مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

العسيريات يتماهين بـ(القَط) مع روّاد المدرسة التجريدية

لو أجرى أي مهتم بالفن التشكيلي مقاربة بين فن النقش أو (القَطّ) المعروف في منطقة عسير جنوب المملكة العربية السعودية، وفن التجريد بمختلف مكوناته وعناصره الإبداعية؛ لاكتشف الكثير من العوامل المشتركة. ولعل ذلك من أسباب إدراج منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) فن القطّ أواخر العام 2017 ضمن القائمة التمثيلية الخاصة بالتراث الثقافي.
مقاربة تشكيلية
يصعب تحديد تاريخ بدايات النقش (القَطّ) الذي اشتهرت النساء بنقشه على الجدران في المنطقة، مع قلة المصادر المكتوبة؛ غير أنه يمكن معرفة دلالاته الفنية بالمشافهة، وما عرف منه يؤكد أنه اعتمد على التعبير عن معطيات البيئة المألوفة للناظر وإنسان تلك البيئة. ولصعوبة تناول الإنسان كصورة واقعية في النقش؛ استخدم الفنانون الفطريون أسلوب الرمز للتعبير عنه ضمن محاكاتهم للطبيعة. ومن خلال الرسومات التعبيرية نجد أربعة أنواع من النقش، وهي طبقاً للمفردات المحلية المستخدمة: الختام، الحِظية، البَتَرة، التقطيع العمري. وتتشابه التكوينات الجمالية لخطوط (القط) التي تبدعها النساء إلى حدّ كبير مع التكوينات الجمالية التي ترتكز عليها المدرسة التجريدية.
وبالعودة إلى كتاب الفن التشكيلي المعاصر للدكتور محمود أمهز، وبعض أعداد مجلة الحياة التشكيلية الصادرة عن وزارة الثقافة بدمشق؛ نجد مقاربات وأفكاراً تنطلق من عصر النهضة الأوروبي الذي ارتقى به الفن التشكيلي وصار خاصاً بالقصور والأماكن الدينية، وتطور لاحقاً متجهاً إلى العالمية مع ظهور الانطباعية. فالتجريدية برأي كثير من النقاد قمة الهرم في التشكيل، وهي من أهم المدارس التي تميز القرن العشرين.
والتجريد عموماً فيه رفض للصورة ومحاكاة للمنظور، ومن أسباب الرفض تحرر الفنان من مشكلة ضرورة تمثيل الأشياء كما هي، أو نقلها بحيث يمكن للمشاهد التعرف عليها.
بين الزخرفي والتصويري
في موسوعة Universalis 1970 يقابل مايكل دوفرين بين (الزخرفي) و(التصويري)، فيعدّ أنّ الأول (يبقى تابعاً لما يزخرفه)، وأنّه يعطي قيمة لشيء آخر خارجه (الحامل)، والثاني يتميّز بمعناه ومضمونه، واستقلاله عن الحامل الذي ينتمي إليه. أي إن التصويري (يكفي ذاته بذاته، ويحمل في ذاته شيئاً له معنى ما). ولو حدث انتقال من مجال إلى آخر فهنا ربما (يرقى الزخرفي -إذا ما مثل موضوعاً له معنى- إلى التصويري)؛ لكونه يقع في مرتبة أعلى منه، بينما (ينحدر التصويري -إذا ما تحوّل نحو التجريد وفقد موضوعه- باتّجاه الزخرفي)؛ وذلك لكونه في مرتبة أدنى منه. وبالتالي فالعمل الزخرفي، مهما بلغ من الدقّة، لا يرقى إلى مستوى العمل التصويري إلا إذا تخطّى كونه زخرفياً.
هذا يعني أن الفكرة والتكوين والرؤية الفنية الخاصة حلت مكان التصوير المباشر. وبعد زمن من محاكاة الطبيعة وتصوير المرئيات؛ أصبح الفنان يتعامل مع الشعور والذهن. وبالمقاربة وتأمل التكوين العام لـ(القط العسيري) وربطه بالطبيعة المحيطة؛ نجد (القطة) تتشكل من خطوط أفقية طويلة متوازية تصاحبها خطوط رأسية عمودية بمسافات وأبعاد متقاربة، وتنشأ الإيحاءات عن التراكبات اللونية والخطوط، فنرى الحالة الأفقية موجودة في المدرجات الزراعية المتتابعة، بينما تكوّن الجبال الشكل الرأسي بصرياً عند إنسان المنطقة، وبالتالي، عندما أخذت (القَطّة) تكوينها بين الجبال، حيث يرى الشخص المدرجات الزراعية، فهذا الشخص نقلها من حالة التصوير البصري المباشر إلى التجريد، مستخدماً البساطة الفكرية في اللون.
هذه الرؤية تعطي بعداً ذهنياً يقود إلى التفكير أكثر في سر التكوين المثلثي المتكرر، الذي ربما نتج عن رؤية الجبال عن بعد على شكل مثلثات من المنظور التجريدي، وللسعي إلى التوازن البصري تساوت المثلثات في النقش العسيري. كما يلحظ المتأمل بعض الامتدادات المثلثية الخارجة عن الأضلاع الموجودة في المثلث الأصلي، وبشكل أكثر طولاً في الساقين منه في القاعدة للدلالة على الأشجار.
