مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

سجالات

تعد القضايا الفكرية والثقافية من أهم القضايا التي تحرك سواكن المجتمع، وتثريه بالحوار والنقاش. ومجتمعنا السعودي واحد من مجتمعات العصر الحديث الذي أصبحت له همومه وموضوعاته التي يتناقش حولها في مجالسه الخاصة والعامة، وهو ما أحببنا أن ننقله إلى قارئنا الكريم.

د. زكي الميلاد:
 نحن بحاجة إلى ضرورة استعادة مفهوم النهضة في الفكر السعودي المعاصر
نحن ما زلنا في طور النقاش الجدلي..
والنقاش الجديد المنبعث حول الفلسفة لن يشكل تياراً
إن أثر هذه التغيرات سيظل قائماً ومستمراً في حركة تشكل الفكر السعودي
الخطابان الديني والثقافي في مجالنا السعودي يجب أن يكتشفا نفسيهما ويتعرفا على بعضهما
الخطاب النهضوي لا يمثل هاجساً كبيراً في الأجناس الأدبية وكذلك في خطاباتنا الثقافية وحتى في الخطابات الدينية
من الممكن أن نختلف فيما إذا كانت هناك أزمة هوية عندنا أم لا

د. عبد الله البريدي:
أتعجب من ظاهرة تمرير الكتب الضخمة التي يزعم بأنها كتب فلسفة
الفلسفة في السعودية لا تمثل تياراً في الوقت الحاضر
الوظيفة الكبرى للفلسفة هي تفتيت التعقيد والخلوص إلى الجوهر.. ولكننا فشلنا حتى الآن في تطوير أدوات لهندسة ذلك الحراك وعقلنته
فصل الثقافة عن الدين أو اختلاط الديني بـالثقافي في المجتمعات المسلمة أمر إشكالي
الخطاب النهضوي لم يغب تماماً.. مع عدم قناعتي بمستوى نضجه فلسفياً وفكرياً
مسألة الهوية مظلومة في مجتمعنا كما الخصوصية فقد أحالها قوم إلى كل شيء

الفلسفة السعودية
الفلسفة كتيار ناشئ في السعودية كيف يمكن أن تكون في المستقبل؟ وكيف يمكن أن يتلافى ما وقعت فيه التيارات الأخرى من أخطاء أو هفوات على الساحة؟
د. زكي الميلاد: لعله من المبكر القول إن الفلسفة باتت تمثل تياراً ناشئاً في مجالنا السعودي, ولا أظن أننا وصلنا إلى هذه الوضعية, وبالشكل الذي يعطي لها وصف التيار والتيار الناشئ, وما يقتضيه هذا الوصف من شروط وجودية وعلمية. فنحن ما زلنا في طور النقاش الجدلي, وعلى صورة النقاش الكلامي القديم الدائر حول حلية الفلسفة أو حرمتها, وهو النقاش المتأثر بالهجمة العنيفة التي شنها الغزالي على الفلسفة في القرن الخامس الهجري, وبالهجمة العنيفة الثانية التي شنها ابن تيمية على الفلسفة والمنطق في القرن الثامن الهجري.
ويضيف الميلاد أننا قد نكون المجتمع الوحيد من بين المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة, الذي ما زال يتعاطى مع الفلسفة بهذه الطريقة الحذرة والمشككة, والمتأخرة للغاية.
ويرى الميلاد أن النقاش الجديد المنبعث حول الفلسفة لن يشكل تياراً, ولن يكون له مستقبل ما لم يتصف هذا النقاش بالديمومة والاضطراد من جهة, وبالفاعلية والتجدد من جهة أخرى, وما لم يتجلى في أشخاص وكتب ومؤسسات, في أشخاص رواد ومؤثرين, وفي كتب رائدة ومؤثرة, وفي مؤسسات تنهض بهذه المهمة, وهذا ما ينقصنا فعلاً, لهذا فإن الحديث عن مستقبل الفلسفة عندنا ما زال يكتنفه الغموض!
د.عبدالله البريدي: مع الميلاد جزئياً، حول هذه القضية، فهو يعتقد بأن الفلسفة في السعودية لا تمثل تياراً في الوقت الحاضر، ذلك أن (التيار الفلسفي) له شرائط ومواصفات، فمن ذلك أن يتوافر التيار على إطار مرجعي يُحتكم إليه، وإطار منهجي ومفاهيمي يُكسب (العقل المتفلسف) دربة وقدرة على الظفر بقدر كاف من الصبغة الفلسفية (الإبداعية)، كما أن التيار لا بد أن يكون له رموز فكرية, تتميز بالقبول, وتبني أفكاراً مقبولة جماهيرياً، ومن الخداع أن تتوهم أن لديك تياراً أو حتى قابلية لصناعة تيار وأنت متورط بـ(خلفية فلسفية بلهاء) تردد المقولات الفلسفية التي صنعها فلاسفة آخرون لمشاكل معينة في ضوء أوضاع محددة... تلك الشرائط والمواصفات يحول بيننا وبينها في المجتمع السعودي فئتان: فئة تحرم علينا الدخول في الفلسفة ابتداء، وفئة تحرم علينا الإبداع في الفلسفة سيراً وانتهاء، وبحسب الفئة الثانية يتوجب علينا جرجرة العربات الممتلئة بالأفكار الفلسفية والتنقيب فيها و(التتلمذ البليد) عليها، ويأكلني العجب من ظاهرة تمرير الكتب الضخمة التي يُزعم بأنها كتب فلسفة والفلسفة منها براء، ذلك أن الوظيفة الكبرى للفلسفة هي (تفتيت التعقيد) و(الخلوص إلى الجوهر) بخلاف تلك الكتب التي تتجه بغباء إلى توليد تعقيدات متشابكة لا أول لها ولا آخر، وبطريقة تراكمية رأسية فوضوية أو منظمة، والتراكمية الرأسية هي من شأن العلم وحده وليس الفلسفة... وعلى الرغم من ذلك كله يأتي من يسوقها على أنها كتب فلسفة!
وفي الأخير يقول البريدي: الثقافة في المجتمع السعودي إن استطاعت أن تبدد تلك الأطروحات المهترئة فيمكن لنا أن نتفاءل بنشوء تيار فسلفي مستقبلاً؛ يعالج أدواء المجتمع السعودي المتراكمة والمؤجلة، مع توقعي بأن بعض (العقول المتفلسفة) قد تغادر صوب المشكل العام على المستوى العربي والإسلامي وتهجر المشكل الخاص في المجتمع السعودي لعدم اتصافه بمقومات الاشتغال الفلسفي الجاد، وهنا سنخسر الفلسفة ونظفر بسفسطة لا قيمة لها، مع توهمات كبيرة.

