مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

عبد الرحيم الأحمدي.. سحر البداوة الحجازية والكسرة وعالم الورق

(أنا ولدت في العنيق أحد روافد وادي الصفراء الذي أم ذيان إحدى قراه. كانت هذه القرية ملتقى صيفياً يفد إليه المصطافون من الأودية التي حولها. والاصطياف لم يكن من أجل الاستجمام، ولكن من أجل تبادل المصالح بين الملاك في القرية والعاملين في جني ثمار النخل والمتكسبين من أهلها من الرطب والتمور والمتكسبين أيضاً من بيع مواشيهم ونتاجها من أهل الأودية المجاورة). (مجلة اليمامة، حوار: توفيق نصر الله، 2013/12/31).
هذا ما يقوله العم عبدالرحيم الأحمدي عن طفولته التي تحوم بين الصحراء والشعر والحلم.
ويقول عن تجربة التعليم:
 (درست جزء عم على والدي (زوج أمي)، وفي عام 1368هـ افتتحت مدرسة بقريتنا، ثم انتقلت إلى مكة، وأكملت الابتدائية ومعهد المعلمين الابتدائي، وعينت معلماً بمدرستي الخالدية، ثم ابتعثت عاماً ونصف العام إلى مصر «اليونسكو» لدراسة التربية الأساسية، وتخرجت أخصائياً ثقافياً، وعملت بمركز التنمية الاجتماعية بالدرعية، وحصلت على الثانوية منازل، وبعد عشر سنين أعدت الثانوية لأسجل في الجامعة وتخرجت بكالوريوس تاريخ من جامعة الإمام، ثم نلت درجة الماجستير في علم الاجتماع «اجتماع الأدب» من جامعة الملك سعود عن الاتجاهات الاجتماعية في القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية بين عامي (1370 - 1400هـ). وهي بداية فترة التحولات الاجتماعية في بلادنا بل البلاد العربية والنامية أجمع).
بدأ في عالم القراءة حين اقتنى في المرحلة المتوسطة عام  1952 مجلة اليمامة العدد الخاص عن البادية، وتعلق بدراسات اللغويات، فاقتنى القاموس المحيط ثم تاج العروس.. كل هذه الكتب مصدرها مكتبة الثقافة بمكة المكرمة حيث درس. 
ومن عالم القراءة إلى عالم الكتابة، حيث يقول (البداية عام 1375هـ، وكانت لي يوميات عن الأدب الشعبي «مجالس البادية»، وعن تاريخ المرأة «من سجل الخالدات»، وأول قصيدة نشرتها كانت عن «الربيع». وكان مجتمع الطلبة الكتاب يقوده الأستاذ عبدالرزاق بليلة - يرحمه الله- بإشرافه على «دنيا الطلبة»، بعد هذه المرحلة بأربع سنوات عاودت الكتابة الأسبوعية في جريدة «البلاد» تحت عنوان «من البادية»، دون الإشارة إلى اسمي وفق سياسة الجريدة حينها. واليوم أكملت ست سنوات كاتباً أسبوعياً في جريدة «الرياض» صفحة «خزامى الصحارى» تحت عنوان «أحاديث في الأدب الشعبي». وقد صدر لي الجزء الأول من هذه المقالات في كتاب يحمل عنوان: «أحاديث في الأدب الشعبي».
وفي الصحافة نقطة تحول كان سببها مقال كتبه عن كتاب «من شيم العرب» لفهد المارك الذي صدر الجزء الأول منه عام 1376هـ. (وكنتُ – بحسب ما يقول- حينها في السنة الثانية من معهد المعلمين الابتدائي «الإعدادية». كتبت نقداً متسرعاً في صفحة «دنيا الطلبة»؛ أثار المارك. فأرسل لي رسالة خطية عن طريق المعهد، وصادف ذلك العطلة الصيفية فلم أتسلم الرسالة في حينه. ولما كان - يرحمه الله- لا يعرفني ولم يتسلم رداً مني كتب رداً بجريدة البلاد السعودية باسم طالب سوري، إلا أنه من سياق الرد تبين أنه كاتب الرد، فأجبته على رده مبيناً له تفصيلات نقدية جديدة، ومنوهاً عن أنه هو كاتب الرد وليس طالباً سورياً. وقد حفزه ذلك لمقابلتي في مكة حين زارها قادماً من مقر عمله في السفارة السعودية بدمشق، فلم يتبين له أنني الناقد، ولم يطل جلوسه بمنزلنا إذ لم يكن وضع المنزل يعطي دلالة أو ملمحاً ثقافياً، ولم يكن من يرى قميناً بأن يكون كاتباً، بل ناقداً، وظن أن هناك من أكتب باسمه فودعني شاكراً، ثم التقيته في جدة فاحترمني وأثنى علي فقد التقى بعد مغادرته منزلنا الأستاذ أحمد جمال - يرحمه الله- وأكد له ألا أحد يرشدني أو يساعدني وأنني من أعد مقالاتي وشعري دون توجيه من أحد. وقد ذكر لي الأستاذ أحمد ذلك وما دار بينهما من حديث حولي، يرحم الله المارك والجمال، فقد كانا من الرواد المخلصين.
وقد أصدر أول كتبه عن أحد رواة الثقافة الشعبية في الحجاز ابن قابل «من شعر ابن قابل» (1986).
