لا تزال أرض المملكة العربية السعودية بكراً فيما يتصل بكشف آثارها التاريخية, فقد انطلقت منها عدة حضارات عبر التاريخ, بعضها ترك آثاره على هيئة رسوم أو نقوش في جنباتها، والبعض الآخر دفن في تضاعيف مساحاتها الشاسعة بانتظار من سيكشف عنه، ليضيفه إلى تاريخ الإنسانية الذي لا يزال ينظر إلى هذه الأرض كمهد أولي لتاريخ لم يحك بعد كتاريخ حي الطريف بالدرعية شمال الرياض.
دخل حي الطريف دائرة الاهتمام العالمي بعد إعلان صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار موافقة لجنة التراث العالمي على تسجيل حي الطريف في الدرعية التاريخية في قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو, وذلك خلال اجتماع لجنة التراث العالمي باليونسكو في دورته الرابعة والثلاثين المنعقد في مدينة برازيليا بالبرازيل في السابع عشر من شعبان الموافق 29 يوليو 2010م.
وقد أقر العالم للمرة الثانية بمكانة المملكة الراسخة ثقافياً وأثرياً, وتأكيد وجودها الحضاري والتراثي بين دول العالم إثر دخول «حي الطريف» بالدرعية ضمن قائمة مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو، ليكون بذلك الموقع التراثي السعودي الثاني الذي يتم تسجيله في قائمة التراث بعد اعتماد تسجيل موقع الحجر «مدائن صالح» للقائمة في 2008م. وقد جاء حي الطريف في هذه القائمة ليعزز قيمة المملكة تاريخياً بوصفها موطناً قديماً لحضارات بشرية متنوعة. ويمثل اختيار «حي الطريف» بمحافظة الدرعية 20 كلم شمال غرب الرياض ضمن قائمة التراث العالمي؛ تقديراً عالمياً للقيمة التاريخية لهذا الموقع الأثري, وإبرازاً لمكانة المملكة.
«الدرعية» واحة غنّاء تتزين بالنخيل وترفل بالنسيج العمراني الفريد الذي يشكل لوحة فنية راقية للعمارة التقليدية في نجد ووعاءً تراثياً وثقافياً تطل من خلاله على العالم. وقد عد الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك ومدير متحف اللوفر الفرنسي في الزيارة التي قاما بها قبل أربع سنوات للمنطقة التاريخية في الدرعية؛ عدّا الدرعية من الشواهد الأثرية والتاريخية الضاربة في العراقة والأصالة، وأبديا اهتماماً خاصاً بفنون العمارة التقليدية التي تحتضنها العاصمة الأولى للدولة السعودية. ولا غرابة في ذلك, فالدرعية تستمد أهميتها اليوم من تاريخها وحضورها الجغرافي على خارطة الأحداث التي شكلت هيئة المملكة مذ كانت عاصمة للدولة السعودية الأولى، إلى أن أختار الإمام تركي بن عبد الله الرياض مقراً جديداً للحكم عام 1240هـ.
ترقد الدرعية بين ضفتي وادٍ خصيب مُلئ بأشجار النخيل, وتطل بحلة بهية على واديٍ حنيفة الوادي الأكبر في الجزيرة العربية الذي يشهد حالياَ نهضة بيئية تسير به ليكون وجهة رئيسة للسياحة الداخلية, بعد أن كان مقراً آمناً وملائماً للاستقرار الحضري منذ أقدم العصور. وتمتلك الدرعية مميزات طبيعية وبيئية وجغرافية كالروافد والشعاب والأراضي الخصبة والبناء والتعمير, وتظهر فيها السمات المعمارية النجدية بوضوح إلى جانب أنظمة الري وقنوات السقيا.
احتلت الدرعية الصدارة على الطريق التجاري من شرق الجزيرة إلى غربها، وكانت الدرعية المدينة الأشهر بوادي حنيفة خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين «السابع عشر والثامن عشر الميلاديين», إضافة إلى تحكمها في طريق الحج إلى مكة المكرمة, فامتد سلطانها على عدد من قرى وادي حنيفة وبلغ نفوذها إلى ضرماء في الجهة الغربية من جبل طويق وإلى «أبا الكباش» شمال الدرعية.
يلف الدرعية سور قديم يتميز بتحصيناته وأبراجه العالية المشرفة على كل الأحياء, وتبلغ مساحة الدرعية والمراكز المرتبطة بها مايقارب 2020 كلم مربع, ويخترقها وادي حنيفة وتفريعاته المختلفة.
