مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الدبلوماسية الرياضية

بين المستطيل الأخضر، وصحراء السياسة وجحيمها، وبراعة الفكر ونبوغ العقول، يقف التعصب الرياضي كظاهرة تشدد تحملها المشاعر الجياشة، في واقع الحال تحولت إلى عقيدة فرضت كينونتها على العالم، ولن نستطيع تجاهل تصنيفها كتحول عقدي، بل يجب أن نمعن النظر في تحليل مكاسبها التي باتت اللغز الأساس والشاغل لدول العالم، فالذي يملك مهارة إحراز الهدف في الوقت بدل الضائع، هو من يملك صُنع القرار وبيده قلب موازين الأمور، فلا شك أن لكُرة القدم والرياضة إمبراطوريتها في الحياة، واستطاعت الرياضة بسحرها، لا سيما كرة القدم، فرض سيطرتها وأثرها الاقتصادي والاستثماري، بل والسياسي على الدول والمجتمعات والشعوب، لتصبح لعبة كرة القدم الملاذ الترفيهي الأكثر شعبية وإثارة وتأثيراً بين كافة المجالات الأخرى، فلم تعد الثقافة بحفلاتها وأمسياتها وجماهيرها ونخبها هي المجال الأكثر شعبية ودخلاً، كما لم تعد السياسة بكل أدواتها ووسائلها صانعة القرار بمفردها في دواليب عمل تطور الدول، بل الرياضة وكرة القدم بشعبيتها الواسعة وإيراداتها الكبيرة هي من أدوات صنع القرار والتي تسيطر على اقتصاد العالم وتقود مصير الدول.
وفي تأثيرها على صنع القرارات وعلاقتها بالبعد السياسي، نجد أن الدبلوماسية الرياضية قد تسمو فوق الاختلافات الثقافية، واستخدمت الرياضة كوسيلة سياسية أقوى وناجعة في توجهات كثيرة، ولها آثار إيجابية وسلبية على مر التاريخ، نجد من قبل استخدمت لعزل جنوب أفريقيا فحققت إصلاحاً كبيراً في الهيكل الاجتماعي للبلاد، وتعد أبرز سبيل في (نظام الفصل العنصري)، فبينما قد تتسبب الإثنية والعرق في انقسام فإن الرياضة تساعد في جمع الاختلافات.
من هنا يبرز الانتماء الرياضي كأساس أيديولوجي يُكرس للتعصب والولاء للأندية والأوطان، وظل شكل الانتماء في حالة تخلق وازدهار ونماء مستمر، حيث تتقن الجماهير أساليب التعبير بطرق شتى تجمع بين الشغف والوله والتعصب للنادي أو اللاعبين، وهي جدلية لم تحسم بعد، هذا ما يدلل على أن أيديولوجيا الرياضة باتت الأقوى تأثيراً، وعشاق كرة القدم لا يعرفون التراجع عن التمسك بذلك الشغف اللا محدود، كما لا تستطيع دول العالم تجاوز هذا المجال والانحراف لآخر مستقبلاً لأثره الاقتصادي الكبير من بين المجالات الأخرى. وتعد الرياضة ضمن مصادر مدخلات الاقتصاد ذات الإيرادات الرابحة بلا منازع، لذا بات الاستثمار في المجال من أكثر مصادر الربح في العالم، وتشير الإحصاءات في العام الماضي 2022م أن المجال حقق إيرادات بلغت نحو (500 مليار دولار) وفقاً لأبحاث أجرتها شركة (statista) المتخصصة في الأبحاث، وهذا يشير بوضوح إلى التحول الذي حققه المجال من هواية إلى صناعة مؤثرة في الاستثمار.
كما توصلت أحدث الإحصاءات العالمية أن حجم الاستثمار العالمي في الرياضة تجاوز (750 مليار دولار) وصناعة الترفيه فيه بلغت نحو (2000 مليار دولار) على مستوى العالم، ويعادل الاستثمار الرياضي في اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية ضعف إنتاج صناعة السيارات ونحو ثمانية أضعاف صناعة السينما هناك، بواقع (220 مليار دولار) لهذا المجال، فبات الاستثمار الرياضي بمثابة الكنز المدفون الذي يقود صناعه إلى إمعان النظر في التركيز حوله.
وتمضي مؤشرات تطور الاستثمار البديل هذا في الوطن العربي إلى الانفتاح الكبير واللافت لدى بعض الدول مؤخراً مثل: (قطر، السعودية، مصر... وغيرها) كأهم بلدان برز فيها التطور الفعلي الملحوظ، وتمضي الدول العربية إلى تحقيق طفرة مستقبلية كبيرة في الشرق الأوسط، وخير شاهد لهذا (كأس العالم - قطر) الذي عكس فيه الوطن العربي قدراته واستطاع رسم ملامح مستقبل الرياضة وكرة القدم على وجه التحديد في الوطن العربي، فثمة نهضة وريادة سيشهدها هذا المجال مستقبلاً بدأت ملامحه من قطر، وتمضي المملكة العربية السعودية لتحقيق تطلعات هذه الجغرافيا، بخطف هدف تاريخي في الوقت بدل الضائع لتروى ظمأ الأمواج البشرية الهادرة والمتعطشة لهتاف النصر، والشاهد في هذا الأمر أن هناك مرحلة جديدة يشهدها المجال السعودي الرياضي، تحمل ما تحمل من معايير ومشاريع نابعة عن (رؤية المملكة العربية السعودية 2030م) ضمن إستراتيجيتها التنموية والتي اتخذت فيها المملكة قرارات تمكن الأندية من استثمار الأراضي المخصصة لها، كخطوة مكملة للرؤية التنموية.
من خلال القراءة لإحصائيات التطور نجد أن القطاع الرياضي في المملكة العربية السعودية حقق طفرات خلال الأعوام الماضية، جراء المتغيرات التي تمت عليه، خلال عامين شهد هذا القطاع النماء والإسهام في الناتج المحلي الإجمالي بمعدل ارتفاع من (2.4) - (6.5) مليار ريال، بزيادة تقدر بـ(%170)، كناتج حصاد للقوانين التي أفرزتها رؤية المملكة، وما كان لهذا الإنجاز أن يتحقق دون إدخال الرياضة ضمن إطار الخطط التنموية والاقتصادية.
فهذا كله يقود إلى أن مستقبل العالم يرتكز حول الاستثمار الرياضي، لذا تتكامل الرياضة والسياسة كإحدى الأدوات البارزة في صناعة قرارات الدول، ويدل التطور المشهود على علو كعب الرياضة كمجال استثمار بديل، في القبض على زمام الأمور، لكون الرياضة أصبحت أحد أهم عناصر الحياة، فيأتي التداخل أو التصنيف بينها وبين الاقتصاد والثقافة والفكر والسياسة كعنصر لازم، بغير الواقع السابق الذي يجعلها من توافه الأمور غير الملزمة للفرد والمجتمعات في العهود السابقة، فمن هنا يتضح مستقبل الاستثمار اللازم وطفرته في الوطن العربي.

ذو صلة