تعبيرات فكرية.. ومحاكاة
نجد رؤية أخرى تنطلق من مثقفي المكان حول بعض التعبيرات الفكرية في النقوش، فهم يرون أن الشبكة ترمز إلى الحبّ، وتكوينات الخلايا النحلية دلالة الكفاح، أما الرسومات التي تشابه سعف النخل فهي دلالة الزراعة، وللثراء رمزه حين نرى تكسراً في رؤوس المثلثات ليظهر علوها.
إذن، نحن أمام حالة تأملية ابتعدت عن التصوير وخرجت عن المحاكاة والموضوع، مستقية من الطبيعة والبيئة المحيطة، لتأخذ شكلها النهائي بأبعاد لونية وذهنية. هذه الحالة من النقش أو (الرقش)، كانت هامشية في الغرب إلى أن جاءت العصور الحديثة فأصبحت منطلقاً للفن ومعياراً للمستوى الفني، ولم تعد حكراً على القصور بل انطلقت إلى عامة الناس. لكننا نجدها راسخة بين الناس منذ القديم في عسير، ولا يكاد يخلو بيت عسيري قديم من جمالياتها.
وبغض النظر عن الأزمنة، يمكن القول إنه في زمن سابق ازداد الاهتمام عالمياً بالبحث عن أساليب تعبيرية لإيجاد أبعاد فنية جديدة، مما أدى إلى نشوء اتجاهات فنية ترتكز على خطوط حركية متشابكة ومتفرعة تهدف أولاً إلى التزيين والزخرفة. وربما اتجه إنسان منطقة عسير إلى ذلك قبل أن يزدهر هذا الأسلوب في مدينة زيوريخ في بدايات القرن العشرين بالاعتماد على تحريف الأشكال النباتية، لأن هذه الأشكال كانت وما زالت من أهم عناصر الرقش العربي الذي ناغم الألوان قبل أن يطرح (جوجان) فكرة البحث عن تناغم الألوان التي تقابل وتماثل الحالة النفسية البشرية.
كاندانسكي وموندريان
يعد (كاندانسكي) أول من أنجز عملاً من دون موضوع عام 1910 ليظهر يومها بإحدى مسلمات التمثيل اللاصوري القائم على تجربة الفنان مع اللون والخط، متجنباً تمثيل الواقع، واتبعه كثير من الفنانين خلال زمن كانت فيه التكعيبية تأخذ دورها لإعادة صياغة الرؤية الفنية والتحول نحو التجريد اللاموضوعي.
أما تحقيق الصورة المطلقة المبنية عقلانياً فجاء فعلياً مع الفنان الهولندي (بيت موندريان) الذي وصل بالتجريد إلى المنطق بعد أن اتبع الواقعية والانطباعية والوحشية والتكعيبية التحليلية. وقد تكون انطلاقته الحقيقية عام 1914 عندما حرر اللون من الشيء وجعله أثراً منه ضمن أنموذج أساسي مبني بنسب هيكلية مبسطة من المساحات والقيم اللونية الفاتحة والغامقة في تعبيرية عن هواجس الفنان التأملية ومفهومه الخاص لما يحيط به، واستمر في بحثه إلى العام 1920 حين وصل إلى اكتشاف الشكل المصور في أكبر تبسيط وأكبر وحدة له للتعبير عن إمكانية الفنان التأملية، فاللوحة ذات السطح الواحد تكاد تقتصر على خطوط عريضة سوداء عمودية وأفقية وضعت على أساس أبيض لتشكل هيكلية اللوحة، ثم انطلق بعدها إلى تلوين المساحات في الفراغات بالألوان الأساسية الثلاثة (الأحمر والأزرق والأصفر) وأحياناً كان يستخدم معها الرمادي. وأطلق (موندريان) على عمله آنذاك اسم (التشكيلية المحدثة).
ولو عدنا إلى الرؤى المطروحة حول تأثير البيئة والجبال والمثلثات.. والتعبيرات الفكرية في النقوش العسيرية، وما كان قد نتج من تحليل، ثم أجرينا تقاطعاً مع العمل التشكيلي المحدث عند (موندريان)، من دون أن نغفل النظر إلى ألوان (موندريان) ومساحاته وإلى الرقش العسيري وألوانه ومساحاته؛ فسوف نجد التقارب كبيراً، بل إننا سنجد الوصف ذاته للعمل التجريدي.
فإن خرج (موندريان) قبل حوالي قرن من الزمن بالتشكيلية المحدثة؛ فإن قصر ألمع التاريخي الذي أصبح حالياً معرضاً دائماً للتراث، يعود تاريخه إلى (400) عام تقريباً.
أما أقدم نقش أبدعته النساء فما يزال موجوداً في قرية (رُجال) الأثرية في رجال ألمع، ويعود تاريخه إلى نحو قرن ونصف القرن، وقبله اندثرت نقوش كثيرة.
