في فيلم لورانس العرب تم التقاطها في منطقة جبال الطبيق وهي المنطقة الحدودية بين المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية وقام ببناء مدينة تحاكي مدينة العقبة في أحد الشواطئ الإسبانية.
تبدو محمية الطبيق والتي تقع في شمال غرب المملكة وتبلغ مساحتها ١٢١٥ كم٢ أرضاً تستحق أن يتعرف عليها العالم من خلال سحر الكاميرا، فهي من الأراضي النادرة التي لا تزال الوعول وظباء الريم تعدو بين أوديتها وكثبانها، ومن المفارقات أن الصورة الأكثر شهرة بين الرحالة الغربيين عن الشرق وسحره لرجل بدوي يدعى مناحي الرويلي يحمل في يده اليسرى الفهد العربي وفي اليمنى البندقية كانت في جبال الطبيق عام ١٩٢٦، هذه الصورة التقطها المستشرق الألماني كارل رسوان في رحلته الاستكشافية لشمال السعودية.
في السينما السعودية كان حضور الصحراء واضحاً وطاغياً رغم أن حضورها كان متأخراً مقارنة بالمدينة في بداية التجارب السينمائية السعودية، ففي عام ٢٠٠٦ قدم عبدالله العياف فيلم السينما ٥٠٠ كم والذي يدور حول أصدقاء يقطعون المسافة من الرياض للبحرين لحضور عرض سينمائي، الصحراء هنا كانت رمزاً للبعد والظمأ النفسي والقلق والفوضى خصوصاً في المشاهد التي كانت فيها الجمال تعبر الطريق وسط السيارات، وفي عام ٢٠١٧، قدم الإخوان قدس فيلماً بعنوان لافت لا يمكن نسيانه وهو فيلم (ومن كآبة المنظر) وذلك لأن العنوان جزء من دعاء السفر الذي يرافقنا في ترحالنا، يروي الفيلم قصة تحطم طائرة في السبعينات ومحاولة ركابها النجاة وسط الصحراء، التي تشكل تحدياً واضحاً واستفزازاً للشخصيات، كانت الصحراء ببساطة الاختبار وعبرها نرى صراع الفرد مع ما حوله.
خلال الشهر الماضي بدأ عرض فيلم ناقة للمخرج مشعل الجاسر على إحدى المنصات الشهيرة، الفيلم بداية من عنوانه وحتى نهايته هو جزء من علاقة الإنسان في الصحراء، بكل التناقضات التي تحملها من خوف وبهجة وقلق ونجاح وسرقات وعنف وشهامة، كانت عدسة مشعل قادرة على إبراز هذه التناقضات من خلال التلاعب بالزمن وزاوية الكاميرا ومساحة الكادر.
لا يمكننا حصر واختزال سحرية المكان في السعودية على الصحراء بكل ما تحمله من طبيعة وعادات وملامح قاطنيها وربما أساطيرهم، فسواحل البحر الأحمر بتنوعها وجمالها وواحات الأحساء وجبال الحجاز والمدن التي تجاور السحاب في الجنوب قادرة على أن تروي الكثير، فمثلاً تخيل معي تجربة معالجة درامية لرواية الشيخ والبحر لأرنست هيمنجواي أو ذئب البحار لجاك لندن حيث تكون جزر فرسان هي أرض الحدث، كيف ستبدو الشواطئ الساحرة وقلعة الجرمل وبيت الرفاعي في رواية الحكاية؟ ماذا لو أن المخرج نسج حكاية من باب المسجد النجدي في فرسان، ذلك الباب البني الغارق في غيمة من البياض.
استغلال هذه الأماكن في التصوير، لا يقتصر تأثيره على حضور المملكة في صناعة السينما لكنه قادر على خلق وصناعة مناطق جذب سياحية من خلال الفن الدرامي والسينمائي، هذا النوع من السياحة مشهور بين محبي الفن السابع ففي مدن مثل روما وباريس ونيويورك توجد العديد من الرحلات لأماكن التصوير المشهورة بالإضافة إلى قوائم بأهم الأماكن التي تم تصوير أشهر الأعمال العالمية فيها والتي تحتوي عربياً على وادي رم في الأردن وواحة مطماطة التونسية التي لم تكن معروفة للعامة قبل فيلم حرب النجوم، والتي ساهم بالترويج لها سياحياً. ولأن للسينما أثراً كبيراً في خلق الصورة المتخيلة عن الآخر وهي من أهم أدوات القوة الناعمة والتأثير في ذهنية الآخرين.
هذا الثراء والتنوع الجغرافي في المملكة مع الطبيعة البكر التي تنتظر عدسة محترفة لاقتناص اللحظة بالإضافة إلى وجود تسهيلات مقدمة لصناع الدراما والسينما المحليين والعالميين ودعم على عدة أصعدة كفيل بأن يسهم بجعل السعودية ضمن خيارات المخرجين العالميين في رحلتهم للبحث عن مواقع التصوير.