مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

الاستثمار السينمائي مــن منظــور المملكــة العربيــــة السعوديـــــة

خطط التنمية المستدامة لا تتوقف لدى أفق الاستثمارات المعتادة في مجال الاقتصاد والصناعة، هكذا تخطو المملكة العربية السعودية بخطى تعكس مفهومها المغاير نحو البناء والتنمية، أدركت من خلاله أن النهوض ببلادها وسط عوالم تحيطها مزيد من التطورات التكنولوجية السريعة لابد أن يقابلها تطور يحمل مفهوماً آخر للنهوض ببلادها، لتصبح في غضون سنوات لا تتعدى العقد الواحد تحمل لواء الريادة والقيادة فيه، إذ تؤكد من خلاله أن صناعة الترفيه والاهتمام بقطاعات الفنون المختلفة وتحديداً صناعة السينما هو الاستثمار الطموح الذي تراهن عليه والذي سيجعلها مع حلول عام 2030 مركزاً محورياً وسط دول العالم في هذا المجال.
خاضت المملكة العربية السعودية معركة شرسة على مدار عقود زمنية طويلة حاولت من خلالها تحطيم كثير من التابوهات التي حرمتها من فرصة التواصل مع الآخر وخلق آفق أكبر للإبداع إلى أن جاءتها فرصة الانطلاقة الحقيقية بعد أن أشعلت شرارة التنوير التي باتت تجوب أرجاءها خلال السنوات الأخيرة، لتنطلق نحو مرحلة جديدة ترفع شأن الطموحات المتوقعة من أبناء الدولة وخارجها، ليصبح الهدف الآن الذي بدأت المملكة بالفعل تحقيقه على أرض الواقع أن تكون مركزاً لصناعة السينما في منطقة الشرق الأوسط.
معركة إعادة تشكيل الوعي الثقافي
تشير التجربة العملية إلى أن المعركة التي خاضتها المملكة العربية السعودية ولازالت تعمل فيها بكل طاقتها أكبر من فكرة كسر تلك التابوهات التي نعلمها جميعاً، ولكن التحدي الحقيقي يتمثل في أمرين، الأول وهو نجاحها في استعادة الشباب الذي تأثر بالسينما العالمية وارتبط بها، فليس من السهل أن تعيد تشكيل الوعي الثقافي والفني لفئات عمرية من المؤكد أن أعمارها تجاوزت الثلاثين عاماً على الأقل بعد أن تعودت على السينما الأجنبية أو التي يمكن وصفها بـ(المعلبة) سواء تلك التي تأتيها من المجتمعات الشرقية أو نظيرتها الغربية.
أما الأمر الثاني يتمثل في العمل على اجتذاب أصحاب الخبرات من الشباب السعودي من الخارج، والذي خرج من بلاده باحثاً عن طموحه وشغفه في مجال صناعة السينما وهي نقطة شديدة الأهمية تعمل عليها المملكة العربية السعودية من أكثر من جانب لعل أبرز ما أحدثته في هذا الصدد ممثلاً في إقامة مهرجان البحر الأحمر السينمائي والذي أصبح في غضون ثلاثة أعوام فقط واحداً من أهم مهرجانات المنطقة العربية، نظراً لحالة الحراك الفني والسينمائي الكبيرة التي يحدثها في كل عام ويجمع من خلالها الكثير من النجوم وصناع السينما حول العالم، بالإضافة إلى فتح أبوابه نحو تقديم سوق خاصة للمشاريع السينمائية في مراحلها المختلفة (قبل التطوير ومرحلة التنفيذ وما بعدها) ما يجعل المملكة مركزاً لصناعة السينما العربية خصوصاً وأن المشروعات المقدمة أصبحت مفتوحة أيضاً لتجارب الآخرين من خارج أبناء المملكة.
وهنا لدينا وقفة كبيرة أمام محطة مهرجان البحر الأحمر وتحديداً نحو الأثر المادي والمعنوي الذي يحققه بنجاح من عام إلى آخر، وآخرها دورته الثالثة التي اختير بها 23 مشروعاً قيد التطوير والإنتاج ليشاركوا ضمن سوق مشاريع المهرجان منهم 11 مشروعاً لمخرجين سعوديين وعرب، و12 مشروعاً لمخرجين من أصول أفريقية وعربية، وبجوائز مالية ضخمة تنقسم إلى أكثر من فئة منها: جائزة تطوير بقيمة 35,000 دولار أمريكي، جائزة التطوير الخاصة من لجنة التحكيم بقيمة 25,000 دولار أمريكي، جائزة إنتاج بقيمة 100,000 دولار أمريكي، بالإضافة إلى جائزتي إنتاج لمشروعين مختارين من معمل البحر الأحمر بقيمة 100,000 دولار لكل مشروع أحدهما لمشروع سعودي، والآخر عربي.