الحراك المجتمعي
المجتمع وبخاصة في العقد الأخير يعيش عدداً من التغيرات على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها, فما أثر هذا الحراك المجتمعي في تشكيل الفكر السعودي, وما النتائج المؤملة من هذا الحراك للوصول إلى تشكل فكري ناضج؟
د.زكي الميلاد: ما زال المجتمع يعيش ويتأثر بهذه التغيرات وعلى المستويات كافة, ويبدو أن هذه التغيرات لن تتوقف, لكنها لن تكون على وتيرة واحدة, وستظل متفاوتة ومتأرجحة صعوداً وهبوطاً من وقت لآخر. وهذا يعني أن أثر هذه التغيرات سيظل قائماً ومستمراً في حركة تشكل الفكر السعودي, الذي كان بحاجة إلى هذه التغيرات لكي يتنبه إلى ذاته, ويحافظ على يقظته, ويلتفت إلى علاقته بالعصر والعالم.
ويرى الميلاد أن من النتائج المؤملة لهذه التغيرات, ولهذا الحراك المجتمعي ضرورة أن يحافظ الفكر السعودي على حيويته وديناميته, ويتلمس الحاجة الجادة إلى التجدد والتطور, وإلى بناء خطاب تواصلي ينفتح على المجتمع السعودي بكليته.
د.عبد الله البريدي: نعم يعيش المجتمع السعودي حراكاً كبيراً، ولكننا فشلنا -حتى الآن- في تطوير أدوات لهندسة ذلك الحراك وعقلنته، لاسيما أن البعد الفسلفي والمنهجي في الحركة الثقافية السعودية ضعيف، ولم نتوجه إلى تشكيل أطر فكرية متماسكة، كما أننا مجتمع مصاب بانخفاض منسوب (الصدق القيمي) الناتج من الأطر الأخلاقية ومنسوب (الصدق المدني) الناتج من الأطر التشريعية، مما يفوّت علينا فرص الهندسة الاجتماعية الذكية التي تتضمن – ضمن أشياء أخرى – امتلاك قدرة فائقة على التصحيح الذاتي لمنظومة التفكير والسلوك، وما لم نصحح ذلك الوضع فلا يمكن لنا أن نتفاءل بحركة فكرية تولد (عقيدة نهضوية) تبدد فيها مظاهر التخلف، والتي يقف على رأسها غياب المصداقية.. مع تشديدي وإيماني بأن أي مجتمع سيفشل ثقافياً ما لم يستجب لحقيقة أن (الثقافة هي صدق مُمنهج)، بشروطها واستحقاقاتها المنهجية والأخلاقية.

