فلعقودٍ متطاولة -غير قابلة للحصر- كانت معظم الأواني المنزلية مصنوعة من النحاس, وكانت رائعة الجمال، فائقة البريق, لا غنى عنها في كل بيت قديم أو حديث التكوين. ففي الأرياف العربية عموماً، والمصرية خصوصاً (وحتى ستينيات القرن الفائت) كان النحاس من مقام الذهب, خصوصاً عندما تنعقد زيجة جديدة، فيكون التفاوض على النحاس شأن الحديث عن الذهب: (كم قنطاراً من النحاس ستحضره العروس، وكم جراماً من الذهب ستكون الشَبكة المُهداة؟). لذا كثيراً ما كانت العروس تتباهى بنحاسها بين أهل زوجها، وبين قريباتها، وبين قريناتها.
وتعددت أشكال النحاس، منها ما يستخدم لطهي وتقديم الأطعمة، والأشربة (حلل، وأطباق، وملاعق، وصوان، وقدور الفول، وأباريق الشاي، وأطقم القهوة.. إلخ). وهذه الآنية كانت توضع على نار الحطب، وتساعد في سرعة توصيل/توزيع الحرارة على كامل الوعاء. مما يُكسب الطعام نكهة خاصة، ومذاقاً مميزاً. ومنها ما هو مخصص لغسيل الأيدي بعد الطعام (أباريق، وطسوت)، ولغسيل الملابس (طشوت كبيرة).. إلخ. كذلك المباخر، والمصابيح التى تشعل بواسطة الزيت أو الكيروسين. وبعدد وأشكال هذه الأواني يقاس ثراء الأسرة أو فقرها. وكانت الأسر إذا ما مرت بضائقة مادية باعت بعضاً من نحاسها.
ولمّا كانت هذه الأواني مُعرضة للأكسدة، والصدأ (الزنجرة/الزنجار)، مما يؤثر على سلامة الأطعمة، والأشربة المنقولة/المحفوظة بها, ولما كانت الأسر، حريصة كل الحرص، على أن يكون للنحاس دوماً بريقه المعهود كبريق الذهب, مُحافظة على صحتها، ووجاهتها, وإشعاراً للضيوف بنظافة ورونق البيت؛ استلزم كل ذلك، وغيره -والحاجة أم الاختراع- وجودَ حرفة نافعة مرغوبة، وهي مهنة النحاسة/تبييض النحاس. واستلزم، كذلك، وجود محترف ماهر يجلو عنها صدأها، ويُعيد لها بريقها الساحر اللامع، فتبقى عصية على تقلبات الزمن، والاستعمال؛ فظهر مُبيضو النحاس ليحترفوا حرفة من المهن الصعبة/الشاقة، لكنها مفيدة، ومطلوبة، ومزدهرة.
الرقص على الجمر
عبر أقطارنا العربية وجدت أسواق النحاسين, والزبائن هم كل من يستعمل الأواني النحاسية، كصانعي الحلويات والطباخين في المطاعم؛ فهي سريعة توصيل الحرارة والإنجاز في عملية الطهي، وتتحمل القساوة خلال الاستعمال الشاق, ولذلك هي مفيدة طالما كانت نظيفة؛ لذا مازال هناك محال كثيرة وعائلات لا تستخدم إلا الأواني النحاسية في طبخها, وتعتمد عليها بالدرجة الأولى. واعتمدت طريقة تبييض النحاس على وضع الآنية في حفرة موجودة في الدكان, وفيها يوضع مسحوق الطوب الأحمر/الحجر الرملي، ومادة الجلد, ويتم فرك الآنية لحين تخلصها مما تراكم عليها, ويستغرق هذا وقتاً وجهداً كبيراً، مع فرك الآنية حتى يصبح لونها أحمر, مما يدل على أنها أصبحت نظيفة، وخالية من الصدأ والشوائب.
كما وجد الحرفيون الذين يتجولون بين القرى والنجوع، وفي ساحات الأسواق الأسبوعية والشهرية. ويمكثون أسبوعاً أو يزيد, يتسمون بالرشاقة، والنشاط البالغ. وما أن يحطون رحالهم، ويُعلن عن قدومهم، حتى تتدافع إليهم جموع النسوة حاملات كل ما لديهن من أوعية علاها الاخضرار المائل للزرقة/جنزرة بلون الزرنيخ. ويشعلون النار التي لا تخمد ليلاً أو نهاراً، ويضعون فوقها إحدى الأواني حتى تغدو حمراء لتسيل القصدير. فيأخذها جانباً ويلقي داخلها بالنشادر والقصدير. ثم يقفون بداخلها بأقدامهم العارية. وعادة ما يستندون إلى جدار، أو يعتمدون على عصا/عكاز. ثم يبدؤون في الرقص، فيلفون خاصرتهم، وأرجلهم بسرعة (في حركات إيقاعية منتظمة)؛ وذلك قبل أن يبرد الإناء، ويلتصق القصدير في جانب منه، فيكون عليهم معاودة المحاولة من جديد, وهو ما لا يتسع له وقتهم الشحيح.