وقد اعتنى بأحد أهم الفنون الأدائية بين منطقتي المدينة المنورة وينبع وهو فن الكسرة،  فأصدر كتابه الثاني «ألف كسرة وكسرة» (1989)، حيث يعرفه بأحد حواراته:
(الرباعيات والثنائيات في الشعر عرفت منذ القدم، والكسرة من هذا النوع من حيث التكثيف والإيجاز ، ولا تنحصر الكسرة في عدد أبياتها إلا أنها - وفق التكثيف والإيجاز - لا تتجاوز البيتين، وذلك ما يميز الكسرة. أما ظهورها فيرجح -وفق قبيلها من الفصيح- أنها ظهرت في القرن العاشر الهجري، وفي منطقة ما بين المدينة المنورة والبحر الأحمر بدليل انتشارها في المخاطبات والحوارات التي كانت تقوم بين أهل المنطقة، وعززت ينبع الكسرة باعتمادها في ملاعب الرديح، وبروز شعراء في هذا الميدان تناقلت الأجيال كسراتهم. 
ولم يقف عند هذا الفن الأدائي دون أصحابه من مبدعيه فأنجز مجلدين «أهل الكسرة» (1998) و«أهل الكسرة» (2004). ليضع مقدمة في دراسة فن الكسرة شعراً، ويجمع شتات الآراء والأفكار التي دارت حول فن الكسرة منذ تناوله الكتاب والنقاد، ويناقش هذه الآراء، ويخلص إلى رؤية يعتقد أنها الأرجح بين الآراء أو أنها تشكل التوجه العام لها.
كما يعد ما قدمه نواة لموسوعة لشعراء الكسرة، إذ يضمان تراجم لأشهر شعراء الكسرة القدماء والمخضرمين والمعاصرين، وسير ذاتية لهم، ونماذج من كسراتهم ومحاوراتهم، وعرضاً لبعض المواقف الاجتماعية والشعرية والنقدية التي واجهتهم، والأسلوب الذي اتخذوه لمواجهة هذه المواقف ومعالجتها.
وأخيراً، يحتويان على بعض المواقف الطريفة والكسرات والكاريكاتورية التي تفرغ الشحنات النفسية التي تثيرها الأزمات والمواقف التي تعرض. ولأن العم عبدالرحيم الأحمدي لا يرى أي ازدواج في العناية بالتراث الثقافي المعنوي، سواء بلغة الكتابة الفصحى أو لغة الكلام العامية؛ فهو عن تجربة ووعي يقول: (لقد وجدت في هذا الأدب معاني كثيرة شدتني إليه منذ صباي، حينما لم يكن في مجتمعي سواه من الآداب، ثم أدركت فيما بعد القيم الأدبية التي فيه، وأنه محاكاة لأدب الفصحى في كل فنونه وأغراضه، لا يعيبه سوى عدم التزامه بقواعد اللغة العربية «النحو»، أما الفصاحة فهو فصيح بياناً ولساناً.
وقد لامني كثر واتهموني بتكريس العامية، ومنهم من أجده لا يتمثل إلا بشعرها وأمثالها، مع أن هناك فارقاً بين العامية وهي اللغة الدارجة ولغة الشعر الشعبي التي لا تستخدم اللغة الدارجة، وإنما تنسج من مفرداتها ما يليق بالشعر، وتلونه بمحسناته وتقومه بمعاييره، ومن يدرس هذا الشعر وبخاصة جيده يجد فيه من الإبداع ما قد لا يجده في كثير من شعر الفصحى الذي لا يسلم – أيضاً – بعضه من الرداءة ومجانبة الشعرية.
والذي أرى وجوبه ألا يشجع اليوم التعبير بالشعبي طالما أصبح التعبير بالفصحى ممكناً، فما كان شعراء الشعبي يفضلون أجوده على الرديء من شعر الفصحى. وهذا لا يعني نفي جماليات التعبير بالشعر إذا ما توافرت له دهشة التعبير حذقةً، وتجسيد الحس الشعبي لغة ونسيجاً). 
وكما له تجربة كتابة الشعر كتب الرواية، حيث أصدر «وادي العشرق» (2005)، فيذكر عنها بأنها (تمثل رؤية لحالات اجتماعية، وتحمل فكراً من شأنه أن يحدث أثراً في المجتمع يوجهه نحو مسار صحيح، وتعالج قضايا اجتماعية بأسلوب قد يورد الفكرة، ويحقق هدفاً مأمولاً، وهي أيضاً تنقل التقاليد المعاصرة للفترة التي تدور فيها أحداث الرواية. وعلى كلٍّ فقد أطلق عليها بعض النقاد أنها رواية إسقاطات. وأعتقد أن الرواية وعاء يضم كثيراً من المحتويات الجليلة والدقيقة، الظاهرة والخفية، المهموزة والمرموزة).
تجاوز الأحمدي عالم القراءة والكتابة، فكرس منهما، حيث أسس دار المفردات، وقد اعتنى النشر فيها في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، ورعى مشاريع ثقافية كبرى، إذ أسهم في مراجعة مواد «موسوعة الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية» (2000) التي أشرف عليها سعد الصويان، وصدرت في اثني عشر مجلداً، ورافق العم عبدالرحيم الأحمدي التحضير من عام 1997 حتى إصدار «موسوعة الأدب العربي السعودي» (2001) مكونة من عشرة مجلدات، ومؤخراً رعى إصدار الطبعة الثانية من «دليل الأدباء بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية» (2014).

ذو صلة