ويعد سور طريف لوحة معمارية متفردة أخذ أهميته من أهمية الحي الذي يحيط به ويضم عدداً من القصور التي شيدت في عهد الدولة السعودية الأولى. ويعلو السور عدد من الأبراج الضخمة للمراقبة وهو ما زال قائماً حتى الآن, وبقربه تقف العديد من الأماكن الأثرية كقرى عمران وسمحان وبرج سمحة وبرج شديد اللوح وسور قليقل وحصن الرفيعة, وأبراج المغيصبي وبرج الفتيقة, وبرج فيصل وأبراج القميرية, وقصر الأمير سعد بن سعود وبرج الحسانية, ومسجد الظهيرة وغيره.
يتمتع حي الطريف بخصوصية معمارية قادته أن يمثل المملكة في محفل التراث العالمي, حيث صاحب ازدهار الدولة السعودية الأولى تطور نمط مميز من الفنون المعمارية فتقدمت مهارات استخدام الحجر والطين حتى وصل إلى أعلى المستويات كما يقول المؤرخ الإنجليزي «وليام فيسي», ويذكر أن الطراز المعماري وأساليب البناء الفنية في الدرعية القديمة تندر في منطقة نجد.
كما ظهرت الزخارف العمرانية والنقوش في المسكن التقليدي لتعطي دلالة ومؤشر لانتقال المسكن من مرحلة تأمين المأوى كحاجة ضرورية إلى مرحلة الرفاهية والاستمتاع بالأشكال الفنية والتشكيلية.
وتتميز القصور في حي الطريف بقوة البنيان ومسقطها الرأسي الذي يتخذ شكل المربع, بينما ترتفع غالبية هذه القصور حول فناء مركزي في وسطها, وتنوعت تصميماتها الأساسية وارتفاعاتها فكان من بينها قصور من طابق واحد, مثل قصر ناصر وأخرى من طابقين تم تشييدهما حول الفناء الداخلي مثل قصر سعد إلى جانب قصور من ثلاثة أو أربعة طوابق مثل قصور سلوى التي كان ارتفاعها أطول من عرضها, وقد كانت الجدران الخارجية سميكة, مثل الجدران في باقي العمران النجدي, تطل على الخارج بواجهات تخلو بصفة رئيسة من الملامح ماعدا فتحات التهوية الزخرفية التي تأتي على شكل مثلثات, وما يزال العديد من الجدران يجد فيها الرائي المنعة والقوة.
ويتفق العديد من المؤرخين على أهمية الأسوار التاريخية بصفتها أهم الملامح العمرانية ودرعاً منيعاً بمثابة خطوط الدفاع الأولى عن المدينة, ولها أهمية استكشافية في مراقبة تحركات العدو في أوقات الحرب, والمساعدة على رصد وصول القوافل التجارية في أوقات السلم, بالإضافة إلى إطلاق الإنذار المبكر لمواجهة أسراب الجراد الصحراوية, وتمثل البوابات الموجود في الأسوار المداخل والمخارج الوحيدة في البلدة حيث يتم التحكم بها لتوفير الأمان للسكان.
وأوضح الأمير سلمان بن عبد العزيز أن المملكة تملك الكثير من المقومات الحضارية والتاريخية، ومن المهم نقل هذه الثقافة والحضارة للعالم والتفاعل مع التغيرات العالمية، لكي تبرز المملكة مساهمتها في التحولات الحضارية العالمية.
وقال: «إن تسجيل الدرعية التاريخية في قائمة التراث العالمي يترتب عليه بذل المزيد من الجهود لحماية الموقع والمحافظة عليه وتهيئته وتأهيله وفقا للالتزامات الفنية والبرنامج الزمني الذي تقدمت به المملكة في ملف الترشيح وخطة الإدارة, ووفقا لمتطلبات ومواصفات مركز التراث العالمي، وبالمستوى الذي يليق في الدرعية كموقع تراث عالمي، وبسمعة المملكة ذات الجهود الدائمة والداعمة لليونسكو»، مبينا أن ضم الدرعية إلى قائمة التراث العالمي يؤكد إضافة إلى أهميتها التاريخية والعمرانية؛ أهميتها السياسية كعاصمة للدولة السعودية الأولى، وكمركز علمي وثقافي في الجزيرة العربية.