مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

ثريا جبران.. أعجوبة المسرح المغربي

لا يصنع اللطف وحده حضوراً، ولم يصنع لطف هذه السيدة حضورها؛ صنعتها قلعتها، أسلحتها، وما صنعت على مدى سنوات. قاسمت نفسها ثلج الأيام، حتى تداري الواقع، لتنطلق من الواقع هذا في رحلة المسرح اللامدفوعة التكاليف. لأن تكاليف العمل في المسرح يدفعها المسرحي في المسرح ببرامجه ومقالاته، لا ألعابه. لم تبلغ واحدة من سيدات المسرح بالعالم العربي حضورها، باسمها الحقيقي. ما يؤكد أن الأسماء لا تصنع المسرحيين، فالمسرحيون هم من يصنعون الأسماء. كما أن الشراكات لا تصنع الأسماء، حتى مع شريك العمر.
بالتفاصيل، أن ثريا جبران عرفت بثريا جبران، لأن اسمها، قبل أن تتعب على نفسها، هو السعدية قريطيف (مواليد 1952). اسم لم يلبث أن نام في أدراج الأيام، بعد أن وجد الجمهور الفتاة النحيلة على مسودتها الحياتية الأخرى، مسودة الاسم الجديد، حضوره، نموه، صعوده، تألق صاحبة الاسم. هكذا، أجلست الاسم الأول على الدكة، كما لو أنه لاعب كرة قدم مرهق. حتى أضحى اسم ثريا مصنوعها ورفيقها على لوحات المسارح، وعند البوابات وعلى الملصقات، لأنه أضحى جلاب جمهور، من ثقة الجمهور بصاحبة الاسم، نما الأخير تحت أشجار كرز مسرحياتها، اسم يحيا واسم يموت. مات الاسم الأول، في حين أن الاسم الآخر لن يموت.
لم تأكل الفتاة النحيلة سمكاً نيئاً ولم تشرب في صحة المسرح، حتى تقف على ميزان المسرح كواحدة من أميراته اللامعات. كدّت على الدوام وراء أبواب الصالات في المغرب وعلى نوافذ المسرح العربي، مع بعض المسرحيات المصهورة بروح الاختلاف. يروى أن ثريا جبران رسمت، بعد أن تخلت عن متاع البيت لصالح متاع المسرح، خطواتها الأولى في هذا الطريق المر، وهي في العاشرة من العمر مع محمد الشناوي، على خشبة المسرح البلدي. يروى أنه انجذب إليها وآمن بها، بعد أن عثر في نبرتها على نبرة سحرية وفي وقوفها التلقائي وكلامها التلقائي، ما لا إخوة له. هذه بداية السيرة الذاتية، على الأرض وهي في الطريق إلى منصة المسرح، الأعلى من كنبات الصالة المسرحية، حيث تقع الصالة مدروزة بالكنبات. يروى، من الجهة الأخرى، أن المخرج الراحل فريد بن مبارك، هو من أخرجها من بئر الهواية إلى فضاء الاحتراف، لتلتحق في العام 1969 بمعهد المسرح الوطني في الرباط. لا شيء يعارض جاري العادة، في الجزء الأول من السيرة الذاتية، سوى أنها لا تبدأ من الخرافة ولا تُقبِّل رأس الواقع قبلة الأمير للضفدعة، بدون أن يحسب بأن قبلته سوى تحول الضفدعة إلى أميرة مشتهاة. كما يقدم المسرحي نفسه والمسرحية نفسها، إذا ما طلب منهما الأمر، بتواضع لا يقبل أن يقف صاحبه وصاحبته، إلا على باب الشمس، لم تجد الفتاة المجدة نفسها، إلا وهي في حرائق غابات المسرح أو غابات حرائق المسرح.
