كتب شكسبير ثلاثة أنواع من المسرح، الملاهي والمآسي والتاريخيات، نجحت الملاهي في وقته نجاحاً منقطع النظير، وكان من المعروف أن الملكة إليزابيث الأولى تعشق الملهاة الشكسبيرية، بل وتطلبها منه مرة بعد الأخرى، وهو الأمر الذي تمت الإشارة إليه بذكاء في فيلم (Shakespeare in Love)، والمعروف أيضاً أنه كتب مسرحية (زوجات ويندسور المرحات) خصيصاً لها لأنها أحبت شخصية فالستاف وطلبت ظهورها في مسرحية إضافية، واستمرت الملاهي حتى الآن باعتبارها مباهج المسرح الكبرى، كما أن مآسي شكسبير اُعتبرت أعظم الكتابات الدرامية عبر العصور، وبالذات مسرحيات هاملت ماكبث عطيل والملك لير، بينما لم تحظ المسرحيات التاريخية بنفس الجماهيرية الكاسحة عبر أنحاء العالم، نعم ما زالت تُعرض وتحقق نجاحات كبيرة على خشبة المسرح في الدول الناطقة بالإنجليزية تحديداً، لكنك لن تجدها كأحد أكثر العروض المطلوبة في المحافل المحلية في الدول الأخرى، لن تجدها مقتبسة مثلاً بكثافة في السينما العالمية، لن تجد فيلماً واحداً مقتبساً عن مسرحية هنري السادس، بينما ستجد أن هاملت قد تم اقتباسه إلى شاشة السينما وحدها أكثر من 30 مرة!
السبب الذي قد يتبادر إلى الذهن وراء ذلك، هو أن هاملت وبقية المآسي الكبرى تمس الإنسانية جمعاء، بينما التاريخيات ليست سوى أحداث محلية تماماً لا تهم سوى مواطنيها، وهو سبب لا يخلو تماماً من الصحة، ولكنك عند قراءة التاريخيات ستجد كافة المشاعر الإنسانية المعقدة، وليست مجرد سردية تاريخية جافة، السبب الحقيقي وراء الأمر إذن هو السياق، مسرحيات مثل أنطونيو وكليوبترا ويوليوس قيصر وروميو وجوليت، يمكنك قراءتها مباشرة ببساطة ويسر كأعمال متكاملة، إن جاز التعبير يمكن القول إنه يمكن قراءتها كما لو كانت أفلاماً سينمائية، بينما التاريخيات لن تتمكن من القيام بالأمر نفسه لأنها أقرب إلى المسلسل التلفزيوني!
مسرحية مثل هنري الخامس عندما اقتبسها الممثل والمخرج البريطاني كينيث براناه، اضطر اضطراراً إلى صنع مشاهد فلاش باك مقتبسة من مسرحية هنري الرابع بجزئيها، والسبب وراء ذلك، أن في بداية مسرحية هنري الخامس تموت شخصية فالستاف، وهي شخصية مهمة جداً ومؤثرة لهنري الخامس، ولكن شكسبير استفاض بها تماماً في مسرحيتي هنري الرابع، واكتفى بمشهد واحد يتوفى فيه فالستاف في مسرحية هنري الخامس، بينما في زمن أسبق التزم الممثل والمخرج البريطاني لورنس أوليفيه بالمشهد كما هو دون محاولة لشرح أي مبرر درامي بالمنطق السينمائي لوجوده، نظراً إلى أنه كان يتعامل مع نصوص شكسبير التي نقلها إلى السينما بالكثير من الحرفية والجمود والابتعاد عن المرونة المطلوبة لاختلاف الوسيط البصري، ونجد في نموذج آخر أن الممثل والمخرج الأمريكي أورسون ويلز قد اكتفى بشخصية فالستاف وحدها من الثلاث مسرحيات وقام بتقديمها في فيلمه (Chimes at Midnight) الذي يعتبره أقرب الأفلام التي صنعها قرباً إلى قلبه!
ولذلك نجد أن الاقتباس الأفضل للمسرحية هو ما صنعه المخرج ديفيد ميشود مع زميله في الكتابة جويل إجيرتون في فيلمهما (The King)، وهو الأفضل لأنه يكاد لا يكون اقتباساً من الأصل، وإنما إعادة كتابة كل شيء من البداية، بشكل يجعله أقرب إلى المنطق الدرامي السينمائي، ويجعله صالحاً للمشاهدة كفيلم سينمائي حتى لو لم تكن تعرف أي شيء عن الأحداث التاريخية السابقة أو اللاحقة على أحداثه الدرامية، شخصية فالستاف هنا تتطور تطوراً درامياً مهماً للغاية، قد لا يمت للتاريخ العام نعم، ولكنه يجعل من وجودها طوال هذه المساحة الضخمة مبرراً تماماً ويلعب دوراً مهماً وليس مجرد ترفيه كوميدي.