التشكيلية المحدثة
إذا نظرنا إلى التشكيلية المحدثة عند (بيت موندريان) في زمنه، وتأملنا الحالة التشكيلية التراثية العسيرية قبل زمنه بكثير؛ لوجدنا أن الفكرة التشكيلية العسيرية تعتمد التكوينات اللونية النابعة من ذهنية تأملية فكرية، تستمد من البيئة تركيبها الفكري، ومن الخطوط والألوان تركيبها الجمالي في مساحات متباينة، وهذا الوصف ينطبق تماماً على أعمال (موندريان).
توصل (موندريان) إلى ريادته بعد جهد ودراسة وتجريب، وحققت رؤاه الجديدة انتشاراً مذهلاً، وتوارث فنان الفطرة في عسير خطوطه وتكويناته الإبداعية التي نشأت بالفطرة واستمرت كذلك لكنْ داخل منطقته.
خلال الفترة نفسها التي عاشها (موندريان) ظهرت مجموعة من المعماريين الذين اتجهوا إلى الأشكال الهندسية باستخدام الصورة المسطحة الملونة ضمن أسلوب يوحي بالمدى والحركة كما في أعمال (كاندانسكي) لتصل الأمور إلى التقسيمات الزخرفية التي نراها في واجهات المنازل وجدرانها الداخلية.
استمر (كاندانسكي) إلى بداية الثلاثينات من القرن العشرين في إدخال عناصر جديدة على شكل إشارات متراكمة عن تداخل الأشكال الهندسية والدوائر والمثلثات والمستطيلات والخطوط، باعثاً الغرب بأعماله إلى التأمل برموز توحي بعالم خيالي، ومثله في ذلك (بول كلي).. وغيرهما.
المترائيات والمرئيات
في النقش العسيري مجموعة من المعطيات التي قادت إلى تطوره الفني. فهو عبارة عن دراسة علاقات تشكيلية تنطلق من المترائيات والمرئيات في الطبيعة والإنسان، إذ يسقط الفنان الفطري رؤاه الذهنية والجمالية على إبداعه باعتماد التعبيرية واستخدام التبسيط والتحوير والتحليل الهندسي والعضوي ضمن تكوينات لونية ترتكز على التركيب البنائي الناجم عن حركة اليد العضوية في رسم الخطوط، ما يجعل المتلقي متواصلاً مع الجماليات المتصلة والمنفصلة حسب الليونة والانسيابية الهندسية، في عالم داخلي يمتزج فيه العقل مع العاطفة، وفيه انفعال ومحاكمة عقلانية مدركة، نحسّ بتركيباته ولا نبصرها، إذ يتجرد من الصنعة ويحتوي المساحة في حركة عضوية تمتلك الحداثة وجماليات العصر، ولا تتخلى عن الجذور. فهي تعطي مدخلاً ثراً للسعي وراء إيجاد تراث فني عربي أصيل يترجم أحاسيس إنسان المنطقة الذي عالج تكوينات لوحته بلغة التعبير، وأطلق الأشكال لتتداخل فيها الكتلة بالفراغ، ضمن أطر فنية تبتعد عن التشخيص وتتجه إلى التأمل وتحويل المساحة الفارغة إلى صرخة تشكيلية واعية.
أشهر الفنانات
تعدّ الراحلة فاطمة علي أبو قحاص الألمعية (1920-2010)، إحدى أبرز اللواتي تعاملن مع فنون (القط)، وقد تعلمتها عن والدتها منذ الطفولة، ثم امتهنت الرسم ليصبح لها مصدراً للعيش. ويقول عنها أهل المنطقة إنها أيام كانت تبدع فنونها تدخل حالة تركيز ذهني مكثف تنقلها عبر تعبيرات لونية على الجدران.
كانت فاطمة تصنع ألوانها بيدها، فاللون الأسود هو مزيج من الفحم والصمغ الأسود. وللأحمر تركيبته الخاصة لديها وهي بالمفردات المحلية (حُسْن + مُر + رز مقلي ومسحوق). أما الأزرق والأخضر فتعمل على تركيبهما من الطلح الأبيض والزرنيخ (الأخضر أو الأزرق)، ومن شعر الماعز تصنع ريشتها التي تشبه فرشاة الرسم.
يقول الكاتب علي مغاوي في إصداره (حاضرة رُجال): إن (المزيّنة) التي تصنع النقش، تبدأ عملها من دون خطة أولية، وتضع معاوناتها الألوان النهائية على العمل. ومن النقوش التي ذكرها نقش البنات، وهو طابع فني يرمز للأنثى، وتكوينه كالشجرة المستندة إلى قاعدة مثلثة وترها أفقي ورأسها إلى الأعلى، وكأنها جبال متراصة، وهذا النوع يعكس العلاقة بين الأنثى والنبات في العطاء.
ومن أشهر (الناقشات) في قرية رُجال ممن ورد ذكرهن في الكتاب: جحاحة بنت بريدي، وهي أشهر من أتقن هذا الفن إلى الآن. وفاطمة بنت أمسباع. وآمنة بنت محمد بن هادي. وشريفة بنت أحمد. وفاطمة علي أبو قحاص، وهي آخر الراحلات من الرائدات.

ذو صلة