عبْر تاريخه الطويل، يشكّل أدب الرحلات قضية محورية في النزاع القائم على مستويي الإبداع والنقد، ذلك أن جمهور المثقفين قد اختلفوا اختلافاً صريحاً في تصنيفه، أهو أدب؟ أهو تاريخ؟ أو هو نص ثقافي وكفى؟ فكلما حدث تحول في عصر من العصور مس -هذا التحول- جوهر هذا الفن مباشرة، مستجيباً لروح العصر الجديد. ولم يشهد أي عهد الخلاف حول أدب الرحلة، كما شهده حاضرنا، من فرط التحول التكنولوجي والتقني، الذي أربك المنظومة الثقافية عموماً والأدبية على وجه الخصوص.
لا شك أن أدب الرحلات عرف ازدهاراً شاع في الناس، ورمقت فيه أسماء شغلت الناس -أيضاً- ولا تزال: كابن بطوطة، وابن جبير وابن فضلان والعياشي والورثلاني.. إلخ. فكان ذلك الشاهد كافياً على تنميط النص الرحلي الذي أصبح يتجاوز عناوين النصوص الأصلية ويكتفي بنسبة النص لصاحبه، وهذا نسق كافٍ على هذا النموذج الفريد في الثقافة العربية. واستمر هذا النموذج المؤسس، معياراً للنصوص اللاحقة، فاستعصى تقليداً يأبى التنازع على الرغم من طبيعة هذا النص الحربائي، الكائن، الذي يخضع بطبيعته للتكيف مع ظروف تتناسب مع عصره المعاش وتحولاته خصوصاً على مستوى الوسائل (النقل والصورة والكتابة).
فقد كان أدب الرحلات شاشة متنقلة ومنظاراً راصداً للاستكشاف والتعريف بالمجاهيل. بيد أن ما كان يدهش صار مألوفاً في حاضرنا، وما كان غريباً صار حميماً، وما كان غامضاً مبهماً أصبح في المتناول، وما كان بعيداً عاد قريباً. فما جدوى إذن من هذا النص في ظل التطور المذهل الذي فاق التخيّل وصارت الأشياء في كل نقطة من العالم هي التي تسافر إلينا وتدخل بيوتنا دونما عناء منا؟ هل بقي لهذا الفن من مهمة في حياتنا الأدبية؟ كيف نراهن على هذا الفن؟
لعله من وجهة نظرنا أن النصوص النموذجية التي صارت مثالاً في ثقافتنا، هي في حد ذاتها لم تتأسس إلا اعتباراً من تقليد آخر كان كامناً في ذات الإنسان، بغض النظر عن تطور فن الكتابة وإسهامات الجغرافية الوصفية التي كانت حجة عند الدارسين لتطور فن الرحلة، بينما أغلبهم غفلوا عن النموذج الحقيقي، وهو (الإخبار) أو (الخبر) في الثقافة العربية أو الإنسانية جميعاً، فقد كان (الخبر) بمثابة النواة الأصيلة للقصص والمسامرة والطرفة والتشويق، كحصيلة فنية لغنيمة السفر الناجمة عن المغامرات، حيث كانت المكابدة والمخاطرة والأهوال ومراودة الوحوش..إلخ، مصدر الخبر ومادته، فما خان الرجل المسافر قديماً إلا عدمية الكتابة التي لم يعرفها إلا متأخراً في الحفاظ لنا عن ثروة نتائج سفره.
وبعد هذين المحورين المتجليين في طبيعة السفر في إنتاج الثقافة الأدبية عموماً، أو في تنميط الكتابة وإعطائها بعداً ثقافياً من نوع آخر، بات من الطبيعي أن يجرف تيار الحداثة النص التقليدي ويرغمه على تغيير ثوبه بما يتناسب والعصر الجديد، ما جعل هذا الفن في مأزق توجب عليه مراجعة منظومة مفاهيمه المعرفية والإبداعية، ليزيح اللبس عن كاهله.
إن هذا التحول لم يكن وليد التقنية فحسب، وإنما بدأ النص الرحلي يتمرد على التقليد منذ أن عرف النشاط الصحافي سبيله إلى الناس، فقد تيسر الأمر بالنسبة له من حيث أسلوب الكتابة ويسر النشر، ومستجيباً -أيضاً- لضيق المساحة فكان التدوين على مقاسها. وقد كان هذا التحول تمهيداً للتحول الكبير الذي فرضته التقنية، حتى ظن الناس أنه لا أمل يرجى من الرحلة في الحياة المعاصرة.
