مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

فكرة اللحن.. وفلسفة الذائقـة الموسيقية

التذوق الموسيقي هو بالدرجة الأولى القدرة على الفهم، وليس المقصود به فهم النص المُغنّى أو وضوح الموسيقى فقط، بل يتعدى ذلك حتى يصل إلى الغوص في أفكار الموسيقى والبحث في الدلالات الرمزية والقدرة على تقبّلها وتحليلها، لمعرفة الأسباب التي جعلت الملحن يضع الجملة اللحنية بهذا الشكل، ومدى تأثيرها على المستمع، ومدى قدرتها التعبيرية عن الكلمة ووصفها، وخلق الشعور الملائم المصاحب لها، وهذه الدلالات للأسف بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً مع نمو ظاهرة ضخامة الإنتاج والاستهلاك الجماهيري، فهذه الموسيقى الجماهيرية إنما تُصنع لأسباب استهلاكية ربحية، ونتيجة لذلك اتجهت الأغنية الحديثة للإيقاعات والرتم السريع والوقت المحدود، وقد أسهم هذا التوجه في قتل تلك المساحة التي كان يملؤها الملحن سابقاً في بدايات القرن الماضي وحتى نهاياته، من حيث نسج جمل موسيقية مليئة بالتعبير الموسيقي بعيداً عن التزلف واستفراد العضلات بالتنقل بين المقامات، لاستجداء حالة مصطنعة لا قيمة لها وتنوع موسيقي باهت، فقد كان الملحن يأخذ التلحين بدافع تلحين المعاني الدفينة للنص، وتصوير الدافع والحالة العاطفية للشاعر عند كتابته الجُمل.
على سبيل المثال (رباعيات الخيام) التي شدت بها كوكب الشرق أم كلثوم عام 1949، والرباعيات نوع من الشعر مشهور في الشعر الفارسي، وقد عرف به عمر الخيّام، وهو شاعر فارسي، وعالم في الفَلَك والرياضيات، ولعلها كُتِبَت في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي ما يوافق أعوام 865هـ، ويأتي العنوان من صيغة الجمع للكلمة العربية رباعية، والتي تشير إلى قالب من قوالب الشعر الفارسي، والرباعية مقطوعة شعرية من أربعة أبيات تدور حول موضوع معين، وتكوّن فكرة تامة، وفيها إما أن تتفق قافية الشطرين الأول والثاني مع الرابع، أو تتفق جميع الشطور الأربعة في القافية.
درس الشاعر أحمد رامي شاعر أم كلثوم اللغة الفارسية في جامعة السوربون الفرنسية، حيث كان أحد أسباب رغبته بتعلم اللغة، ما لامس قلبه من شعر الخيَّام وكان مهتماً بالخيام، إذ درس سيرته وحياته الاجتماعية، وما هي إلا أشهر حتى بدأ يترجم الرباعيات عن لغتها الأصلية، لتصدر الطبعة الأولى لترجمته عام 1924 في القاهرة، حيث يقول توحيد رامي، نجل الشاعر أحمد رامي، في مقدمة الطبعة الخامسة والعشرين من ترجمة أبيه لرباعيات الخيَّام:
(ظلت رباعيات الخيَّام غائبة في بطون الكتب، ضائعة في حنايا المكتبات، حتى ترجمها إلى الإنجليزية الشاعر (فتزجرالد) عام 1859، ثم تتالت بعدها الترجمات إلى لغات أجنبية، وقد صدرت باللغة العربية، مترجمة عن الإنجليزية، وشَعَرَ أحمد رامي أن الترجمة من لغةٍ إلى لغة (يقصد الترجمة عن غير اللغة الأصلية) قد تؤدي إلى فقدان بعض من الإحساس والمعاني، ولهذا قرر أن يدرس اللغة الفارسية، ليحس بروح الخيَّام في رباعياته).
هكذا ترجمت شعراً من الفارسية إلى العربية، ويقول ملحنها العبقري رياض السنباطي - كما تطلق عليه السيدة أم كلثوم - عن هذه القصيدة إن فيها فلسفة أكثر من كونها شعراً، وأيضاً لأن الشاعر أحمد رامي زوده بنبذة عن حياة الخيام ليعرف ماهية الخيام وحالته الاجتماعية والاقتصادية، وماهية نظرته للحياة، حتى خرج السنباطي في تلحينه للرباعيات عن مألوف عادته، فقد لحنها على دفعات واستغرق تلحينه لها سنة كاملة، فتارة يلحن رباعية من نصف الديوان وأخرى من أوله ومن ربعه الأخير، هكذا حتى تجمع لديه عدد منها، ثم حمل نفسه وذهب لزيارة أم كلثوم، وهو كان يعلم أن الترابط في معنى الأبيات يحمل لحناً غير موجود، ويطلب منها أن يوجد أحمد رامي ذلك الترابط، ويقول في ذلك: (ذهب النوم من عيني أم كلثوم لتبحث عن رامي في كل الأمكنة عن طريق الهاتف حتى وجدته، وتطلب منه الحضور فوراً، ولم يخرج رامي حتى جعل الرباعيات على تلك الصورة الزاهية من المعاني المترابطة، ويضيف عليها أبياتاً زادتها كمالاً)، ليكمل رياض السنباطي لمساته الأخيرة للحن بالمقدمة الموسيقية الهادئة، والموسيقى المتقطعة على تلك الإيقاعات الوقورة، ليحلق الناي في سماء التصوف والوجدانية بصولو من الرست، وذلك يرمي إلى هدف القصيدة، وهي التفكر والتأمل، لقد وقف الملحنون طويلاً يتأملون ما صنع السنباطي في هذه القصيدة التي فتحت أمامهم آفاقاً مجهولة في التعبير المتوازن بين المضمون الفكري والتعبير اللحني، لقد احتلت هذه القصيدة لسنوات طويلة مكانة خاصة في نفوس المستمعين، وما زالت تستأثر بمشاعرهم حتى اليوم.
إن التذوق الموسيقي أو الذائقة الموسيقية هي مهارة مكتسبة، ويمكنك صناعتها، وينبغي عليك أن تعتاد على السماع، فلا تعتقد أنك ستستشعر كل مكامن الجمال وتتذوقها بمجرد أن تستمع لصوت أم كلثوم أو اللون الطربي الذي تقدمه، إذ لا بد لك من التدرج أيضاً في الألوان الطربية لتصل إلى مرحلة يمكن لك مجاراة هذا اللون الطربي الثقيل، وهذه قاعدة عامة أوردها بالاستناد إلى تجربة شخصية مدعومة بالتأطير النظري، وكما يقول الأديب العالمي طاغور: التذوّق لا يأتي سريعاً، ولكنه يحتاج للصبر والدقة.

ذو صلة