ديني أم ثقافي
ما المدى الذي يمكن أن يتقاطع فيه الخطاب الديني مع الخطاب الثقافي؟ وحتى مع الخطاب الفلسفي الظاهر حديثاً في الفكر السعودي, وما السبب في كون الخطاب الديني دائماً أحد أطراف المعادلة في الحوارات الفكرية؟
د. زكي الميلاد: كان من المفترض بعد هذه السجالات الطويلة والحادة بين الخطابين الديني والثقافي في مجالنا السعودي؛ أن يكتشفا نفسيهما, ويتعرفا على بعضهما, ويصلا إلى حالة من التقاطع لا أقل في بعض القضايا الأساسية, وتتوقف بينهما الخصومة الشديدة, وتأخذ حالة الهدوء فترة طويلة. لأن المفترض من هذه السجالات الطويلة أن تعرف كل طرف إلى الآخر, وبطريقة تقود إلى فهم الآخر والاقتراب منه.
ويوضح الميلاد بأن الخطاب الديني بعد هذه السجالات الطويلة كان يفرض منه أن يدرك حاجته إلى الثقافة, الحاجة التي تقربه من الخطاب الثقافي هذا من جهة, ومن جهة أخرى أن الخطاب الثقافي كان يفترض منه هو الآخر أن يدرك حاجته إلى الدين, الحاجة التي تقربه من الخطاب الديني.
ويضيف الميلاد، بقوله: تتبلور بتأثير هذه السجالات حالة جديدة يتلاقى فيها الخطاب الديني مع الخطاب الثقافي بالطريقة التي عبرت عنها في بعض كتاباتي بمفهوم المثقف الديني, وقصدت منه المفهوم الذي ينفتح على الثقافة والدين, بمعنى علوم العقل وعلوم الوحي, أو المعارف الإنسانية والمعارف الدينية, ويتخذ من الدين إطاراً مرجعياً في الانفتاح على الثقافة والمعارف الإنسانية. أما لماذا الخطاب الديني أحد أطراف معادلة الحوارات الفكرية دائماً, فذلك راجع إلى قوة حضوره, وشدة هيمنته, ولطبيعته السجالية والحجاجية, ولكونه يرى نفسه أنه صاحب السلطة.
د.عبد الله البريدي: فصل الثقافة عن الدين في المجتمعات المسلمة أمر إشكالي، كما أن اختلاط (الديني) بـ(الثقافي) أمر إشكالي أيضاً، والمسألة عويصة تصدع الرؤوس، وتحتاج إلى بسط ليس هذا مقامه.

هاجس النهضة
ماذا عن غياب الخطاب النهضوي عن قاموس كثير من الخطابات المختلفة والمتعددة في الفكر السعودي؟
د. زكي الميلاد: إن الخطاب النهضوي في الفكر السعودي لا يتجلى بذلك الوضوح الذي نراه عند المصريين مثلاً أو عند المغاربة أو في بلاد الشام والعراق, ويكفي للدلالة على ذلك أن مفردة الخطاب النهضوي ليس من المفردات السائدة بكثافة في مجالنا التداولي.
كما أن الخطاب النهضوي -بحسب وجهة نظر الميلاد- لا يمثل هاجساً كبيراً عندنا, ويمكن تلمس هذه الحالة في مستويات عديدة, فالخطاب النهضوي لا يمثل هاجساً كبيراً مثلاً في الأجناس الأدبية عندنا كالشعر والقصة والرواية, ولا يمثل هاجساً كذلك في خطاباتنا الثقافية, وحتى في الخطابات الدينية. والندوات والمؤتمرات والمحاضرات التي تعقد لا تتخذ من الخطاب النهضوي عنواناً لها, وهكذا في المجالات الأخرى. فهذا الوضع يلفت النظر بشدة إلى ضرورة استعادة مفهوم النهضة في الفكر السعودي المعاصر.
د.عبد الله البريدي: أعتقد أن الخطاب النهضوي لم يغب تماماً، ومع عدم قناعتي بمستوى نضجه فلسفياً وفكرياً، إلا أنه يمكن القول بأنه حاضر بشكل معقول لدى جملة من المثقفين السعوديين على مستوى التنظير والتعبئة الفكرية، غير أن ثمة ما يُضعف انتفاع المجتمع السعودي منه بشكل عملي، ومن ذلك (الشللية الطفولية) التي يتصف بها المشهد الفكري السعودي بامتياز لا نحسد عليه... ومن هذه الزاوية أقول بأن واقعنا بائس للغاية، ويجدر بنا أن نعترف بوجود التعصب الفكري ونتخلص من أدرانه... وما أجمل المثقف المنفتح بصدق لا بتزين، وكم نكن لهؤلاء المنفتحين من التقدير والاحترام، وكم نعول عليهم الكثير في دفع تروس النهضة وتحمل تكاليفها، بخلاف المتخندقين والمنتفعين، لا كثرهم الله.