فهل هي حقيقة ما يدعيه أصحاب الرأي بأن أدب الرحلات قد انحسر بانحسار النشر الورقي، وأن الرصد التقني حل بديلاً؟
إنه متوهم من يميل إلى هذا الرأي أو يدَّعيه، فقد أثبت واقعنا اليوم عكس ذلك بالنظر إلى الرصيد الكبير لمنجز النصي الرحلي، ليدل دلالة قاطعة أن هذا النص، لا يزال في عافية الفتوة، وأبان عن مقدرة في استجابته لطبيعة الكاتب ولطبيعة الكتابة في عصر متحول تماماً. وكل ما في الأمر أن الخلل يكمن في المنظومة النقدية التي لم توله -صراحة- الاهتمام الذي يليق به كنص يتمتع بكامل الخصوصية الأدبية، حيث أجاد معظم الكتّاب في صياغة نموذج جديد يتماشى وروح العصر ويتعارض مع طبيعة النصوص التقليدية، خصوصاً وأن طبيعة الرحلة فرع من الكتابة آنٍ يتماهى مع طبيعة الكتابة الصحافية في الغالب، فهي جديرة بالتواصل بين الحدث الرحلي الذي صار يتكفل بموضوع أو بثيمة محددة يليق مشهدها بطبيعة الصحف وطبيعة آنية الانفعال التسجيلي والوجداني.
ولم يكن التحول الذي عرفه النص الرحلي يخص الشكل فحسب، في حين أن موضوع الرحلة هو الآخر عرف تحولاً جوهرياً، وقد أثبت خلالها أن الجدير في عالم الرحلة ليست المعلومة، ولا الاستكشاف، ولا حتى السبق المعرفي، بل قد اتضح أن عالم الرحلة تجربة ذاتية يعيد كاتبها تجربته الفعلية لسفره عبر خطاب مؤدلج، فالرحالة لا يكتفي بالمعلومة ولم تبق من اهتماماته وإنما يعتبرها مطية لتحقيق أغراض خطابية أخرى، واضعاً في حسبانه طبيعة المتلقي الذي هو أيضاً قد استنكف عن المعلومة المجردة، كما أن الرحالة اليوم لم يعد دليلاً. إن الرحالة راصد مثقف يقف على الأحداث والمشاهد والقضايا موقف الناقد من خلال المقارنات، لأنه لا يسافر بمنظاره بل بثقافته، وزادُه مرجعيته، فالمعلومة المتوافرة في كل المواقع لا تمثل حرارتها إلا حين الوقوف عليها وملامستها، فيحدث مزاوجة بين المكان في فضائه والذات في شعورها. فلو زار مكاناً من الأمكنة مجموعةٌ من الناس في زمن واحد وطُلب منهم أن يكتبوا حوله، لتعدّدت خطاباتهم بعدد الكتاب، والموضوع واحد، ذلك أن الكتابة الرحلية تجربة فردية انطلاقاً من موهبة الرحالة (الكاتب) الخاصة ومكتسباته المعرفية والإبداعية ورؤيته الخاصة للعالم، فلكل منظاره الخاص.
ونشير في الأخير إلى قضية جوهرية في أدب الرحلات، والتي تتمثل في طبيعة الكتابة، حيث ليست هناك شروط ولا قيود ولا ضوابط تمنع من ممارسة هذا الفعل، وهو الأمر الذي زاحم فيه الكاتب العادي، القامات من المبدعين. فبينما لا يتعدى نص الأول أن يكون تقريراً جافاً -في الغالب- قد تتجلى عند الأديب المتمرس المسكون بهواجس السفر، مجموعة مميزات ترشحه عن غيره في تقليد شرف الرحّالة. ومن أهم هذه المميزات: النظام السردي الخاضع لتقنيات تتماهي وطبيعة الحدث الرحلي، من أجل أن يحقّق روحاً قصصية تليق بمستوى الإبداع، مع ضرورة الانفتاح على الأزمنة من خلال النوافذ التي يفرضها خط السير، فهي إحالات على الماضي بالاسترجاع خصوصاً ونحن أمة ماضيها خير من حاضرها، فكل مشهد يستدعي الحنين أو الأسى، فهو مدعاة للاسترجاع، كما أنه من باب الرجاء والأمل والطموح والبحث عن غد أفضل، فعملية الاستشراف تقنية حاضرة بقوة، هذا لأن الأديب شخصية مثقفة ذات اطلاع واسع ورؤية مستقبلية مستشرفة، وبالتالي فالأديب لا يعبث فيما يكتب. وفي الإطار نفسه، فالأديب يحسن صوغ المقارنة بين الأنا الآخر، وبين الهنا والهناك، في كل ما يرصده وهو في ذلك حري بجلد الذات التي لا مناص منها في عصر نحتل فيه آخر الرتب من بين الأمم المتحضرة. ثم إن للرحلة أسلوبها الخاص، الذي يتمثل في الرشاقة والجمال والفكاهة أحياناً.