مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

قراءة في كتاب (ألزهايمر) لغازي القصيبي

من الصعب أن تعرض كتاباً للدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي الأديب الذي أمضى نصف قرن بين الكتب كاتبا وشاعراً ومؤلفاً لأنواع وأجناس شتى من فنون الأدب, خمسون عاماً كاملة وصافية وهو يمتهن الكتابة - ولمزيد من الدقة فقد استبعدتُ جزافاً السنوات العشرين الأولى من عمره مع إن أولئك الجيل كانوا نابغين ومهتمين بالأدب قراءة وكتابة منذ سنوات طفولتهم المبكرة.
إنها حالة خاصة جداً تمتزج فيها المشاعر, خصوصا وأنت تقرأ كتاب ألزهايمر الذي طبع في أغسطس 2010 في الشهر نفسه الذي توفي فيه الكاتب, نعم في الشهر نفسه, فبينما هو يفارق دنيانا كانت مطابع الناشر (بيسان للنشر والتوزيع والإعلام) تبث دفء حرارتها لأوراق الكتاب الذي جاء من القطع المتوسط في 127 صفحة.
أليست حالة خاصة يحق لمشاعري أن تختلط فيها, ها أنا مازلت في أغسطس, أيام معدودات تفصلنا عن رحيله, جسده الطاهر مازال تحت الثرى. لكن ما يهدئ الروع حقاً أن موضوع الكتاب يجعلني أرى روحه ترفل بعز ورضا تام أحسه, فلم يمتد به العمر كما أراد لنفسه وكما أراد الله له؛ لكي لا يواجه بعض هواجسه ومخاوفه من أرذل العمر,  فهو لن يواجه ذلك الهاجس الذي تأكد لي بعد قراءة هذا الكتاب, وقد كنت في شك منه وأنا أقرأ لأول مرة قصيدته سيدتي السبعون.
عندما يمتزج تاريخه وتأثيره وحضوره مع حقيقة فراقه لعالمنا؛ يبقى كتابه الأخير عزاء ورسالة لكل محبيه, تخفف عنهم مصابهم بفراقه. أليست المبثوثة في ثنايا هذا الكتاب هي أفكاره, عندما يقول: «كل يوم أعيشه هو هدية من الله ولن أضيعه بالقلق», أليست هذه الذكريات أو المذكرات أو الرسائل وإن غلفت بشكل فني هي في النهاية تمثل الراحل الهارب من مرض الزهايمر, ومن هاجس مابعد السبعين.
في كتاب (ألزهايمر) لا أستطيع تخيل تطبيق نظرية (النص) في النقد الحديث التي تبنّى أصحابها مقولة: (موت المؤلف)؛ ففي كل زاوية من الكتاب يظهر لك الراحل غازي القصيبي, الكتاب قطع أدبية متلازمة تنقلك في لحظات متوالية بين السياسة والأدب والاقتصاد والفكر والتأملات الاجتماعية والفلسفية والطرح الجريء حينا والمبطن أحياناً, وهو طرح طالما ميز مؤلفات الدكتور القصيبي, وتمرس فيه حتى بات من أهم ما يجذب قراءه, يضاف إليها تنوع أسلوبه بين الصريح المباشر حينا والساخر أحياناً, ينقلك من المرارة إلى الفرح ومن الجذل إلى الحزن, في بناء فني اتخذ شكل أقصوصة مقسمة إلى اثنتي عشرة رسالة مكتوبة على لسان يعقوب العريان, لزوجته وهو في أمريكا يتلقى العلاج في مركز مرضى ألزهايمر.