بقيت ثريا جبران على همة معرفة البقية الباقية من سيرتها الذاتية في المسرح، كما لو أنها تندفع في النسيان أمام الجمهور العربي. لأن تجربة المسرح المغربي، تجربة صفيح بارد، من ابتعادها عن أملاح بحر المسارح بالدول العربية. هكذا، لم يعرف الجمهور العربي ثريا جبران، إلا لمَّا وجدها تلعب على منصة الطيب الصديقي في مسرحيتي (ديوان عبد الرحمن المجذوب) و(الإمتاع والمؤانسة). مسرحيتان هشمتا صورة الممثلة الغائبة، لصالح صورة مركبة من قوة امتلاك الممثلة أداءها الراشد فوق خشبة راشدة. مسرح يبحث في صفحات الحضارة العربية الإسلامية وتوظيفات الخط العربي في المسرح هذا. مسرح يقوم على التشكيل بالإخراج على المقامات العربية، حين استيقظ الإخراج على أدوار الحروف العربية حرفاً حرفاً. حرف مقعد وحرف مسند وحرف منصة وحرف بداية قصة وحرف نهاية قصة. بانت جبران في المسرحيتين من خلف الدخان الكثيف الطالع من احتفالية الطيب الصديقي وطقسيته ولطشاته التغريبية، في تجربة أشبه بالقطار الشعري، إذ راح سائقه يقوده بعيداً من سكته، لأنه لا يستطيع أن يسير على سكة مرسومة. لا عفة ولا إجهاض. لا شيء، سوى أن الواقع، على المرويات التاريخية، سوف يتحول إلى واقع سحري. لأن مسرح الصديقي مسرح واقعية سحرية، ستمتد لتمشح بتركيباتها كل العاملين على منصة الصديقي/ الإشكالي.
لم تختفِ ثريا جبران في الملابس العربية، الموظفة بالعرض المسرحي. كما لم تختفِ في حضور الطيب الصديقي، من يمتلك حضوراً يحول الآخرين (على المنصة) إلى أصحاب حضور طارئ لا يخدم أصل المشاع في تجربة الطيب الصديقي. وجدت جبران أكبر من ملابسها، كما لم يحدث مع الآخرين، على منصة لا تهدأ وهي تغني مقاماتها ضد مواقع البؤس الناشطة في المسرح العربي.
بدا الطيب الصديقي كرجل إسعاف حقيقي، لا مزيف، في أروقة مستشفى المسرح المغربي والكثير من المسارح العربية الدائرة إما على الأيديولوجيا أو الترويج للسلطة أو النظام أو إعادة إنتاج السائد، بلا جواب أو سؤال. كما بدا رجل إسعاف للصبية المجهولة هذه، إذ وضع سواره في معصمها.
لم تعرف ثريا جبران ولم يعرف المسرح المغربي بالبلاد العربية إلا مع الطيب الصديقي. لأن المسرح بالمغرب مسرح كُتَّاب أولاً. الطيب العلج وعبدالكريم برشيد، محمد الكغاط، عبدالكبير الخطيبي، عبداللطيف اللعبي، عبدالله زريقة. وغيرهم. أو مسرح ترجمة، أو مسرح يبحث عن المسرح بالآخر لا بالذات ولا بالنفس. وقف المسرح المغربي على بوابة الجنة مع الطيب الصديقي. معه، لم يعد المسرح المغربي مسرحاً ينام رواده باكراً، من مفاجآت وإدهاشات الصديقي من لم تعنه فكرة إنتاج عروض من أجل الإنتاج فقط.
لم يعانِ مسرح الصديقي من الربو، مشى المسرح على قدميه أمام المشاهدين العرب، بدون أن يأكل جزءاً من معنى المسرح الأصلي (لا الأصولي) في المسرحيتين هاتين.هناك، حين شاهد الجمهور (الديوان) (والإمتاع والمؤانسة) في مهرجاني قرطاج ودمشق؛ لم يرَ المشاهد وحدها، إذ لحظ وجود بركان هادئ، تفور صهارته من ممثلة لم تؤدِ أدوارها لا بالعسر ولا بالحضور الأعسر. وحين تبين الأمر، وجد أن هذه الممثلة المبصرة اسمها ثريا جبران، خرجت كالديب من بيت الديب، خرجت كدراسة ناجزة في الطريق إلى علامات المسرح الكبرى، كلمعة من لمعات دلتا فينوس.
غلبت ثريا جبران نوم المسرح المغربي الثقيل، أمام جمهور تجمع من دول عربية بصالة واحدة، كبر حضور جبران لا على العروض الداخلية، من تجربة العرض الخارجي. ما سوف يتعزز في تجربة رغب أبطالها في أن يجروا خلفهم سلالات المسرح إلى المسرح. اقترحت نضال الأشقر، هذه السيدة الكاسرة، على الطيب الصديقي نفسه، زراعة تجربة موحدة بظل حال التشرذم العربي، مع انتشار الأوبئة السياسية في أواخر سبعينات القرن العشرين وبدايات ثمانيناته. أرادت الأشقر أن تقطف العصافير من رؤوس الغابات. هكذا، شربت في صحة بعض الأسماء من دول عربية لم تجمع بينها في تلك المرحلة المتفجرة إلا علاقات البيض بالسود. رفيق علي أحمد من لبنان، محمد القباني ولينا التل وعادل عفانة من المملكة الأردنية الهاشمية، مكيو سكينة من الجزائر، مصطفى سلمان وثريا جبران وعبدالرزاق الصديقي من المغرب، عصام عبجي من سوريا.. وغيرهم. كل واحد من هؤلاء سوف يعرف، بالغريزة والخبرة والدربة، كيف يعدل ياقة قميصه، حتى يبدو تراجيدي الحضور ولا تراجيدي الحضور على المنصة المسرحية. أكثرهم ثريا جبران، لأنها امتلكت حدساً قوياً كحدس العميان. سيدة تعرف كيف تخرج من قطعان السعادة إلى الواقع بأحزانه الطالعة من المناطق الخلفية للحياة والمناطق الأمامية، سواء بسواء. حضور بالكثير من التواضع، حضور كحضور بئر.