لن نتوقف عند اقتباس المخرج جاس فان سانت للمسرحية، لأنه أقرب إلى الاستلهام منه إلى الاقتباس، وصنع فيلماً بعيداً كل البعد عن أحداث المسرحية.
جدير بالقول أن شخصية فالستاف التي أسرت أورسون ويلز ومن قبله الملكة إليزابيث هي شخصية خيالية مستندة على شخصية حقيقية تدعى أولدكاستل، وكان يُذكر باسمه الحقيقي في العروض الأولى، ولكن أحد أحفاده طلب من شكسبير تغيير اسمه لما في ذلك من حرج لعائلته، خصوصاً أن الرجل الحقيقي لم تكن نهايته مشرفة، وهو ما قد يقودنا إلى نقطة تاريخية المسرحيات، وإن كانت مجرد دراما تستلهم التاريخ، أم تقدم التاريخ باعتباره الحقيقة المطلقة، والمفاجأة أن تلك المسرحيات نظراً لقرب شكسبير نفسه زمنياً من وقت الأحداث، قد شكلت مشكلة كبيرة لعدد من المؤرخين اللاحقين، فنجد أن المؤرخين لا يزالون حتى اليوم يدخلون في سجالات أكاديمية وبحثية لنفي أو إثبات ما جاء في تلك الأعمال، وهو ما يعكس قوة وأهمية تلك الأعمال وتأثيرها حتى على الأبحاث التاريخية البحتة.
نموذج ظهور فالستاف المفاجئ في مسرحية هنري الخامس ليس المثال الوحيد، على مدى ترابط تلك المسرحيات وضرورة قراءتها بالتسلسل التاريخي لفهم ما يحدث، في مسرحية هنري الرابع مثلاً ستجد عداوة وصراعاً بين الملك وبين مجموعة من أصدقائه الذين ساعدوه للوصول إلى الحكم، إن لم تقرأ مسرحية ريتشارد الثاني أولاً لن تدرك حجم المشكلة الدرامية (وليس التاريخية فقط) بينهم، وهكذا يتكرر الأمر إلى ما لا نهاية، ومن هنا تأتي أهمية مسلسل The Hollow Crown.
فالمسلسل اختار المسرحيات التاريخية المرتبطة بالسردية الشكسبيرية الكبرى لأحداث (حرب الوردتين)، وهي الحرب التي تعتبر الحدث الرئيس في معظم التاريخيات إذا ما تم بالطبع استثناء مسرحية الملك جون، ومسرحية هنري الثامن، رغم أنه ابن الرجل الذي أنهى حرب الوردتين التي استمرت 86 عاماً إذا ما تم احتسابها كاملاً منذ استيلاء هنري الرابع على عرش إنجلترا، إلا أن بداية الحرب بدأت مع مسرحية ريتشارد الثاني وانتهت بمسرحية ريتشارد الثالث.
المسلسل مقسم إلى موسمين، كل موسم يتناول مرحلة تاريخية محددة، الموسم الأول عبارة عن رباعية مكونة من: ريتشارد الثاني ثم هنري الرابع بجزأيه الأول والثاني وتنتهي بهنري الخامس، أما الموسم الثاني عبارة عن رباعية أخرى مدمجة في ثلاث حلقات، تتناول مسرحيات هنري السادس بأجزائها الثلاثة وتنتهي بريتشارد الثالث، الملاحظة الجديرة بالتأمل أن شكسبير يتغير أسلوبه مرتين إلى اعتماد على راوٍ بشكل كبير في المسرحية التي تختتم كل رباعية، أي في هنري الخامس وريتشارد الثالث، كما لو كان يقوم بعمل تقسيم درامي للأحداث بهذا الشكل، وهو الأمر الذي حافظ عليه صناع المسلسل ولم يكن اعتباطياً أو من قبيل المصادفة.
حرب الوردتين التي أصبح اسمها هكذا لأن شكسبير هو من أطلق عليها هذا الاسم، نظراً إلى الوردة البيضاء رمز عائلة يورك، والوردة الحمراء رمز عائلة لانكستر، هي واحدة من أكثر الأحداث التاريخية إلهاماً للفنانين والأدباء عبر العصور، نظراً لما فيها من صراع درامي يستطيع تلخيص المأساة الإنسانية في أوضح صورها، وقد برع شكسبير في عرض تلك المأساة براعة تليق باسم أفضل كاتب درامي عبر العصور.
