مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

زهرة الخشخاش: مسلسل الإهمال الفني

احتلت قضية اختفاء لوحة زهرة الخشخاش, وهي من الأعمال الشهيرة لفنان التأثيرية الهولندي «فان جوخ» من متحف محمد محمود خليل في القاهرة, عناوين الصحف المصرية -بما فيها الحكومية- لعدة أيام, وتصدرت السجال العام، ليس بوصفها حادث سرقة (القيمة السوقية للوحة تقدر بنحو 50 مليون دولار) أو انشغالاً بقضية ذات طابع ثقافي نخبوي, وإنما لكونها تعبيراً عن حالة إهمال وفساد استشرت في عدد من مؤسسات الدولة, ومنها تلك التابعة لوزارة الثقافة. فقد كشفت تحقيقات النيابة عن افتقاد المتاحف التابعة لوزارة الثقافة لأنظمة الأمان المعتادة، بما فيها أنظمة إطفاء الحرائق, وهو ما أكدته معاينة النائب العام المصري عبدالمجيد محمود لموقع الحادث، وقد انتقل الرجل بنفسه بصحبة عدد من معاونيه للموقع, كما اُسْتُدعي وزير الثقافة المصري فاروق حسني لاستجوابه, وقد بادر الأخير منذ اللحظات الأولى للإعلان عن السرقة إلى إحالة رئيس قطاع الفنون التشكيلية بالوزارة محسن شعلان وعدد من معاونيه المسؤولين عن المتحف إلى القضاء, الذي أمر بحبس بعضهم لحين الانتهاء من التحقيقات, بعد أن وجهت لهم تهم الإهمال الجسيم في أداء وظائفهم.
وتطايرت الاتهامات بين المتهمين, وطالت بعضها وزير الثقافة نفسه, الذي اتهمه شعلان بأنه المسؤول الأول عن سرقة اللوحة, وتم تسريب مكاتبات متبادلة بين قطاع الفنون التشكيلية والوزير, تؤكد أنه لم يبادر بتلبية مطالب المسؤولين عن المتاحف وتوفير الموارد المالية اللازمة لتأمينها برغم علمه بأوجه القصور-وهو ما أشارت إليه المستندات التي تم تسريبها– وقد رد مكتب الوزير بمستندات مضادة, تكشف عن تبديد متعمد وسوء تصرف في الاعتمادات المالية، بما يلقي بالمسؤولية على رئيس قطاع الفنون التشكيلية, ويبعدها تماماً عن الوزير الذي قال إنه أصدر قراراً بمنح صلاحيات كاملة لرئيس القطاع, لكنه أساء استغلالها.
تحقيقات النيابة أشارت إلى أن 7 متاحف أخرى كاميراتها لا تعمل بكفاءة وبعضها معطل، كما أن 10 متاحف بلا نظام إنذار للحريق أو نظامها معطل لا يعمل، وهو ما يعني أنه في حال نشوب حريق لن يتم اكتشافه إلا متأخراً.
وكانت اللوحة –التي سبق أن سرقت عام 1977م، ثم عادت إلى مكانها بطريقة غامضة بعدها بعام- قد انتزعت من إطارها في وضح النهار، حيث استغل السارق على مايبدو، قلة جمهور المتحف وانشغال مسؤولي الأمن بأداء صلاة الظهر فضلاً عن تعطل كاميرات المراقبة وأجهزة الإنذار كي ينفذ جريمته على غرار أفلام هوليوود الشهيرة.
أحد نقاد الفن تعجب من الإصرار على سرقة هذه اللوحة بالذات, والتي تقبع وسط مجموعة من أعمال التأثيريين، مثل: مونيه ورينوار وديجا وجوجان, وللأخير لوحة تعرف باسم (وجوه تاهيتي) قدرت قيمتها السوقية بمبلغ 80 مليون دولار, أي أغلى من لوحة جوخ المسروقة.
وكان العام الماضي قد شهد سرقة تسع لوحات أثرية ترجع لعصر أسرة محمد علي (1805 - 1952) من قصر محمد علي في شبرا الخيمة، الذي كان قد افتتح قبل شهور قليلة, وعثر عليها بعد عشرة أيام، وأوضحت وزارة الثقافة آنذاك أن الجهات الأمنية تلقت اتصالاً من مجهول للإبلاغ عن مكان اللوحات دون تحديد المكان الذي عثر فيه على اللوحات ولا طبيعة اللص أو اللصوص الذين قاموا بفك اللوحات من براويزها -كما ذكر بيان وزارة الثقافة آنذاك-.
وفي سبتمبر 2008، قام أحد الموظفين بسرقة لوحتين للفنان المصري حامد ندا (1924 - 1990) من دار الأوبرا بالقاهرة، إلا أنه تمت استعادة اللوحتين.
وقد أعاد حادث سرقة (زهرة الخشخاش) إلى الأذهان حوادث مشابهة أدت إلى مواجهات بين وزير الثقافة المصري الذي يعد الأقدم بين وزراء الحكومة الحالية والمثقفين, خرج الوزير منها دائماً بكبش فداء من أحد موظفيه يلقي عليه باللائمة وينجو هو بنفسه, وكان أشهر هذه الكوارث حريق مسرح بني سويف عام 2005، الذي راح ضحيته أكثر من 50 من النقاد والكتّاب والفنانين, احترقت أجسادهم داخل المسرح الذي افتقد –كالعادة– إلى أبسط سبل الأمان.
 ويومها ألقى الوزير باللائمة على الدكتور مصطفى علوي أستاذ العلوم السياسية الذي كان منتدباً لإدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة, فأقاله من منصبه وتركه فريسة لتحقيقات القضاء.
والمتحف الواقع على نيل الجيزة، تبلغ مساحته حوالي 8 آلاف متر, ويضم 208 لوحات ومجموعة قيمة من الفازات النادرة من فرنسا والصين واليابان وإيران، وعدداً كبيراً من التماثيل البرونزية والرخامية لكبار مثالي القرن التاسع عشر, منهم: رودان, وكاربو, وكوردييه.
وظل القصر منذ إنشائه حتى عام 1960 مسكناً لأسرة محمد محمود خليل, ومقراً لمجموعته الفنية الثمينة, إلا أنه بناءً على رغبته وتنفيذاً لوصية زوجته الفرنسية (إميلين هيكتور), التي كانت تدرس الموسيقى, والتي شجعته على اقتناء الأعمال الفنية, تحول القصر في 23 يوليو 1962 إلى متحف, و تم إخلاؤه عام 1972، ليلحق بمسكن الرئيس المصري السابق أنور السادات، وتم تخزين الأعمال التي كان يحتويها، حتى أُعيد افتتاحه في سبتمبر 1995 بعد تطويره، وقد أُنفق عليه حوالي 20 مليون جنيه مصري.
أما صاحبه محمد محمود خليل الذي ولد في القاهرة عام 1877 وتوفي في باريس عام 1953 ودرس القانون في السربون, فقد كان وزيراً للزراعة عام 1937, ورئيساً لمجلس الشيوخ عام 1939, وعرف بوصفه راعي الحركة التشكيلية المصرية, فهو أول من شارك في تأسيس جمعية محبي الفنون الجميلة مع الأمير يوسف كمال عام 1924, والتي تولى رئاستها عام 1925، وقد عهد إليه الملك فؤاد بإقامة متحف للفن المصري الحديث وهو الموجود الآن بأرض الأوبرا بالجزيرة.
ذو صلة