لم تبقَ تجربة فرقة الممثلين العرب على جبين العالم العربي، من كثرة الأحاجي السياسية، أحاجي أجلت أو ألغت الكثير من الصداقات بين بلد عربي وعربي آخر. الصداقة في تلك المرحلة، نشاز المرحلة. إلا أن الطيب الصديقي، من أخرج (ألف حكاية وحكاية) قدم ما لم يؤلم الخيال في عمله الجديد، كما منح ثريا جبران فرصة أن تتسلق الفراغات القائمة بين المرأة العربية والمسرح والممثلة العربية وهندسات علاقاتها بالمسرح بعيداً من الحماس غير المفيد أو ترميم الحضور ببعض الإصلاحات. هكذا، وجدت هذه السيدة في مسرحيات الطيب الصديقي غير الخاسرة مسرحيات فرجة، تتمتع بسهولة نادرة في فهم المسرح وفي إعارتها أعصابها لمن يعملون بها.
لم تسقط ثريا جبران بالصدفة في طريق الطيب الصديقي، رآها على الخشبات المسرحية في المغرب، وجدها غير متهورة وغير سمجة ولا تتقافز في هواء المجان. منح الصديقي جبران جلاءها، بعد أن سكنت بالغموض، بالنسبة إلى الجمهور العربي، وهي تلعب بقلب قوي وشجاع على القناعات السائلة، لا الهشة، بالتجربة المغربية. بدت وكأنها خرجت من الرمل، فقط حين شاهدها الجمهور العربي في مسرحيات الصديقي، لأن مسرحياته لا تنتمي إلى القرون السالفة وهي تتمظهر بعيداً من الخداع والكلام، إما بلسان الضحك وإما بلسان الإغراق في الأحزان. الصديقي جسر جبران، فوق أعطاب التجربة المغربية، إلى حضورها اللغوي الجديد. حضور الجسد في اللغة وحضور اللغة بالجسد، بعيداً من الثرثرة الجسدية وتلاوة النص، كما تفعل الدواجن.
إن السيدة على وشك القسوة، ثم في القسوة بعد أن امتلكت حضورها بيديها النحيفتين فوق المنصة العريضة. يروى أنها واجهت جلاجلها في انحيازها إلى البروليتاريا في أعمالها اللاحقة على أعمال الطيب الصديقي. إلا أنها ومهما امتلكت من قوة وسعة خيال ودربة، ما استطاعت أن تخرجها من فضاء فراغاتها العظيمة، إلا حين حملت النادر منها إلى بعض البلدان العربية، حتى تمدها على عيون المشاهدين العرب بعد أن مدتها على عيون المشاهدين المغاربة. لوحت بالكثير من العناوين، من (حكايات بلا حدود) إلى (نركبو الهبال) و(اللجنة) و(والعيطة عليك) و(أيام العز) و(امرأة غاضبة) و(أربع ساعات في شاتيلا).. ومسرحيات أخرى، وقعها جميعها زوجها المخرج عبدالواحد عوزري. ما عدا واحدة وقعها فوزي بن سعيدي (طير الليل).