اثنتا عشرة رسالة يمكن أن نقول إن عنوانها الرئيس الهارب من مرض الزهايمر, ومن هاجس بلوغ السبعين, رسائل حيكت وحبكت بطريقة فنية, عندما تقرؤها تنقلك من عالمك إلى عالم واقعي تعيش معه ووسطه, تعيش في قصة لها أبطال, أسماؤهم تشير أو ترمز لحياة الكاتب. فبمجرد أن تبدأ ينهال عليك سيل من الذكريات المرتبة وذاكرة قوية تمدك بتأملات مريرة حيناً, ومتوجسة في كل حين من مرض مخيف يغري بالتهام الورق لتسجيل كل اللحظات, وكأن الخوف من مراحل متقدمة من الزهايمر يغري باستعجال الذكريات.
بطل المذكرات/الرسائل/الأقصوصة/ الذكريات/ يعقوب العريان يقول وهو  يصارح زوجته بحقيقة مخاوفه وهواجسه عن مرضه: «يأسرني كوني في السبعين, فلا أتصرف إلا وفق  النموذج المعتمد لأبناء السبعين». الدكتور غازي القصيبي وفق هذه العبارة ووفق الكتاب كاملاً يتضح أنه لم يعش لحظة من التناقض, كان واضحاً فيما يريده, يعلم أنه ببلوغ السبعين اكتفى, فكان هذا مايريد وهذا ما أرداه الله له.
الكتاب بعيداً عن كل هذا لايخلو من إسقاطات متعددة أبرزها وأكثرها إثارة تلك الإسقاطات السياسية, وأحيانا تأتي وفق استطراد بسيط كوصفه «قلعة جوانتانامو بأنها هدية (دبليو) لبشرية معترفة بجميلة».
والكتاب بالرغم من هذا التنوع لم يغفل التغلغل في توصيف دقيق لمرض الزهايمر. وفي ثنايا تعريفه وحديثه عن المرض يبين أنه مرض ارستقراطي وأن أصحابه هم صفوة الصفوة ومن أشهر الساسة والنجوم الغربيين, ولايخلو الكتاب من أحاديث مشوقة فيها طرافة وتشخيص دقيق لمراحل متقدمة من مرض الزهايمر حين يختلط الأمر, ويرتاب المتحدث في مقصدك, ويطالبك بالجزم والقطع في كل إجابة, ويلزمك بطريقة ساخرة أن تغير من ألفاظ مثل: (تقريباً ويبدو) إلى ألفاظ قاطعة الدلالة, كالحديث الذي دار بين يعقوب وبين عاشق مارلين مونرو, وهو من أولئك الذين بلغوا مراحل متقدمة من مرض الزهايمر, حتى اختلط عليه الأمر فنسي أول حديثه وأنكر معرفته بمارلين مونرو,  ثم تحول من مغامراته إلى تجربته السياسية عندما كان مستشارا للرئيس الأمريكي ريتشاد نيكسون.
ولولا أسلوب الكاتب المشوق وخبرته في جذب القارئ باستمرار لفقد القارئ الدافع لعدم وجود ترابط بين تلك الرسائل وغياب الوحدة الموضوعية بينها, وهذا الانفصال أدى إلى أن تكون حبكة النهاية غير موضوعية, وخارجة لانعدام الرابط أو الوحدة بين كافة الرسائل,  فقد انتهت تلك الرسائل تحت عنوان (مخرج) بأن أرسلت هذه الرسائل ضمن كافة أوراق يعقوب العريان بعد وفاته بنوبة قلبية إلى زوجته موقعة باسم صديقه الدكتور المعالج له في قسم ألزهايمر في جامعة جورج تاون.
وبعيداً عن الناحية الفنية فقد أعجبتني جداً هذه النهاية, لأنها خالفت توقعات ومخاوف البطل من الموت بمرض ألزهايمر, فقد مات نتيجة نوبة قلبية حادة مفاجئة. فالبطل كما أراد له القصيبي لم يمت وقد وصل أرذل العمر أو المراحل المتقدمة من مرض الزهايمر؛ وإنما انتشلته نوبة قلبية من أن يعيش ما كان يقلقه ويمثل هاجسه.
وكأن ما أراده القصيبي -يرحمه الله- لبطله أعطاه الله إياه في الواقع.


pantoprazol 60mg pantoprazol yan etkileri pantoprazol iv
ذو صلة