وفي قلب الإناء النحاسي الملتهب لا ينم عنهم علامات تألم أو تأوه, بل في معظم الأحيان، يدندنون بغناء شجي، من طبيعة عملهم، ويتناغم مع حركات أجسامهم, حتى إذا ما فرغ أحدهم من قطعة، قفز قفزتين سريعتين تعلنان، بكل المهارة والحبور، انتهاء العمل بها, وهي إشارة لمساعده كي يحضر إليه قطعة نحاسية جديدة. وفي مقابل ذلك (الرقص على الجمر/الرقص وسط النار) تمتلئ الجيوب بما أرادوا من مال، ويسعون للمزيد في قرى أخرى. لكن أسعار التبييض تختلف من بلد لآخر، وحسباً لكمية المواد المستخدمة في ذلك. فمع ارتفاع أسعار المواد المساعدة يتم رفع تكلفة التبييض. لكنها -عموماً- ليست بالأسعار العالية, بينما يكبر السعر عندما تكون الآنية أكبر، ودرجة نظافتها أسوأ. لكن في عراقة، وحرفية، وثبات؛ حافظ مُبيضو النحاس على شكل حرفتهم، وأدواتها على الرغم من التطور الذي طرأ عليها. فقد أستبدل القصدير بالحجر الرملي، والجاز (لإشعال النار) بالفحم. ودخل الأسيد/حامض الكبريتيك المركز مادةً منظفة.
سر المهنة
أدواتهم بسيطة فهي: فرشاة معدنية، مطرقة خشبية، ومطرقة معدنية، وقطن لمسح النحاس بعد تعريضه للنار، والقصدير والأسيد/حامض الكبريتيك المركز، والرمل. لكن الجانب البشري هو الأهم, إذ تعتمد مهنة المبيض على الخفة والسرعة والرشاقة, فضلاً عن الخبرة التي يجب توافرها, إذ يجب الانتباه إلى الآنية كيلا تحترق حين وضعها على النار. لأن مادة النحاس إن احترقت فإنها لا تنظف، وإن بردت فهي لا تنظف أيضاً. ويقدر وقت تبييض الآنية بحسب درجة اتساخها، فهناك آنية تحتاج لتعريضها للنار وفركها لمدة أطول من غيرها، وهناك أوانٍ يتم تبييضها بسرعة. ويجب الاعتناء بالأواني المنزلية النحاسية حيث يجب تبييضها -كما يقول مبيضوها مرة كل عام على الأقل. وفي الأعراف الشعبية يقولون: إن مهنة مبيض النحاس يهرب منها الشيطان (فهو مخلوق من نار). والمُبيض يعمل طوال الوقت وسط حرارة النار، والقصدير، وماء النار، والرمل.
وصفات تبييض منزلية
هناك بعض الوصفات المنزلية التي تستخدم لتلميع الأواني والأسطح النحاسية وتتلخص في: مقدار من الملح، وقطرات من الخل، مع الخلط حتى يذوب الملح. وتطلى الأواني النحاسية. ثم تفرك بقشر الليمون الحامض, وتمسح بقماشة بيضاء نظيفة. وأحياناً تغلى الأواني النحاسية مدة ربع ساعة في ماء مذاب فيه قليل من الرماد أو البوتاس, ومن ثم تجفف جيداً، أو تجلى مباشرة بشرائح الليمون مع الملح. أو تغسل الآنية بالماء والصابون, وتزال أي بقع عن سطحها بواسطة الملح والخل وعصير الليمون, ثم تغسل في الحال ليزول أثر الحامض عنها, ويدعك سطحها الخارجي بقطعة قماش مع قليل من مستحضر تلميع النحاس (بالأسواق). وهكذا يتم الحصول على أوانٍ وأسطح براقة، ولامعة، ونظيفة، وجميلة.
في الختام: هل ما تزال في منازلنا أوانٍ نحاسية على الرغم من دخول (الألومنيوم/ التيفال، والصاج/الستانليس ستيل، والبيركس، والبلاستيك..) للأسواق بكثافة؛ كونها أخف وزناً، وأرخص ثمناً، ولا تحتاج إلى تبييض. وعظمت تلكم المكانة، واتسعت آفاقها فاكتسحت الأواني النحاسية بأوانيه اللامعة الخفيفة. واتجه بعض المبيضين إلى تجارة الأواني الجديدة. وأُعفيت ربة المنزل من مبيض النحاس، وعمله الدائب الدوار في صحن البيت أو في الأسواق. بين الرقص في الحلل وإيقاد النار، ومطاردة الدخان. كما أعفاها من الزنجار والطعام الفاسد، الذي لما لم يمض على طهيه يوم أو بعض يوم. إلا أن النحاس يبقى مطلوباً لأغراض شتى كاللوحات، والمشغولات، والتحف، ودلال القهوة، والمجسمات، والديكورات، والمزهريات النحاسية.. إلخ. وما دام هناك نحاس فلا بد من أن يكون هناك مُبيض له, و(شيء لزوم الشيء) -على حد التعبير الشهير لنجيب الريحاني في أحد أفلامه. ولعل مبيض النحاس، ومهنته وإن أخذت أبعاداً، وتطورات أخرى تبقى عصية على الانقراض.