لم تجد ثريا جبران وجهها مكتملاً إلا في مونودراماتها، وجدت في المونودرامات هذه امتيازها، ووجدت في المسرح امتيازها، كما جاء في كلمتها في رسالة اليوم العربي للمسرح بالعام 2013، بتكليف من الهيئة العربية للمسرح. وجدت جبران المسرحيات الملعوبة في المملكة المغربية، جامدة في خيال المشاهد العربي، كتذكار سيدة مسرح وهي تزاحم الليالي نحو أضواء النهار. (أربع ساعات في شاتيلا) عن نص جان جينيه، الأجمل عند ثريا جبران وفي ريبرتوار (مسرح اليوم)، الشريكة في تأسيسه مع رفيق دربها وزوجها عبدالواحد العوزري، لأنها جرحت غموض النص، بحيث لم تدعه إلا أن يعبر عن علاقتها الشخصية بواحد من الأحداث الفلسطينية/اللبنانية الكبرى، من خلال استعمال حواسها كما لو أنها تستعمل منشاراً. ومن خلال شد النص إلى نوع من الارتجال العظيم، ارتجال لا يمتلكه سوى الشعراء الكبار لا المداحين ولا الكتبة، ارتجال لا يمتلكه إلا أصحاب الأجهزة العصبية المشدودة، ارتجال أقرب إلى الأقواس المشدودة إلى الحدود القصوى. وضعت جبران في النص تاريخها من الألم، لتسمح له بالعبور الواثق من الأطراف إلى القلب، ومن الرائحة إلى الرأس، ومن الصورة المشدودة إلى غيبوبة الأرض، أثناء المذبحة على أيدي جزاري المليشيات اليمينية اللبنانية المتطرفة وجنود وضباط العدو الإسرائيلي. أوقفت جبران التفاصيل كلها على قوس الدقة.
أحبت ثريا جبران محمد الماغوط لأنه سياسي في كتابة نصوصه، أحبت نص جان جينيه، لأنه نص إنساني ضد عولمة القتل. ولأنه سياسي يمنح الحناجر الميتة أصواتها، كما يمنحها حبال أصوات الخيول حتى تسمح للموتى والقتلى والشهداء بالصهيل. اقتبست (البدوي الأحمر) للماغوط في (حكايات بلا حدود)، وجدت أن الصوت مستحيل الوصول بعيداً من العمل السياسي. ولأنها اشتغلت بالسياسة بطرق مباشرة، تعرضت للخطف والتعذيب على أيدي جماعات متطرفة وهي في الطريق إلى واحد من الأستديوهات التلفزيونية لتشارك في (رجل الساعة) البرنامج الحواري الساخن، أيام إدريس البصري، مجرد إرباك في حياة طويلة. هكذا، وجدت الأمر، ليجدها جمهورها وزيرة للثقافة بالمغرب بالعام 2007 في حكومة عباس الفاسي (2000/2009). دهمت التعاويذ حادثة الاعتداء على السيدة اللطيفة هذه، بحيث راوحت بين توجيه رسالة من جهاز من أجهزة السلطة، وبين ما رآه الأصوليون ما يسوق للطروحات المضادة لطروحاتهم، إذ أنها انتسبت إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
لم تتكلم جبران كثيراً عن موضوع الاعتداء، وكأنها وضعت شفرة حلاقة في لسانها. لم تتكلم على مضايقة بعض الوزراء لها، حين وجدوا في إعادة بعض أعمالها على شاشة التلفزيون، نوعاً من أنواع الغش للممارسة السياسية لها. كوزيرة لم تخشَ سوى أن تؤكل عظام الفقراء بعد أن أكلت لحومهم. لم تخنها قطاراتها إلا بعد أن أصيبت بالسرطان، حيث تعاملت مع المرض كما تعرضت مع حادث الاعتداء الغامض عليها، حين واجهت ولم تذعن للفرار. راح جسدها النحيل ينحل أكثر، جسدٌ علم الجدران الصمود وهو يقاوم أحوال الناس الضيقة بإنشاء أو المساهمة في إنشاء جمعيات خيرية لم تسوق إلا لمساعدة الناس. لم يبق منها إلا هيكلها في الأيام الأخيرة من حياتها. لم تدفع جمهورها، وهي تذبل وتموت، إلى الإحساس بأن ثمة بنادق موجهة إلى رأسها. ولم تقرع طبول استدعاء الأهل والأصدقاء والزملاء والرفاق. وحين وجدت مساحة شاغرة عبرت من خلالها بصمت عجيب إلى العالم الآخر، كما لو أنها تخلي صالة مسرح بدافع إجراء اجتماع حزبي أو نقابي.
أحسب أن ما خلفته من صور على المنصات سوف يبقي المسرحيين يتذكرونها كصاحبة حضور نادر، لم يقف يوماً على عكازين، حين أهدى المسرح نوعاً من الحضور الطالع من نبرة شعبية جاورت نبرة ذات ثقل ثقافي.
لن يتبادل أحد العتاب مع ثريا جبران ممّن عملوا معها أو عملت معهم في السينما والإذاعة والتلفزيون والجمعيات الخيرية والسياسيين، لأنها وإن أثارت الجدل حولها كامرأة واقعية على منصة من سحر الحضور، تركت شجرة من الأجوبة المحبة.
ببساطة، لم تختر المرأة هذه النبل، لأنها امرأة نبيلة، امرأة بخصائص بريشتيه. نحيلة نعم، غير أنها بقوة هيلينا فايغل.

ذو صلة