وبهذا الدعم المالي الكبير الذي يفرضه سوق مهرجان البحر الأحمر السينمائي منذ دورته الأولى والتي لم تنطلق بشكل رسمي عام 2020 بسبب جائحة كورونا، تؤكد المملكة العربية السعودية أن السينما بالنسبة لها هي صناعة مهمة وقائمة بذاتها تستهدف من خلالها فرض تواجدها الفني والثقافي على الساحة العربية بل العالمية من جانب، وترى فيها استثماراً لأموالها ولكثير من المواهب الشابة من المخرجين وصناع السينما سواء ممن يتواجدون بالمملكة أو خارجها. من جانب آخر، هذا الدور الذي بدا واضحاً من الدورة الأولى التي على الرغم من عدم اكتمالها بشكلها الصحيح بسبب الجائحة إلا أن التمسك بفكرة العمل على دعم المشروعات السينمائية مع صناعها الشباب وبإشراف من أهل الخبرة كان هدفاً أساسياً لدى القائمين عليه من أجل أن تصبح المملكة العربية السعودية مركزاً لصناعة السينما بالمنطقة.
الخطوات التي تسير بها المملكة العربية السعودية في دعم صناعة السينما تتخذ كثيراً من المهام الجادة التي تحاول فيها التعرف على ثقافات وإنتاجات الآخر، فالفكرة لا تتمثل في مجرد استثمار لصناعة رابحة بل إن هناك تخطيطاً منظماً يسير بخطوات مدروسة بعناية في أكثر من اتجاه، وفي مقدمة ذلك التوسع في تأسيس دور العرض السينمائية، فمنذ خمس سنوات كانت المملكة تخطو نحو افتتاح أول دار عرض سينمائية والتي افتتحها فيلم Black Panther أو النمر الأسود، كانت تلك الخطوة هي النواة التي وضعت المملكة خطتها عليها خلال العقد الحالي والذي تستهدف بنهايته تأسيس أكثر من مئة دار عرض سينمائية، وهي مسألة شديدة الأهمية تحمل معها كثيراً من الثمار الإيجابية، من بينها إعادة تشكيل الوعي لدى فئات عمرية لم يكن للترفيه والتثقيف الفني تواجد في حياتها، كما أنها تحتضن نشئاً جديداً من أجيال الأطفال والمراهقين الذين يعيشون الآن في رحاب تجربة فريدة من التنوير على مختلف المستويات مما يمنحهم فرصة الاطلاع على ثقافات وتجارب أخرى من مختلف دول العالم.
والحقيقة أن فكرة تأسيس أكثر من دار عرض سينمائية بمختلف أرجاء المملكة يكسبها ميزتين مهمتين الأولى أنها ستزيد من حماسة صناع السينما السعوديين لصناعة أفلام تعرض داخل بلادهم، فصحيح أن المشاركة بالأعمال السينمائية في مهرجانات عالمية خارج حدود الدولة تبقى نقطة مضيئة في رحلة صانعه لكن تبقى مسألة العرض داخل حدود الدولة صاحبة استثناء واحتفاء خاص لديه، أما الجانب الآخر في هذا الأمر يتمثل في إطلاع المجتمعات الغربية على قصص وحياة المجتمع السعودي، وكيف هو التفكير الآن لدى الشباب، وهي مسألة مهمة تزيل الصورة الظلامية التي عرفت عن المملكة في العالم الخارجي، فهناك كثير من الموضوعات والقضايا التي تخص المرأة والعائلة من المؤكد أنها في صندوق أفكار صناع السينما السعوديين.
ولنا في هذا الحديث وقفة مع واحد من أهم التجارب السينمائية التي خرجت مع بداية مرحلة التنوير وتأسيس هيئة الترفيه عام 2016 وهو فيلم (بركة يقابل بركة) للمخرج محمود الصباغ والذي عرض للمرة الأولى في فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، كما تم ترشيحه لتمثيل المملكة في مسابقة الأوسكار، فرغم ما كان يناقشه الفيلم حينها من انغلاق للمجتمع السعودي وما يعانيه الشباب الناقمون على ذلك لكنه حقق أصداء واسعة من النجاح، لذلك فإن صناع السينما السعوديين مطالبون الآن بتقديم أعمال تحكي تجاربهم الحالية وكيف اختلفت حياتهم في المرحلة الآنية حتى يتركوا أثراً في مجتمعات أخرى.

ذو صلة