الهوية الضائعة
ماذا عن أزمة الهوية التي يعيشها المجتمع السعودي؟
د.زكي الميلاد: من الممكن أن نختلف فيما إذا كانت هناك أزمة هوية عندنا أم لا! لكن الذي أراه مهماً للغاية في هذا الصدد هو ضرورة العمل على بناء الهوية الجامعة التي يرى فيها السعوديون على امتداد هذا الوطن أنها تمثل لهم ذاتاً وذاتية. وهذا ما حاولت التركيز عليه عند الحديث عن مسألة الخصوصية في ندوة (الهوية والعولمة في الخطاب الثقافي السعودي), التي نظمها في الرياض مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني في شهر جمادى الآخرة الفائت. في هذه الندوة اعتبرت أن السياق الصحيح لطرح سؤال الخصوصية, هو سياق البحث عن الذات وبناء الذات الجامعة المعبرة عن الهوية الجامعة التي تمثل إطاراً جامعاً لكل مكونات التعدد والتنوع المجتمعي, ويعرف المجتمع نفسه بها, وتجعله ينظر إلى ذاته بوصفه مجتمعاً واحداً منفتحاً على بعضه, ومتضامناً ومتحداً مع ذاته.
د.عبد الله البريدي: إن مسألة (الهوية) مظلومة في مجتمعنا كما (الخصوصية)، فقد أحالها قوم إلى (كل شيء) وقد نظر آخرون إليها على أنها (لا شيء)، وهي لا هذا ولا ذاك، فهي ليست (كل شيء) كما أنها ليست (لا شيء), وإنما هي (شيء)... إذن هي موجودة وبحجمها الطبيعي وفق كينونة المجتمع ونواميسه، فهي لا تكبر من جراء (تضخيم) الفئة الأولى لها، كما أنها لا تصغر من جراء (تهميش) الفئة الثانية لها... وليتنا نتعاطى معها وفق نهج يقوم على الحقائق ولا يقفز عليها ولا يشوهها، ولقد توفر في الأدبيات العلمية نتائج دراسات نظرية وتطبيقية جديرة بأن نأخذها بالاعتبار بطريقة ما، لاسيما أننا متقاعسون في الحركة البحثية الجادة في مثل تلك المسائل... وأنا مع القائلين بأننا نعيش (أزمة هوية)، بل أجد أدلة علمية – أحسب أنها دامغة – تؤكد على أن أي مجتمع يعيش شكلاً أو آخر من (أزمة الهوية) وبقدر أو بآخر وبسبب بواعث مختلفة، والمجتمعات الناضجة تعترف دائماً بأزمة الهوية ولا تستعيب ذلك ولا تهرب منه.



د.عبدالله عبدالرحمن البريدي
 أستاذ الإدارة والسلوك التنظيمي بجامعة القصيم. له العديد من الاهتمامات الثقافية، وبخاصة فيما يتعلق بالمسألة الحضارية، والتشخيص الثقافي، والهندسة الاجتماعية، واللغة. أنجز البريدي العديد من المؤلفات، منها: الإبداع يخنق الأزمات، والاتصال الفعال، والسلفية والليبرالية، وأسرار الهندسة الاجتماعية. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات, وقدم من خلالها العديد من الأبحاث وأوراق العمل.

د. زكي عبدالله الميلاد 
 من مواليد محافظة القطيف بالسعودية عام 1965م، له ما يزيد على (30) مؤلفاً صدرت في عواصم ومدن عربية وإسلامية عدة. ناقش من خلالها العديد من القضايا الإسلامية والفكرية والحضارية والثقافة، ترجمت العديد من أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية، وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات داخل المملكة وخارجها، يرأس حالياً تحرير مجلة الكلمة الصادرة من بيروت.
ذو صلة