ربما لمن اعتاد مشاهدة المسلسلات التاريخية، لن يستسيغ بسهولة في البداية المشاهد الطويلة والحوارات البلاغية الفخمة، خصوصاً أننا أمام حالة خاصة تتداخل وتتماهى فيها الأحداث التاريخية والدرامية بشكل أربك المؤرخين أنفسهم فما بالك بالمشاهد العادي، ولكن بمرور الوقت وتقدم الأحداث، ستجد متعة لا مثيل لها أثناء مشاهدة المسلسل، ويرجع السبب في ذلك إلى رغبة صناع العمل في تقديم معالجة بصرية ممتعة ومشوقة في نفس الوقت، لن تجد هنا التزاماً بحرفية النص الشكسبيري، ولكن هناك الكثير من الاختصار والتعديل بما يتلاءم مع الوسيط الدرامي، كما ستجد التوصيف البصري في أقصى بلاغته مدعوماً بصورة تخدمه، مما يجعل متعة التلقي تصل إلى أعلى درجاتها.
خذ هذا المقطع كمثال على ما سبق من مسرحية ريتشارد الثاني: (ها قد أصبح هذا التاج الذهبي مثل بئر عميقة يتدلى فيها دلوان يمتلئان الواحد بعد الآخر)، يقوم المخرج مع هذه الجملة بتصوير التاج من أسفل بين ريتشارد الثاني وهنري الرابع ليبدو كما لو كان بئراً بالفعل، ويمكن أن تقيس على ذلك بقية المسلسل الذي يخلق صورة بديعة تخدم كلمات شكسبير، من ناحية أخرى فالأداء التمثيلي يصل هنا إلى مستويات بديعة للغاية، الممثل البريطاني بن ويشا في دور ريتشارد الثاني يتمكن من التعبير عن مشاعر الملك المهزوم بكل تعقيداته من يأس وخوف وخذلان واستسلام ويصل إلى ذروة خيبة الأمل أثناء اغتياله غير المبرر رغم تنازله طواعية عن العرش، خصوصاً عندما تقارنه بأداء الممثل الذي أدى هنري السادس وسذاجته الشديدة وهوانه وضعفه لطبيعة عمره الصغيرة، لن تتمكن من نسيان أداء بن ويشا.
في المقابل يقدم بيندكت كامبرباتش في دور الملك ريتشارد الثالث الصورة المعاكسة تماماً، حيث الوحشية والجبروت نتيجة التشوه الجسدي الذي انعكس على النفس فأصابها التشوه الذي يصل إلى حدود الإجرام بقتل طفلين بريئين كان أحدهما على كرسي الحكم والآخر ولياً له، وهما المعروفان بأميرا البرج، وهما أيضاً أحد أكثر الألغاز التاريخية غموضاً على الإطلاق، فبينما قطع شكسبير بقتل ريتشارد الثالث لهما، إلا أن المؤرخين انقسما إلى فريق مؤيد ومعارض في تلك المسألة.
من التفاصيل التي كانت تسبب أزمة لشكسبير مساحة خشبة المسرح الضيقة التي لا تسمح المراعي الخضراء الفرنسية وساحات الحرب الطاحنة والأمطار والوحل الذي هزم الفرنسيين في معركة أجينكور، وهو ما عبر عنه صراحة في مسرحية هنري الخامس على وجه التحديد، وعلى الرغم من ذلك تعمد لورانس أوليفييه تقديم فيلمه عام 1944 على ديكورات مسرحية رغم ما توفر له السينما من إمكانيات! صناع المسلسل يحققون رغبة شكسبير وحلمه في تصوير كل شيء كما جرى في الطبيعة.
تاريخيات شكسبير التي قدمها هذا المسلسل بمتعة بصرية وسردية كبيرة، هي ملحمة إنسانية من الطراز الأول، عنوان المسلسل وهو التاج المجوف والمقتبس من إحدى عبارات شكسبير، يظل أفضل عنوان يعبر عن مضمون الحكاية في صورتها الكبيرة، لا يعني هذا بالطبع أنه كان صراعاً على شيء لا يستحق، ولكن السؤال الذي يطرحه المسلسل/شكسبير، هل كان يستحق هذا التاج كل تلك التضحية وكل هذا الثمن الذي دفعه الإنجليز؟ صحيح أن تلك الصراعات كانت طبيعة العصور الوسطى التي وقعت بها الأحداث، ولكن من قال إن ذلك الصراع توقف بدخول عصر الإصلاح الإنجليزي أو التنوير أو حتى العصر الحديث، ساذج من يعتقد أن شكسبير كان يقصد فقط الشق السياسي من الصراعات الإنسانية، هي فقط تقدم الصورة الأكثر وضوحاً وإدراكاً نظراً للخسائر البشرية التي يمكن الإشارة إليها دون مجادلة كبيرة، ولكن في حقيقة الأمر شكسبير كان يشير إلى مواطن الخلل في النفس البشرية التي تجعلها لأجل مطامعها الدنيوية ترتكب الحماقات والجرائم لأجل متع زائلة، وهو ما يشير إليه بوضوح على لسان الملكة إليزابيث وودفيل زوجة الملك إدوارد الرابع في مسرحية ريتشارد الثالث وهي تتوسل إليه الصفح عن شقيقه قبل أن تكتشف أنه قد تم قتله.